كاتب وكتاب




المجتمعات العربية المأزومة
وإعاقات الحداثة المركبة





خالد غزال










إلى

عايدة

ريشة المدى وديمة اللون
وما ينثر البحر من رذاذ التذكار



الفهرس


المقدمة


يجمع كتاب "المجتمعات العربية المأزومة واعاقات الحداثة" نصوصا تتصل بمعضلات مزمنة تعاني منها المجتمعات العربية منذ قرون، وهي معضلات لا تزال تمسك بتلابيب الحاضر وتفرض عليه توجهات باتت خارج الزمن. يجمع النصوص خيط سياسي ينطلق من كون هذه المعضلات القديمة-الحديثة انما هي من نتائج انهيار مشروع التحديث العربي الذي انطلق مع قيام دول الاستقلال منذ الخمسينات، والذي وصل الى مأزقه في الستينات خصوصا بعد هزيمة حزيران 1967 وما تلاها من هزائم.
لم تكن هزيمة حزيران هزيمة عسكرية فقط، بمقدار ما كانت هزيمة شاملة لمشروع نهضوي، طالت الجيوش والشعوب والثقافة والفكر والاقتصاد.. واوقعت المجتمعات العربية في نتائج كارثية ودمرت القوى الاجتماعية التي سعت الى قيادة هذا التوجه النهضوي. انعكست هزيمة وانهيارمشروع التحديث على مجمل القضايا التي تمتّ الى الحداثة والتحديث، فتعمقت العقبات امام تحقيق الديمقراطية لصالح انظمة الاستبداد والقمع، وتوسع التقييد على الحريات السياسية والفكرية وحرية الرأي والتعبير، ووضع المثقفون والعاملون في الحقل السياسي المعارض امام خيارات تبدأ من الالتحاق بالنظام السائد، او تتحمل مصيرا يمتد من السجن الى النفي الى الموت.
اعيقت وتجمدت مشاريع التوحيد العربي بعد ان باتت مشاريع الحاق قطر لقطر وممارسة الهيمنة عليه، في ظل غياب الديمقراطية. وشهدت المجتمعات العربية انشدادا الى الماضي وتقديسا للموروثات وغرقا في عالم الخرافات والاساطير. اما على الصعيد الاقتصادي وسائر المسائل المتعلقة بالتنمية، فيسجل الواقع العربي مستويات عليا في التخلف والتقهقر عن مواكبة الحد الادنى من التطور العلمي والتكنولوجي السائد في العالم. هكذا تسجل البطالة والامية وعمالة الاطفال وهجرة الادمغة الى الخارج وغيرها.. مستويات قياسية تكاد تكون الاولى في العالم.
لكن انهيار مشروع التحديث واستعصاء الحداثة في العالم العربي يجد تجلياته الكبرى اليوم في انبعاث الحركات الاصولية الدينية بفكرها المتطرف وبتقديم نفسها جوابا عن المشروع التحديثي القومي العربي والاشتراكي، واعتبار نفسها وسيلة خلاص الشعوب العربية من ازماتها المستطيلة. لا يقرأ صعود الحركات الاصولية بمعزل عن فشل مشروع الحداثة بل وانهياره على مستويات التحرر القومي والتقدم الاجتماعي والتحرر السياسي والنمو الاقتصادي. اوجد هذا الانهيار فراغا فملأته الحركات الاصولية الذي يشكل برنامجها ارتدادا بالمجتمعات العربية الى الماضي، ويتسبب  تنفيذه في حروب اهلية عربية بدأت طلائعها تدق باب هذه المجتمعات.
لا ينفصل ايضا هذا الانهيار في بنى الدولة العربية في كل قطر من اقطارها عن استحالة الحداثة والتحديث، مما يجعل المجتمعات العربية تدفع اليوم اثمانا باهظة في وحدتها وتماسك مقوماتها وسعيها الى تجاوز معضلاتها، وذلك من خلال تفكك الدولة لصالح البنى القبلية والعشائرية والطائفية والاثنية، وهو انبعاث بدأ يترجم نفسه حروبا اهلية ومذهبية ستكون عواقبها وخيمة على شعوب المنطقة العربية باجمعها.
ان ما تطرقت اليه النصوص الواردة في هذا الكتاب لا يشكل سوى نزر يسير من معضلات تواجه المجتمعات العربية في كل مكان. وهي مشكلات تستوجب معالجة اوسع واشمل، خصوصا انها تفرض نفسها على الانسان العربي في كل ساعة وفي كل مكان.
ختاما، اخص بالشكر "ملحق النهار الثقافي" الذي احتضن على صفحاته قسما اساسيا من هذه النصوص وساهم بالتالي في اصدارها ضمن كتاب.
بيروت  في 7/8/2008                               خالد غزال





ثقافة الماضي و إعاقة الديموقراطية العربية

عقبات أمام ثقافة الديموقراطية في العالم العربي

 تثير قضية الديموقراطية ومدى امكان تحققها في العالم العربي الكثير من الاسئلة والنقاش. يوحي المشهد الراهن لحال الانظمة السياسية والاحزاب والمجتمع المدني بحال من الاستعصاء او الاستحالة. وتحذر السلطات الحاكمة من نشر الديموقراطية لما قد  يفضي هذا النشر الى انهيار الدولة والمجتمع، وتتعاطى الثقافة السياسية السائدة مع هذه الديموقراطية في صفتها نبتة استعمارية لا تتوافق مع تراثنا وتقاليدنا، استخدمتها الاحزاب السياسية غطاء استبدلت به ايديولوجيتها السابقة واحلّت مكانها شعاراتها السابقة، فرأت فيها صيغة سحرية قادرة على حل مشكلات العالم العربي المتراكمة. وساهم الغرب في نشر الشكوك حولها في اعتبار ان بنية المجتمعات العربية وطبيعة ثقافتها وتراثها لا تسمح بتحقيق الديموقراطية. لا تنبع هذه التحفظات من فراغ، فهي تضرب بجذورها عميقاً في الداخل العربي. صحيح ان لا خلاص ولا تطور للعالم العربي من دون الطريق الديموقراطي، لكن الديموقراطية ليست تشريعات وقوانين فقط، انها قبل كل شيء ثقافة شاملة. يوحي غياب هذه الثقافة، الى حد بعيد، بسرابية الدعوة الديموقراطية. لذلك يشكل بناء هذه الثقافة في جميع الميادين من دون استثناء شرطاً لاستنهاض العالم العربي.

يمثل الغوص في قراءة المعوقات الداخلية لثقافة الديموقراطية شرطاً ضرورياً في عملية النقد والبناء. ستظل الديموقراطية عملية شعارية في المضمون والمحتوى، ما دام تغييب العوامل البنيوية الداخلية في العالم العربي قائماً وخارج ميدان التشريح والنقد.
بنية المجتمعات العربية
تشكل بنية المجتمعات العربية ودرجة تطورها ابرز المعوقات امام ثقافة الديموقراطية. ورث العالم العربي بنى اجتماعية تعددية شديدة التنوع، تمثل الانتماءات والعصبيات العشائرية والقبلية والعائلية والطائفية والعرقية اساس البنيان السياسي الذي نهضت عليه الدولة وقامت عليها العلاقات الاجتماعية والسياسية. تملك هذه البنى موروثات ثقافية وتقاليد ومفاهيم تعود في جذورها الى مئات السنين. لا تخلو هذه الثقافة من التشديد على هذا الموروث رغم كل ما يحمله من دعوة الى قبول الامر الواقع والطاعة لأولي الامر. سعى مشروع التحديث العربي الى دمج هذه المكونات في اطار الدولة التي هي المجال الوحيد لتحويل الانتماء المحلي انتماء وطنياً، كما أن الانتماء اليها يحرر الفرد من العصبية والطائفية. على امتداد عقود من القرن العشرين، نجحت الدولة العربية، الى حد بعيد، في تكوين مجتمعات عربية، أدى عجزها عن مواجهة التحديات القومية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، مقروناً بالهزائم المتتالية امام المشروع الصهيوني، الى وضع هذه الانجازات على محك الاستمرار. تالياً تسبب هذا العجز في انهيار مشروع التحديث لصالح انبعاث الموروثات الاصلية، اي الطوائف والعشائر والقبائل، على حساب الدولة، وتحولت هذه الموروثات لان تكون ملاذ المواطن. هكذا تسبب انهيار التحديث بارتداد المجتمع العربي الى اشكال من السلطوية المحلية القائمة على هيمنة فردية لا ضابط لها، والى تصاعد عناصر النبذ والتناحر بين هذه المكوّنات، وغياب ثقافة التضامن المشترك والاعتراف بالآخر. سيظل غياب الدولة او اضعافها اخطر النتائج نظراً الى استحالة تحقق الديموقراطية خارج اطارها. يضاف الى ذلك كله وجود معضلة اصلية هي معضلة افتقار الغالبية الساحقة من القوى الحاكمة لشرعيتها. لم تأت هذه السلطات الى الحكم نتيجة عملية ديموقراطية، بل هي ابنة انقلابات عسكرية او ورثة عائلات حاكمة استولت على مقدرات الدولة ومارست حكماً تسلطياً للحفاظ عليها.
انعكس تعثر الدولة سلباً على مؤسسات المجتمع المدني والاحزاب والنقابات التي استطاعت ان تلعب دوراً وان تشكل قنوات محدودة لنشر ثقافة الديموقراطية، وهي تئن اليوم من ضغط الموروثات وانفلاتها. وانبعثت قضية الاقليات وبدت تتخذ حجما ينبىء بأخطار مقبلة. في الاصل كانت الاقليات تعاني نقصاً في الاعتراف بحقوقها وباللامساواة لابنائها مع سائر المواطنين. فليس غريباً ان تزداد هواجسها وهي ترى انفلات العصبيات الأكثرية وتقلص نفوذ الدولة. تلعب هذه الهواجس دوراً مشجعاً لنزعات الاستقلال الذاتي، كما لا تحمي هذه الاقليات من التوجه الى الاستعانة بالخارج طلباً للحماية.
تنتصب قضية المرأة في المجتمع العربي كأحد المعوقات الاساسية في وجه ثقافة الديموقراطية، ويمثل فقدان المساواة السياسية بين الرجل والمرأة احدى المشكلات المركزية لقضية الحريات والديموقراطية وحقوق الانسان في العالم العربي. فالموروثات الثقافية العربية مشبعة بالمفاهيم والمعتقدات التي تسوّغ حرمان المرأة دورها الاجتماعي، وتشرّع التمييز الواسع بينها وبين الرجل. حقق نضال المرأة العربية مكاسب مهمة في كسر هذه المفاهيم واكتساب حقوق واسعة لا تزال في حدها الادنى. انما لا تزال شريحة واسعة من النساء في المجتمعات العربية ترى ضرورة التزام تلك الموروثات والحفاظ عليها، وهو أمر لا يصب في صالح النضال الديموقراطي للمرأة. تتغذى هذه الموروثات من معتقدات دينية تحملها نصوص صريحة في تمييزها لغير صالح المرأة، فتكتسب هذه النصوص قوة قدسية وشرعية تصعب مخالفتها. يرفض الخطاب الديني، في اجزاء واسعة منه، النظر الى قضية المرأة على انها قضية اجتماعية في الاساس، ويرفض في المقابل ان يقرأ النص الديني عبر ارتباطه بظروف تاريخية تغيرت خلال القرون المتتالية من الزمن، وتالياً لم تعد صالحة لعصرنا. يفاقم هذه النظرة تقديم النظام الاجتماعي العربي لنفسه في صيغة ذكورية، فيصعب عليه ان يرى في غياب المساواة بين الرجل والمرأة غياباً لمبدأ المساواة في المجتمع ككل.
درجة التطور الثقافي
تؤشر درجة التطور الثقافي والعلمي الى مدى استعداد البيئة الاجتماعية لتقبل ثقافة الديموقراطية. لا تعتبر الأمية ارضاً مساعدة لهذا الانتشار، ولا يزال العالم العربي يملك اعلى نسبة من الأمية قياساً على مناطق جغرافية اخرى في العالم. تتسع فجوة المعرفة بينه وبين العالم الحديث مسافات شاسعة وتتجلى في مستويات التعليم العالي والابحاث العلمية والتطوير التقني، وفي حجم الانفاق على هذه المجالات.
تفاقم حال الثقافة والمثقفين من هذا الوضع، فعلى امتداد عقود تقلصت استقلالية المجال المعرفي، وتحولت الثقافة سلعة. اثرت الاوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على المثقفين فالحقت اقساماً واسعة منهم بالسلطة الرسمية وبالطوائف والعصبيات والعشائر. أدى تشديد الرقابة على الفكر والخلق، مقترناً بالارهاب، الى هجرة متشعبة لأجيال من حملة الفكر.
تنعكس ازمة الثقافة هذه على الفكر السائد ويرزح العالم العربي تحت وطأة الثقافة الشعبية الموروثة، التي تحمل وجهين، الاول يدعو الى التمرد على الواقع ويحض على العدالة والمساواة، وهو الوجه الأضعف، فيما لا يكف الوجه الآخر عن الدعوة الى التسليم بالامر الواقع والطاعة وصولاً  الى رفض المس بالعادات والتقاليد الموروثة. تصب الثقافة الدينية اجمالاً في اطار الوجه السلبي عبر استحضارها النصوص الدينية والاحاديث النبوية بما يضفي على هذه الثقافة نوعاً من القدسية تؤدي مخالفتها الى عقوبات إلهية.
مقابل ذلك، ظلت الثقافة العقلانية الاضعف في العالم العربي لاسباب متعددة، اجتماعية وعلمية وفكرية. وخلافاً لما حصل في الغرب منذ عصر النهضة وصولاً الى عصر الانوار، لم تشهد المنطقة العربية ما شهدته اوروبا من انقلابات فكرية وثورة نقدية وعلمية على السائد من المفاهيم والافكار. ما حصل في العالم العربي ظل محدوداً وخصوصاً في النصف الاول من القرن العشرين، ليعود فينتكس لاحقاً ويتراجع تحت ضغط الموروث القوي السائد. لذلك تشكل غلبة الفكر  الغيبي وضعف الفكر العقلاني عقبة كأداء امام اعتناق مفاهيم الديموقراطية في الحرية والمساواة والعدالة.
كان يمكن لثورة الاتصالات والتكنولوجيا في مجال الاعلام ان تسد فجوة وتساهم في نشر ثقافة الديموقراطية، لكن غالبيتها تخضع لمنطق الاستهلاك الغربي ولاسيما الاميركي منه، وتفتح محطاتها التلفزيونية لفتاوى رجال الدين وللبرامج الدينية، وتهمش ما يتعلق بالفكر العلمي والعقلاني.
انظمة الاستبداد السياسي
لم تصل السلطات الحاكمة الى الحكم وفق آلية ديموقراطية، فقد ورثت تراثاً من الاستبداد الشرقي العثماني وطورت وسائله وأعطت هذا الاستبداد وظيفة وطنية وقومية تهدف الى الحفاظ على الأمة وتمنع الانقسامات بين ابنائها. عززت نظريتها حول الديموقراطية وشددت على انها وسيلة لاثارة النزاعات والتفرقة بين ابناء البلد وعامل من عوامل هدم بنيان الدولة. زرعت الخوف بين ابناء الوطن ومارست أبشع انواع الارهاب وملأت السجون بالمعارضين بعدما قتلت وشردت الكثيرين منهم. اقنعت الشعب بأنها تحكم لتأدية رسالة مقدسة تستوجب من هذا الشعب الخضوع والطاعة. وظفت ثروات النفط في خدمة مصالحها بعدما اعتبرتها ملكاً وهبها الله لها. حولت هزائمها العسكرية مصدر تسلط متزايد بدل ان تدفعها هذه الهزائم الى ترك السلطة. تستحضر بشكل دائم مقولة المؤامرة على البلاد لتمنع أي تغيير او اصلاح.
هذه الترسانة من المفاهيم تضع صعوبات غير قليلة امام اختراق ثقافة الديموقراطية لبنيانها. يزيد من الصعوبة ارتكاز هذه الديكتاتوريات على العصبيات الدينية والقبلية بما يجعل من التغيير مشروعاً لحروب اهلية. تبدو العقبة اكبر عندما نرى كيف ان هذه الحقبة المديدة من الديكتاتورية جعلت قسماً واسعاً من النخب والقوى المعارضة تألف سياسة الاستبداد هذه، وتم اضفاء نوع من الايمان الخرافي والاعتقاد اللاهوتي القائم على القبول بالامر الواقع، فأكسب الاستبداد كل شرعيته.
الايديولوجيات المهيمنة
يشكل اختراق الترسانة الايديولوجية المهيمنة على الفكر السياسي العربي اصعب المهام التي سيكون على ثقافة الديموقراطية مواجهتها. تتكون هذه الترسانة من اربعة محاور: الفكر القومي، الفكر الديني، الفكر الاشتراكي والفكر الليبيرالي.
هيمن الفكر القومي لعقود، ولا يزال، على المستويين السياسي والايديولوجي، وحكمت مفاهيمه مجمل السياسات العربية من دون استثناء. يشكل نقد المفاهيم التي ارتكز عليها الفكر القومي، نظرية وممارسة، شرطاً لا بد منه لتأصيل فكر ديموقراطي في العالم العربي. تمحور هذا الفكر على قضايا كان ابرزها الوحدة العربية والعروبة.
ساد شعار الوحدة العربية جواباً عن تجزئة الكيانات العربية على يد الاستعمار، وسبيلاً لاستنهاض العالم العربي واستعادة حقوقه القومية. افترض الفكر القومي أمة عربية ناجزة قابلة للاندماج، بصرف النظر عن بنية المجتمعات العربية وتنوعها وتناقضاتها وطبيعة الانظمة السياسية فيها، فنجم عن تطبيق شعار الوحدة العربية وحدات قسرية والحاق او اجتياح عسكري، تحولت الى استبداد بلد على آخر والى صيغ اشبه باستعمار بلد لآخر. يطرح فشل هذه الوحدات ضرورة اعادة انتاج ثقافة الوحدة العربية. فالوحدة ستظل الأمل الحقيقي في نهضة الشعوب العربية، لكنها تشترط استكمال التوحيد القطري الداخلي لكل بلد عربي على اساس من العلاقات الديموقراطية تحقق حداً من التجانس الاجتماعي. كما تشترط سيادة العلاقات الديموقراطية بين البلدان العربية بحيث تأتي هذه الوحدة خياراً طوعياً للشعوب.
تحتاج العروبة الى تجديد جذري في ثقافتها، بعدما شكلت الغطاء النظري للوحدة العربية، في صفتها الهوية الجامعة التي تؤطر المجتمعات العربية. لكن السياسات العروبية في التطبيق ترجمت حروباً اهلية داخل كل بلد عربي وبين البلدان العربية نفسها. تفرض "هزيمة العروبة" اعادة بناء ثقافتها بما هي رابطة وطنية تقوم بمهمة شد ابناء كل بلد عربي بعضهم الى البعض الآخر، وبما يؤدي ترسيخها الى عامل اساسي في تحقيق التجانس الاجتماعي وانجاز الوحدة الداخلية. لكي تقوم العروبة بهذا الدور، عليها ان تتحول اطاراً جامعاً لحالات سياسية واجتماعية خاصة يتكون منها كل بلد عربي، بما يسمح لهذه الحالات ان تتطور وتزدهر عبر طريق ديموقراطي يعترف بحقوق كل منها. ينبع هذا التشديد على رابطة العروبة وديموقراطيتها جواباً عن الانبعاث المتجدد لمكونات ما قبل الدولة التي تهدد بأخطار لا حدود لها.
اتسم الفكر القومي بنوع من العنصرية والشوفينية في علاقته بالاقليات في العالم العربي. مارس هذا الفكر في التطبيق سياسة قمع ورفض الاعتراف بالهوية المحلية والحقوق السياسية والمشاركة في السلطة ضد هذه الاقليات. أورث غياب الديموقراطية في العلاقة مع الاقليات معضلات بنيوية ومشكلات ترخي بثقلها راهناً على مجمل بنى الوضع العربي.
يحتاج الفكر القومي ايضاً الى اعادة النظر في نظرية المؤامرة، كمقولة تُرمى في وجه الدعوات الى التغيير والاصلاح. كما يحتاج الى قراءة هزائمه في وجه اسرائيل في صفتها هزائم المجتمعات العربية، سياسياً وفكرياً وعسكرياً.
 تواجه ثقافة الديموقراطية منظومة التراث والفكر الديني المتأصلة في بنية المجتمعات العربية ووجدان شعوبها. تتغذى هذه المنظومة الدينية من تاريخ عريق لا يقتصر على التاريخ الاسلامي بل يضرب عميقاً في المسيحية واليهودية. تتفاوت المفاهيم الدينية في تطرفها واعتدالها، لكنها تحتفظ جميعها بقواسم مشتركة. فالاسلام هو الدين الصحيح الذي يحوي في جوهره حلولا لمشكلات الانسان والدولة والمجتمع. ويترتب على فكرة التوحيد الإلهي عبودية لله وحده، مما يعني في نظر اصحاب هذه الرؤيا، القول بكون التعددية وحق الاختلاف وقبول الآخر قضايا قد تشكل  خطراً على دين يقوم على التوحيد الشامل ووحدة الأمة.
تمتد بعض هذه المفاهيم لتناقش في حقوق الانسان فتعتبرها صادرة عن حقوق الله. لذا تعتبر المادة 18 من الاعلان العالمي لحقوق الانسان التي تنص على حق كل فرد في حرية الفكر والديانة هرطقة. تتخذ هذه المفاهيم موقفاً سلبياً من الافكار الديموقراطية الخاصة بسيادة الشعب والبرلمانات والمساواة بين المؤمنين وغير المؤمنين، والمساواة بين الرجل والمرأة، والتعددية السياسية وحكم الغالبية. تصل هذه الآراء لتحدد دور الدولة والفرد والمجتمع بما هو دور يقوم على خدمة الشريعة والدين، وذلك خلافاً للمبدأ الديموقراطي الاساسي القائل بأن الدولة وتشريعاتها في خدمة المواطن.
يحوي هذا التراث الديني رؤى للعالم مضادة للعقلانية والعلمانية ومفاهيم الحداثة، يصل بعضها الى رفض دور الانسان والعقل في صناعة التاريخ وحصره في الدور الإلهي. ترى في الديموقراطية جزءاً من مشروع السيطرة الاستعمارية الغربية على الحضارة العربية، لذا هي نظام الكفر المرتبط بالقهر والفساد الاخلاقي.
احتل الفكر الاشتراكي حيزاً واسعاً في منظومة الثقافة والافكار في العالم العربي. تنوع هذا الفكر من الاشتراكية المستندة الى الماركسية وصولاً الى "اشتراكية عربية خاصة". شكلت مفاهيم ديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية الشعبية والديموقراطية الاشتراكية ومقولة اولوية التقدم الاجتماعي الاقتصادي على السياسي، غطاء للاحزاب الحاكمة وغير الحاكمة غيبت عبرها قضايا الديموقراطية والحريات السياسية والفكرية. كما شكلت النظرية القائلة بزيف الديموقراطية السياسية وكونها حيلة بورجوازية تستخدمها هذه الطبقة لاجهاض نضال الطبقة العاملة، اخطر الاسلحة النظرية التي قالت بها الاشتراكية. اكمل المنطق التنظيمي القائم على المركزية الديموقراطية حلقة الاغلاق على التعددية والاختلاف، فصادر الحزب الآراء والافكار وأبعد من صفوفه المخالفين لخطابه السياسي والايديولوجي. أدى فشل الانظمة العربية "الاشتراكية" ومعها انهيار المعسكر الاشتراكي الى خلخلة هذه المفاهيم وهزيمتها. استبدلت الاحزاب "الاشتراكية" مقولاتها الاصلية بشعار الديموقراطية، ولم يترافق هذا الاستبدال مع مراجعة نقدية لمقولات الفكر الاشتراكي في النظرية والممارسة. سيكون على ثقافة الديموقراطية القيام بمهمة هذا النقد كأحد الشروط الممهدة للسبيل الديموقراطي.
يبقى اخيراً قول كلمة في حدود الليبيرالية في العالم العربي وهل شكلت، او تشكل راهناً، تياراً ثقافياً وسياسياً فاعلاً. تأثر العالم العربي في مرحلة النضال ضد الاستعمار بالافكار الليبيرالية الداعية الى الحرية الفردية، والسياسية والاقتصادية والفكرية والدينية. وبشرت بوجوب خضوع المواطن لسلطة القانون والى اعتماد الاصول البرلمانية ونشر القيم العلمانية وحرية الصحافة والاقتصاد الحر. لم يتح لليبيرالية ان تتسلم السلطة في العالم العربي لتختبر مفاهيمها وتضعها موضع التطبيق، وظلت قواها تعاني الالتباس والشكوك من علاقتها مع القوى الاستعمارية المهيمنة قبل الخمسينات من القرن الماضي.
تلقت الافكار الليبيرالية الوليدة ضربة قاصمة في النصف الثاني من القرن العشرين عندما استولت الراديكاليات العروبية على السلطة في عدد من بلدان العالم العربي. كما تلقت مفاهيمها ضربة اخرى بعد الانتشار الواسع للفكر الاجتماعي الداعي الى تحقيق الاشتراكية وإن على حساب الحريات السياسية. وعندما أُتيح لليبيرالية الاقتصادية ان تأخذ دورها في ظل سياسات الانفتاح الاقتصادي، تكشف ان هذا الدور لا يتعارض مع الاستبداد السياسي، بل بدا احياناً كثيرة انه يحتاج الى هذا الاستبداد ليجعل قوانينه الاقتصادية نافذة. من هنا سيكون على ثقافة الديموقراطية ايضاً ان تقوم بنقد هذا الفكر الليبيرالي انطلاقاً من مقولات الحرية والتعددية والمساواة.
درجة التطور الاقتصادي
تؤثر درجة التطور الاقتصادي على المدى الذي يمكن فيه الثقافة الديموقراطية ان تخترق الطبقات والفئات الاجتماعية. يملك العالم العربي ثروات هائلة قابلة لرفع مستوى شعوب المنطقة اذا وظفت في المكان المناسب لذلك. تضع التقارير الاقتصادية العربية والدولية العالم العربي في مصاف البلدان الفقيرة. تعاني المنطقة، ببلدانها الغنية والفقيرة على السواء، من حجم الفقراء الذين يعيشون تحت مستوى خط الفقر. يزداد عدد العاطلين عن العمل عاماً بعد عام ويسجل معدل البطالة نسبة 10 في المئة من عدد السكان. وتؤكد التقارير انه في حلول عام 2010 سيتوجب خلق فرص عمل لحوالى خمسين مليون ملتحق جديد بقوة العمل. اما توزيع الدخل فيتسم باللامساواة، ويصل التفاوت الاجتماعي الى مرحلة عالية بين الطبقات الاجتماعية. ينجم عن ذلك ازمات اجتماعية مفتوحة واحباط مرتفع. لا تساعد هذه البيئة في نمو الديموقراطية، فالثقافة التي تزدهر في ظل الفقر هي ثقافة الغيبيات واليأس والاستسلام، مما يمهد الطريق لازدهار الفاشية والديكتاتورية سبيلاً للخلاص. كما يساعد مناخ الفقر في  غلبة الثقافة الاصولية ومعها برنامجها الاجتماعي ايضاً، وهي أمور تعقّد من مهمة نشر ثقافة الديموقراطية واقناع هذا الجمهور اليائس بمفاهيمها في صفتها طريق الاستنهاض وتجاوز هذا الواقع.
يفاقم واقع الطبقتين البورجوازية والوسطى من هذه الحال. فخلافاً لما عرفته اوروبا من ترافق النضال من اجل الديموقراطية مع صعود طبقة بورجوازية قادت هذا النضال ضد الاستبداد، انتهت بورجوازيات العالم العربي الى عقد صفقات مع السلطات الحاكمة، ونظمت شراكة تحصل بموجبها على الاحتكارات والامتيازات، وشاركت اهل الحكم في الافادة من الموارد العامة. لا يؤدي هذا التحالف الى اعتبار معركة الديموقراطية قضية تهمّ هذه البورجوازية. اما الطبقات الوسطى التي شكلت قاعدة اساسية في النضال من اجل الديموقراطية، فقد طحنتها الازمات الاجتماعية والمعيشية وارتدت بها الى مواقع الفئات الفقيرة، بحيث بات تأمين لقمة العيش همها الاول، وهو ما اضطر اقساماً واسعة منها الى الاعتماد على الدولة او الهجرة خارج ارض الوطن.
تساعد هذه الاوضاع في استشراء الفساد. تشجع السلطات الحاكمة ومعها المتسلطون على موارد الدولة من انتشاره. يقف هذا الفساد سداً في وجه ثقافة الديموقراطية التي تعتمد الرقابة والشفافية وسيادة القانون والعدالة. هذا اضافة الى الآثار الاخلاقية والى تعزيز الولاءات الخاصة على حساب الدولة.
المشروع الاستعماري الصهيوني
شكل مشروع السيطرة الخارجية، الاستعماري والصهيوني، عنصراً حاسماً في اعاقة الديموقراطية وانتشار ثقافتها في العالم العربي. فالمشروع الصهيوني القائم على طرد الشعب الفلسطيني والاستيطان والقتل اليومي ومنع تكوين المؤسسات السياسية والمدنية للشعب الفلسطيني، معطوفة على الحروب التي شنتها ضد الدول العربية على امتداد نصف قرن، هذا المشروع اثر سلباً على مجمل تطور البلدان العربية. اما المشروع الاستعماري الفرنسي البريطاني الاميركي على امتداد القرن العشرين، فقد هدف الى السيطرة على المنطقة العربية وعلى مواردها الطبيعية لاسيما النفط. توسل المشروع الاستعماري اقامة انظمة ديكتاتورية عسكرية ودعمها، وعزز ايضاً من السلطات القائمة على بنى عشائرية وقبلية، كوسيلة لفرض نفوذه.
لم يكن نشر الديموقراطية هدفاً من اهداف المشروع الاستعماري الصهيوني في يوم من الايام. تشكل الادعاءات الاميركية الراهنة حول هدفها في تحقيق الديموقراطية في العالم العربي اكبر الاعاقات في وجه المسار الديموقراطي. لم يعرف التاريخ منذ اليونان حتى اليوم نظرية تقول بفرض الديموقراطية من الخارج بواسطة القهر والاحتلال والقوة.
ويزداد الامر سوءاً عندما تتجه هذه الخطة وجهة السعي الى تفكيك الكيانات العربية الهشة اصلاً، حيث يشكل انهيار الدولة عنصراً مانعاً لتحقق الديموقراطية. بل سيكون مآل هذه الخطة تفجر حروب اهلية تطيح العلاقات السلمية بين مكوّنات الدولة او بين الدول نفسها.
أدت الخطة الاستعمارية الصهيونية الى انبعاث موروثات العداء تجاه الغرب. وهي موروثات تشكك في الاصل في مفاهيم الحداثة الغربية المتصلة بالديموقراطية والمساواة وحقوق الانسان. بات من الصعب التمييز بين حضارة الغرب وحداثته التي لا مفر من التفاعل معها والافادة من نتائجها، وبين الاهداف الاستعمارية للهيمنة على المنطقة.
كما عززت هذه الخطة نظريات العنف في صفته الوسيلة الوحيدة لمواجهة هذه الخطة. يدل على ذلك ما تشهده الساحات العربية من فلسطين الى العراق. كما تشكل هذه الخطة عنصراً اساسياً في هذا الارهاب المتصاعد في المنطقة. واذا كان الطريق الديموقراطي الممر الذي ينقل العالم العربي من التخلف الى الحداثة، فإن الخطة الاستعمارية الصهيونية ليست في وارد تسهيل الوصول اليه.
لم يكن الهدف من عرض المعوقات المنتصبة في وجه ثقافة الديموقراطية ان تصل الى القول باستحالة تحقق الديموقراطية في العالم العربي. ان ضخامة الصعوبات تؤشر الى ضخامة التحديات والى الموجبات التي تتطلبها ثقافة تخالف السائد. لا تعتبر الشعوب العربية قاصرة عن ولوج الطريق الديموقراطي، لكنها لن تتعرف عليه الا عبر الانخراط في صراع طويل في سبيل الديموقراطية.
ثــــقـــافــــــة الـعــــــنــــف الاصـــــولــي
تمثل الاصولية الاسلامية في العالم العربي راهناً ابرز الظواهر الشعبية واكثرها انتشارا، وقد تصاعدت قوتها خلال العقود الماضية، سياسياً وعسكرياً وثقافياً، وتجاوزت مفاعيل نشاطها العالم العربي لتصل الى القارات كلها، زارعة الرعب والارهاب والعنف. انشغل العالم في البحث عن عوامل صعودها، وادى ارتباطها واسمها بالاسلام الى سجال حول الدين الاسلامي نفسه وصلته بتشجيع العنف والارهاب، وتحوّل النقاش في هذا الميدان نقاشاً حول صراع الايديولوجيات والحضارات.
ان الاسباب والعوامل التي ادت الى انبعاث الاصولية وازدهارها تجب رؤيتها اولاً وقبل كل شيء داخل المجتمعات العربية نفسها، من انظمة سياسية وثقافة وتراث ودين. في ضوء ما تعانيه المجتمعات العربية، يمكن رؤية العلاقة الحميمة بين الانهيار المجتمعي العربي وولادة الاصوليات.
لم تكن الاصولية الاسلامية مشروعاً صاعداً قبل نصف قرن عندما حلت انظمة الاستقلال الوطني العربية مكان الاستعمار الفرنسي والبريطاني. دقت هذه الانظمة آنذاك باب التحديث وبناء الدولة العربية، واتخذ برنامج النخب الصاعدة حول النهوض العام عناوين متعددة: التحرر من الاستعمارين القديم والحديث، تحقيق التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي والديموقراطية، استكمال مهمات التحرر القومي العربي ولاسيما مواجهة المشروع الصهيوني واستعادة فلسطين، واخيراً انجاز مهمة الوحدة العربية في صفتها امل الشعوب العربية وتتويجاً لنهضتها.
دعمت هذا البرنامج الغالبية الساحقة من القوى الاجتماعية فقادت النخب الحاكمة عملية بناء الدولة. وسعت الى تحقيق بنود البرنامج النهضوي الشامل واستطاعت ان تنجز الكثير على صعيد بناء مؤسسات التعليم والتقديمات الاجتماعية والنمو الاقتصادي ودقت أبواب محاولات الوحدة العربية، وعلى امتداد عقود كان برنامج هذه النخب يتكشف عن محدوديته وعجزه عن استكمال هذا البرنامج الذي شكل الاساس الايديولوجي والسياسي لسلطتها. شكلت هزيمة حزيران 1967 ضربة قاصمة لهذه النخب وكشفت عجزها في جميع الميادين اذ تجاوزت الجانب العسكري لتبرز انها هزيمة للمجتمع العربي برمته. منذ حزيران 1967 تسير المجتمعات العربية في مسار انحداري لا يزال يمسك بتلابيبها ويرتد بها قروناً الى الخلف.
تكشّف برنامج حركة التحرر الوطني في مجال بناء الدولة وتوحيد المجتمع عن فشل مريع. من المعروف ان غالبية المجتمعات العربية تقوم على اسس عشائرية وقبلية وطائفية وعرقية واتنية. ان المسار غير الديموقراطي الذي سلكه بناء الدولة وتسلط اقليات على اكثريات لم يؤد الى تجانس اجتماعي بين هذه المكونات. يدل على هذا الحكم، ما تشهده المجتمعات العربية ودولها من انبعاث لمكوّنات ما قبل الدولة والتحول الشعبي الواسع نحوها ملجأ وملاذاً بديلا من الدولة نفسها. في هذا المعنى يمكن القول ان الحصيلة العامة للمشروع القومي على صعيد توحيد المجتمع والدولة، كانت فشلاً تدفع ثمنه هذه المجتمعات عمقاً في انقساماتها الاهلية.
على صعيد النهوض الاقتصادي والتنمية الاقتصادية، ومن دون اعدام ما تحقق من انجازات، أتت النتائج مخيبة، فالمنطقة العربية هي من أكثر المناطق تخلفاًًَ في العالم، ومستوى النمو الاقتصادي لا يتناسب مطلقاً مع ما تمتلكه من ثروات ومصادر دخل، وخصوصا في ضوء اعداد الفقراء واحجام البطالة. عجزت عن مواجهة الانفجار الديموغرافي وايجاد الحلول الاقتصادية والاجتماعية لاستيعابه. اهدرت ثرواتها النفطية في مجالات لا علاقة لها بالنمو. اما على الصعد الاجتماعية والتعليمية والثقافية، فان تقارير التنمية الانسانية التي اصدرتها الامم المتحدة تظهر حجم الامية الذي يعتبر الأضخم في العالم، كما تبرز المفارقة الهائلة في ضعف المستوى الثقافي العام اضافة الى الفجوة المريعة في اللحاق بركب التطور التكنولوجي والعلمي، في الميدان الاجتماعي تسجل المجتمعات العربية ازدياداً في الهوة الطبقية بين الاغنياء والفقراء، والمزيد ايضا في مسار انهيار الطبقات الوسطى. اما على صعيد الوعود بتحقيق الديموقراطية، فقد تفوقت النخب الحاكمة في تحويل انظمتها انظمة للاستبداد السياسي، صادرت الحريات ومنعت التعبير الحر والمستقل وقمعت المعارضة وزجت بها في السجون او مارست في حقها الاعدام او النفي. كرست قوانين التمييز ضد المرأة وصادرت مؤسسات المجتمع الاهلي والمدني واخضعتها لرقابتها. انتهكت القوانين الخاصة بحقوق الانسان والعدالة والمساواة بين المواطنين. 
اما على صعيد التحرر القومي ومواجهة العدو الصهيوني، فالحصيلة جاءت فاجعة. لم تستطع استعادة فلسطين بل أدت هزائمها امام اسرائيل الى خسارة المزيد من الأرض داخل فلسطين وخارجها، والى اتفاقات وتنازلات مع اسرائيل غير قابلة لأن تحقق السلام. الاخطر في هذا المجال اقتحام المشروع الصهيوني للمنطقة العربية ديبلوماسياً وسياسيا واقتصاديا من دون روادع وفي ظل غياب قوى الاعتراض القادرة على وقف اندفاعته. واخيرا، تشكل عودة الاستعمار العسكري المباشر الى المنطقة العربية ابلغ دليل على فشل المشروع القومي العربي.
الرحم والمخاض
هكذا يقف العالم العربي منذ عقود امام انفكاك للدولة فيه، وانبعاث مكونات ما قبل الحداثة والعجز عن استجابة آمال الشعوب العربية في جميع الميادين. من رحم هذا المخاض ولدت الاصولية وترعرعت بعدما قدمت نفسها برنامجاً بديلاً للنهوض الوطني والقومي. ان الاحباط واليأس اللذين اصيبت بهما المجتمعات العربية دفعا فئات واسعة الى البحث عن الخلاص. مثّل الدين خشبة هذا الخلاص الموعود. ليست المجتمعات العربية فريدة في بابها من حيث انفكاك نخبها وشعوبها عن منطق العقلانية خلال الهزائم. فالهزائم اقصر الممرات للوقوع في احضان الفكر الغيبي واللاعقلاني. الاصولية افضل تعبير عن ترجمة آثار هذه الهزائم.
الحركة الاصولية الاسلامية هي الابنة الشرعية لهزيمة مشروع حركة التحرر الوطني العربية ولأنظمة الاستبداد السياسي التي قادته. قدمت هذه الاصولية مشروعها البديل في المجتمع والسياسة والدين والثقافة ومواجهة العدو. اذا كان من الواجب الاعتراف بشرعية هذه الاصولية وبرفض كل منطق يحاول اعتبارها غرسة خارجية، فان هذا لا يمنع من اصدار حكم على مشروعها ينفي عنه امكان تقديم الخلاص الذي ترجوه الشعوب العربية. المشروع الاصولي هو مشروع المزيد من الارتداد بالمجتمعات العربية الى الوراء، واستكمال انهيار ما تبقى من مقومات الدولة، والسير بالمجتمعات العربية نحو مزيد من الانقسام وامكان تحول هذه الانقسامات حروباًَ أهلية تعجز الشعوب العربية بعدها عن النهوض والتطور لعقود. واذا كانت الأصولية تمثل اليوم حركة شعبوية كاسحة في العالم العربي، فان برنامجها وخطابها يعدان بالخراب والانهيار والاحباط المتجدد.
تسود علاقة مركبة ومعقدة بين الاصولية والنظام العربي. انها علاقة تناحرية من جهة، وتوافقية وتبادلية من جهة اخرى. يتجلى ذلك في النظر الى بعض القضايا المفهومية والعملية المشتركة لكلا الطرفين. يشكل الموقف من الديموقراطية واستخدام العنف احد الميادين التي تبرز فيها هذه العلاقة. اتسم سلوك النظام العربي بالاستبداد السياسي وقمع الحركات المعارضة والاستئثار بالسلطة ومنع تداولها. مارس هذا النظام ابشع انواع الاضطهاد لشعوبه، قتلا ونفيا واقتلاعا للقوى الديموقراطية على امتداد سنوات حكمه. نجح في الحد من انتشار الثقافة الديموقراطية والعقلانية، وقمع مثقفيها او دجّنهم داخل مؤسساته، وافسح المجال واسعاً للفكر الغيبي وتمجيد الاسطورة والخرافات. مهد النظام العربي الارض للبديل الاصولي. استخدم النظام الحركة الاصولية واستعان بها ضد الحركة الديموقراطية والشعبية المناهضة لسياسته. استحصل من المؤسسات الدينية الرسمية على فتاوى للصلح مع اسرائيل ولانخراط الجيوش العربية تحت القيادة الاميركية اثناء حرب الخليج عام 1991. قدم لها التسهيلات في اطلاق حركة احزابها وتنظيماتها السياسية ونشر فكرها السياسي وخطابها الديني. لم تمنع هذه التسهيلات والتقديمات من ان ينظر النظام والاصولية احدهما الى الآخر نظرة العداء، وان يضمر كل منهما نية الانقضاض على مواقع الطرف الآخر.
اذا كان النظام العربي يرى في الديموقراطية وتداول السلطة خطرا يهدد امتيازاته، فان الاصولية تحمل موقفا اشد عداء للديموقراطية وتسنده بأسانيد ايديولوجية. المشروع الاصولي المتصف بالشمولية مشروع توتاليتاري لا مكان فيه لغير اصحابه ولا اعتراف بشرعية معارضيه. الاصطفائية التي ينطلق منها والرسولية الهادفة الى اعادة الزمن القديم، تمنعان قوى التحديث من التعايش مع مقولاته وتعجزان عن تحمل ممارساته. تؤيد الاصولية الديموقراطية ما دامت تشكل لها وسيلة تتمكن بواسطتها من تسلم السلطة. عندما يتحقق هذا الهدف فان مبادىء الاصولية في الحكم هي السائدة وحدها. لا يخفي قادة الحركات الاصولية جهرهم بهذا المنطق، اعلنوه في الجزائر في التسعينات عندما دقت "جبهة الانقاذ" باب السلطة عبر الانتخابات النيابية، واعلنه قادة آخرون في مصر والسودان.
يتبدى العنف نتيجة حتمية ومنطقية لموقف النظام العربي والحركة الاصولية من قضية الديموقراطية باسم الحفاظ على وحدة الشعب، ومن اجل تحقيق التقدم الاجتماعي والاقتصادي، وتحت شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ضد الاستعمار والصهيونية" مورست ابشع انواع العنف ضد الشعوب العربية وقوى الاعتراض الديموقراطي والاصولي على السواء. في معركته ضد الاصولية، غلّب النظام العربي العنف العاري. منع في المقابل القوى الديموقراطية العقلانية والعلمانية من التصدي للمقولات الايديولوجية والفكرية والثقافية التي تشكل عماد الخطاب الاصولي. ان موقف النظام المصري خلال الهجوم الضاري للاصولية على نصر حامد ابو زيد وتسهيله انتصار الاصولية في هذه المعركة، يكشف العلاقة الانتهازية التي تربط النظام بالاصولية. لم تؤد حصيلة سياسة العنف ضد الاصولية الى اضعافها، بل زادتها قوة واكسبتها شعبية مضاعفة.
في مواجهة عنف النظام العاري، يستند عنف الاصولية الى ترسانة ايديولوجية وتفسيرات دينية واحكام فقهية لا حدود لها. يشكل استحضار التراث الاسلامي منذ ايام الدعوة مادة رئيسية. فتخلف العرب والمسلمين سببه الابتعاد عن دينهم وعن مبادىء الرسول والصحابة. النموذج الامثل للمجتمع هو الذي ساد ايام النبي والخلفاء الراشدين، ولا خلاص للامة الا بالعودة الى ذلك النموذج والسعي الى وضعه موضع التنفيذ. ان انتصارات المسلمين والعرب في العصور الاسلامية الاولى تحققت بسبب التمسك بالدين ونشر رسالته في العالم. لقد ضعف العرب وخضعوا للغرب عندما فقدوا ايمانهم بمصدر القوة التي تسببت بانتصاراتهم، اي الاسلام.
المصدر الثاني
يتمثل المصدر الثاني لايديولوجيا العنف الاصولي، في النظرة الى انظمة الحكم العربية والى النخب الحاكمة فيها. ترى هذه النظرة ان الدول العربية التي تكونت خلال القرن العشرين صنيعة الاستعمار الغربي المسيحي. شكلت هذه الدول اداة لتحقيق مصالح الاستعمار في السيطرة ونهب موارد المنطقة. يفتقد الحكام الذين يتولون السلطة الى الشرعية الدينية، فهم اتوا عبر انقلابات عسكرية او نتيجة قوانين غير دينية. ان القوانين الناظمة للمجتمع لا تتوافق مع الشريعة الاسلامية، فأساس مصادرها القوانين العلمانية الملحدة الآتية من الغرب، فيما السيادة تنبع من الله، فهو مصدرها لا البدعة التي تسمى الشعب. ان الخضوع لأحكام القوانين الوضعية هو خضوع لأحكام الجاهلية وسيادتها.
يعتبر التفسير الحرفي للنص الديني المصدر الايديولوجي الاخطر في تبرير العنف الاصولي. ان العنف الذي تمارسه الاصولية اليوم ضد الدول والمجتمعات العربية وضد العالم الغربي، يجد تبريره وشرعيته في الطريقة التي تتم بها قراءة النص الديني. يتحدث الاصولي بثقة وبدون تردد ان العنف الذي يمارسه شرعي، تتوجب ممارسته استنادا الى الدعوة الالهية في الجهاد. يحوي النص الديني دعوات صريحة الى الجهاد ومحاربة الكفار وقتلهم. نزلت هذه الآيات في ظروف تاريخية محددة خلال الصراع لنشر الرسالة الاسلامية وتوسيع مناطق وجودها. ان التفسير الحرفي للآيات او الاحاديث وفصلها عن سياقها التاريخي الذي نزلت فيه او قيلت، واسقاطها على الواقع الراهن، يؤديان الى نتائج سلبية وخطيرة. ان المقولة المركزية التي تنطلق منها الاصولية والقائلة بأن الدين الاسلامي والنص الصادر عنه صالح لكل زمان ومكان خضعت لتفسيرات خاطئة. يتميز الدين الاسلامي، كسائر الاديان السماوية، بمستويين: مستوى التسامي الروحي والايمان العميق بوحدانية الله وبمبادىء الخير والحب والتسامح والعمل الصالح وهو مستوى يتجاوز فعلا الزمان والمكان، وتاليا هو صالح للزمن الراهن. اما المستوى الآخر فهو مستوى الاحكام والتشريعات التي نزلت استجابة لحاجات ادارة شؤون الناس وتنظيم اعمالهم. هذه الاحكام يحكمها منطق التاريخ الذي صدرت خلاله، وهو تاريخ يخضع لتغييرات متتالية بحيث ما كان صالحا لزمن لا يعود صالحا في زمن آخر.
هذه الطريقة في قراءة النص الديني تجد تطبيقها عند الاصولي في شرعية الجهاد ووجوبه ضد الانظمة الحاكمة ومجتمعاتها الجاهلية وضد الغرب. فالرسالة الالهية تدعوه الى محاربة الكفار من الحكام العرب وتدمير مصالح الكفار في سائر المعمورة. تتساوى في هذه المهمة دول مسيحية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا واسبانيا وغيرها، كما تتساوى معها دول اسلامية الطابع، مثل مصر والسعودية واندونيسيا وغيرها ايضا.
يتواطأ النظام العربي مع ايديولوجيا العنف الاصولي. صحيح انه يخوض حربا عسكرية ضارية ضد الاصولية، لكنه بالتوافق مع المؤسسة الدينية الرسمية، يحجب النقاش عن الاساس الايديولوجي المتمثل في كيفية قراءة النص الديني وتأويله. لم يجرؤ النظام، ومعه المؤسسة الدينية، عن نزع حجة الاصولية الدينية في تبرير عنفها بالاعلان عن تجاوز التاريخ لآيات العنف واحاديثه، وتاليا عدم صلاحيتها. يركز في خطابه الديني على استحضار الآيات والاحاديث الداعية الى التسامح ونبذ العنف ومنع الاكراه في الدين، وهي كلها صحيحة ومثبتة في النصوص. لكن الاصولي يظل قادرا على جبه النظام ومؤسسته الدينية بأن عمله شرعي استنادا الى كلام الله ورسوله. ان حجة الاصولي الدينية معطوفة على الاحباط الذي يعيش فيه المواطن العربي نتيجة سياسة حكامه، اضافة الى السياسة الاستعمارية التي تمارسها الولايات المتحدة وسائر الغرب في المنطقة، كلها عوامل تجعل خطاب الاصولي اكثر قوة ومتانة وصحة من خطاب الانظمة ومؤسساتها الدينية.
تجد العلاقة التبادلية بين النظام العربي والاصولية اهم تجسيداتها في مجال نشر الثقافة. ان السمة العامة لهذه الثقافة استحضار الغيبيات والاسطورة والخيالات الشعبية والاولياء مقرونة بتأويل حرفي للنصوص وفتاوى الفقهاء. ليس من المبالغة القول ان الوظيفة الاساسية لهذه الثقافة تتجلى في تكريس الجهل والتخلف والتسليم المطلق وفقدان الحرية في التعبير والغاء العقلانية والمنطق.
تقوم العلاقة التبادلية على رعاية الدولة للمؤسسات الدينية وتأمين كل مستلزمات نشاطها، وتمنحها كامل الاستقلالية في ادارة شؤونها ونشر افكارها. كما تشكل برامج التعليم لاسيما الديني منه المساحة الاوسع لنشر الفكر الاصولي. يركز التعليم الديني على الجانب الاصطفائي للدين الحامل وحده الحقيقة والموصل الى الخلاص وتأمين السعادة الابدية للبشر. يغذي هذا التعليم الجانب المتميز لأمة المسلمين بالتأكيد الآية "كنتم خير امة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، وتركز على التراث الديني القديم ووجوب سيطرة الاسلام في كل مكان. يتشبع هذا التعليم بكل الوان التحريم والتكفير لغير المؤمنين وبالدعوة الى محاربة الكفار.
تحتل وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة ميدانا مهما من العلاقة التبادلية. تسخر الدولة وسائل اعلامها لنشر الخطاب الاصولي، وتحمي في المقابل وسائل الاعلام الاصولي بل تمنحها الدعم المادي المطلوب. توظف الاصولية تكنولوجيا الاعلام في الترويج لخطابها السياسي والديني، فتتمكن من ايصال ثقافتها الى الملايين في العالم العربي وسائر انحاء العالم. من يتابع ما تضخه محطات التلفزيون ومواقع الانترنت من ثقافة، يصاب بالذهول من الافكار المبثوثة الى عقول الجماهير. تنطلق ثقافة الاصولية من ان النص الديني لم يترك شيئا في الحياة الا تناوله ووضع له قواعد. تطاول هذه الجوانب الروحي والمادي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي. ويحتل الجانب الايماني والروحي الداعي الى المحبة والتسامح واحترام الانسان اقل الاهتمامات في البرامج الدينية، فيما تحتل الامور الدنيوية والمادية، المبتذلة فيها والجدية المساحة الاوسع في محاضرات المشايخ واحكام الفقهاء وكل من نصّب نفسه عالما متبحراً في ميادين الدين. هكذا تسبغ القدسية على قضايا مثل كيف يأكل المرء وينام ويمشي ويتحدث ويغتسل وتعطى حولها الاحكام الفقهية المهددة بالعقاب الالهي وصولا الى التحريم والتكفير. انها ثقافة الرهاب والخوف والتسليم والخنوع.
ان وسم هذه الثقافة بأنها تنشر الجهل والتخلف، لا يمنع من الاعتراف بأنها الثقافة الاكثر انتشارا بين الشعوب العربية. بات احتشاد الشباب في المساجد خلال اوقات الصلاة منظرا عاما لم يكن مألوفا لعقود خلت. وبات الحجاب عنواناً لهوية اسلامية وواجباً دينيا على كل مسلمة. واحتلت زيارة الاولياء والقديسين مكانة اساسية في الواجبات الدينية. ليس من الغريب ان تزدهر مشاعر الكراهية والحقد والنبذ في ارض هذه الثقافة. ولا يعود غريبا او مستهجنا ان تبتهج الغالبية الساحقة من الشعوب العربية لانفجارات اميركا واوروبا. كما انه ليس مبالغا القول ايضا ان بن لادن هو اكثر الرجال شعبية في العالم العربي، لم تقابلها سوى شعبية عبد الناصر في مرحلة معينة من التاريخ العربي.
التساؤل الجوهري
يبقى التساؤل عن موقع الخطاب الثقافي السياسي للقوى الديموقراطية في العالم العربي. اين يقف المثقف السياسي الديموقراطي في الصراع الدائر بين انظمة الاستبداد العربي والحركة الاصولية؟ انها محنة حقيقية مندلعة منذ عقود. يمارس النظام الاستبدادي القمع اليوم على الحركة الاصولية كما مارسه سابقا على الحركات الديموقراطية. ولا تتميز الاصولية في موقفها المعادي للمثقف الديموقراطي عن موقف النظام منه، بل تذهب ابعد في تكفيره واستباحة دمه. اي خيار لهذا المثقف؟. لقد جنح الكثير من المثقفين ومن القوى الديموقراطية منحازين الى السلطة في معركتها ضد الحركات الاصولية اعتمادا على نظرية ايهما الاخطر والاشد ضررا. لا يصب هذا الموقف في تعزيز موقع الديموقراطية. فالدفاع عن الانظمة واستبدادها ليس شهادة راهنة او مستقبلية لأي ديموقراطي، بل موقف يصب في تعزيز حجة الاصولي. ان الوقوف على مسافة واحدة من الانظمة والحركة الاصولية والحفاظ على الاستقلالية عن الطرفين هو الموقف الديموقراطي الصحيح. تساعد هذه الاستقلالية في بناء قوى الاعتراض وخوض الصراع السياسي والثقافي ضد الانظمة وابنتها الاصولية. ان اعتماد الاستقلالية عن الطرفين هو الموقف الاصعب والاقل شعبية، لكنه يظل الموقف الديموقراطي الاصوب. يجب الا تكون الصعوبة الفعلية سبباً لادارة الظهر الى الديموقراطية، كما لا يجوز ان تحوّل هذه الصعوبة الديموقراطي اداة في يد النظام يستخدمها ضد الاصولي.
يبدو المشهد العربي اكثر سوداوية منه في اي مرحلة من تاريخه. يعيش العالم العربي نتائج الصراع بين الانظمة الاستبدادية والحركة الاصولية، ويشهد عودة الاستعمار الى ارضه عبر الهجمة الاميركية، يقف مذهولا امام ترسخ المشروع الصهيوني وزحفه واختراقه المجتمعات العربية. ويلمس كل يوم الانفكاك المتزايد للمجتمعات العربية وانخراطها في حروب اهلية تدمر ما انجزته من تحديث على امتداد عقود. في هذا المشهد المأساوي، تفتقد المنطقة قوى "الانقاذ" الديموقراطية العلمانية التي دمرتها الانظمة والاصولية على السواء. ان نهضة عربية شاملة تقودها قوى ديموقراطية هي الرد الوحيد على هذا الواقع، والى ان تصل المجتمعات العربية الى تحقيق هذه النهضة، قد يكون عليها ان تعاني المزيد من آلام التفكك والمآسي والحروب الاهلية.
عن التخلف في العالم العربي رحم التطرف وميدان الاستبداد
في العقد الاول من القرن الحادي والعشرين، لا يزال العالم العربي يصنَّف في خانة الدول النامية، وهو التعبير الملطّف للدول المتخلفة، كما لا تزال التقارير الدولية تشدد على ادراجه في خانة المناطق المنكوبة. لم تشفع سياسات التحديث والتنمية في اخراج هذا العالم العربي من "القرون الوسطى" وادخاله في العصر الحديث، كما لم تتمكن تطورات العولمة والتقدم والتكنولوجي من انتشاله من بؤرة التخلف المتعدد الجانب. لا يقتصر حديث التخلف العربي على بعض المعطيات الاقتصادية او التقنية، بل يتجاوزه الى الحياة الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية. يطرح كثيرون في العالم العربي وخارجه اسئلة عن الاسباب التي حالت ولا تزال دون انتقال العرب الى الحداثة والتحديث ومواكبة تطورات الزمن المتقدم، قياسا بأمم لا تملك الحد الادنى مما يملكه العرب من امكانات وطاقات مادية. وهو شأن يدفع الى رؤية هذا التخلف في عوامله البنيوية الداخلية في وصفه تخلفاً حضارياً شاملا. واذا كانت بعض النخب تذهب الى تحميل العوامل الخارجية مسؤولية التخلف والاقامة المستديمة فيه، وهي عناصر تتصل بالاستعمار والصهيونية، الا ان هذا الاعتبار على اهميته وصحته يبقى ثانويا، قياسا بالعوامل البنيوية الداخلية التي لا تزال العنصر المقرر في ادامة التخلف العربي او في تجاوزه.
صدمة الارقام
يقدم "مثلث الامية والفقر والبطالة" اول مؤشر الى حجم التخلف في العالم العربي. ففي آخر تقرير للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (السكو) صدر في كانون الثاني عام 2008، اشارت المنظمة الى ان عدد الاميين العرب وصل الى حدود مئة مليون، اي ما يقارب ثلث السكان القاطنين البلدان العربية. ولفت التقرير ايضا الى ان 75 مليونا من اجمالي الاميين العرب، اعمارهم بين 15 و45 عاما، اي من الاوساط الشبابية بشكل رئيسي. كما ان نسبة الامية بين النساء تصل الى حوالى 47 في المئة من اجمالي السكان. مع الاشارة الى ان منظمات دولية تشكك في هذه الارقام وتعتبر اعداد الاميين اكبر، نظرا الى ان الدول العربية لا تقدم الارقام الحقيقية في هذا المجال.
تشكل ارقام العاطلين عن العمل مؤشرا دامغا الى مقولة التخلف. يفيد "التقرير الاقتصادي العربي الموحد"، ومعه آخر الاحصاءات الصادرة عن منظمات تابعة للجامعة العربية، ان عدد سكان العالم العربي بلغ في العام 2006 نحو 312 مليون نسمة، تصل نسبة الذين تقل اعمارهم عن 15 سنة الى 38 في المئة، وهو اعلى متوسط في العالم بأسره. وتلفت التقارير الى ان اليد العاملة العربية كانت خلال هذا التاريخ تصل الى حدود 120 مليون عامل اي ما نسبته 37 في المئة من مجمل سكان العالم العربي. في ظل محدودية مشاريع التنمية ومحدودية مجالات العمل ايضا، تسببت الزيادة السكانية المتصاعدة ببطالة وصفها تقرير "مجلس الوحدة الاقتصادية" التابع للجامعة العربية، ومعها تقرير "منظمة العمل الدولية" بأنها "الاسوأ بين جميع مناطق العالم من دون منازع". فقد وصل عدد العاطلين من العمل الى 25 مليون عامل، ما يجعل هؤلاء العمال ظروفا صعبة يتعرضون فيها للابتزاز والطرد من العمل وتحكم ارباب العمل بهم واخضاعهم الى اجور مخفضة.
لا تقل صورة الفقر في العالم العربي بشاعة عن الامية والبطالة. تشير "تقارير التنمية الانسانية العربية" الى ان اكثر من نصف سكان العالم العربي يعيش تحت خط الفقر وبمعدل دخل فردي لا يتجاوز دولارين في اليوم، لافتة الى حالات واسعة من المجاعة اصابت عددا غير قليل من السكان في اكثر من بلد عربي. يتسبب سوء التغذية الناجم عن الفقر في اعتلال صحة المواطن ويمنع الحد من السيطرة على المرض ويزيد من عدد الوفيات. و رغم التقدم الحاصل في ميدان الرعاية الصحية، الا ان تقارير منظمات الصحة العالمية لا تزال تتحدث عن مزيد من التشوهات الصحية الناجمة من عدم قدرة المواطن العربي على تأمين المستلزمات الطبية الضرورية.
ربطا بظاهرة الفقر والبطالة، تمثل عمالة الاطفال الوجه الاخر لحجم العاطلين عن العمل. تشير "منظمة العمل الدولية" في تقرير حديث لها الى ان نسبة الاطفال العاملين في العالم العربي تصل الى حوالى 20 في المئة من مجمل عدد الاطفال العرب، فيما يؤكد "المجلس العربي للطفولة والتنمية" ان عدد الاطفال الذين يتسربون من التعليم الى سوق العمل يسير في تصاعد سنوي بحيث بلغ خلال الأعوام الاخيرة نسبة11 من قوة العمل الموجودة في السوق. هذا مع الاشارة الى ان 70 في المئة من عمالة الاطفال تتركز في مجال الزراعة والخدمة في المنازل والباعة المتجولين وماسحي الاحذية والتسول في الشوارع، اضافة الى المصانع والحرف الخاصة بالحجارة والبناء. يتعرض الاطفال خلال قيامهم بأعمالهم الى حوادث متعددة منها ما هو قاتل، ومنها ما يتسبب بإعاقات وتشوهات جسدية بالنظر الى تنفيذهم اعمالا تفوق قدرتهم الجسدية، كما يتعرضون لاضطهاد واذلال وضرب واعتداءات جنسية.
لا تكتمل صورة التخلف في العالم العربي الا من خلال النظر الى الموقع الذي يحتله في مجال التكنولوجيا وانتاج المعرفة. ففي تقرير صادر حديثاً عن "مؤسسة الامم المتحدة للثقافة والعلوم" (الاونيسكو) في شأن حالة العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي، صنف التقرير العالم العربي في "آخر درجات القاع" قياسا بمجتمعات اخرى مشابهة للمجتمعات العربية. إذ قارن بين تطور العالم العربي في هذا المجال والتطور المذهل الذي عرفته دول آسيوية مثل الصين والهند وماليزيا وكوريا، وهي دول تعاني فقرا شديدا وكثافة سكانية عالية وانعداما في الموارد النفطية. وقبل تقرير الاونيسكو اشارت "تقارير التنمية الانسانية العربية" الى الفجوة التكنولوجية الكبيرة التي يعاني منها العالم العربي مثبتة ذلك بأرقام واحصاءت دامغة.
تشكل ثورة الاتصالات وصناعة الالكترونيات اليوم احد المقاييس الاساسية في مدى دخول بلد ما ميدان التقدم العلمي والتكنولوجي. تجمع التقارير على تأخر عربي عن مواكبة هذا الميدان او ولوجه. فعلى سبيل المثال، لا يتجاوز انتشار الكومبيوتر في العالم العربي اكثر من 1،5 في المئة من سكانه، فيما لا يتجاوز استخدام الانترنت 2 في المئة من اجمالي المستخدمين في العالم. مع الاشارة الى ان شبكة الاتصالات وخصوصا الانترنت، تشكل اليوم اهم عناصر البنى التحتية لاقامة مجتمع المعلومات، وان الاتصالات باتت تلعب ادوارا اساسية في التطور الاقتصادي والمالي والثقافي في كل مكان في العالم. يضاف الى هذا كله ان المواقع العربية على شبكة الانترنت لا تزال تتسم بالضعف، قياسا بالمواقع العالمية وخصوصا في مجال تقديم انواع المعرفة الى الجمهور العربي.
يلقي واقع البحث العلمي وما يرافقه من مراكز ابحاث ضوءا اضافيا على حجم التخلف في العالم العربي. من المعروف ان الدول المتقدمة تولي مراكز الابحاث والتطوير العلمي اهمية خاصة وترى فيها مقياسا لحجم التقدم او التخلف وشرطا لانتاج المعرفة. يعاني العالم العربي ضعفا ونقصا في هذا المجال قياسا بالمتطلبات والتحديات المعرفية المطروحة على العرب. تشير تقارير دولية ودراسات جادة، على الاخص كتاب "الفجوة الرقمية، رؤية عربية لمجتمع المعرفة" لمؤلفيه ناديا حجازي ونبيل علي، الى ان البلدان العربية مجتمعة خصصت عام 2003 مبلغ 750 مليون دولار فقط، اي حوالى 0،3 في المئة من اجمالي ناتجها الوطني للبحث والتطوير، فيما تخصص البلدان المصنعة الجديدة من 1 الى 3 في المئة من اجمالي ناتجها للبحث العلمي. ويشير "تقرير التنمية الانسانية العربية" الى ان معظم هذا المبلغ يستهلك في تغطية النفقات الادارية للمراكز. وتزداد الصورة قتامة عندما نعرف ان الكثير من البحوث الجادة تركن في رفوف المكتبات ولا تجري الافادة منها. في مقارنة بين حال العرب وحال الدولة العدو اسرائيل، يتبين ان حجم الانفاق على البحوث في اسرائيل نسبة الى الناتج المحلي هو حوالى 4 في المئة، فيما لا يتجاوز في البلدان العربية 0،3 في المئة. كما تشير الاحصاءات الى ان في اسرائيل 12 بحثا لكل عشرة آلاف مواطن، فيما يبلغ هذا المعدل ثلث بحث لكل عشرة آلاف مواطن عربي.
نجم عن البطالة المرتفعة وخصوصا في اوساط المتخرجين من الجامعات، مضافا اليه سوء الاهتمام بالبحث العلمي والعاملين فيه، نشوء ظاهرة "هجرة الادمغة العربية الى الخارج". ترفع تقارير صادرة عن الجامعة العربية وعن "مؤسسة العمل العربية" الصوت محذِّرةً من خطورة هذه الظاهرة في ضوء الارقام المتصاعدة حولها، معتبرةً ان المجتمعات العربية باتت بيئة طاردة للكفاءات العلمية. تشكل هجرة الكفاءات العربية 31 في المئة مما يصيب الدول النامية، كما ان هناك اكثر من مليون مهاجر خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات او الفنيين المهرة ويعملون في الدول المتقدمة، بحيث تضم اميركا واوروبا حوالى 450 الف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير لـ"مؤسسة العمل العربية". وتؤكد التقارير ان 5،4 في المئة فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون الى بلادهم فيما يستقر الاخرون في الخارج. ومن الارقام الدالة ايضا ان 34 في المئة من الاطباء الاكفاء في بريطانيا ينتمون الى الجاليات العربية، وان مصر وحدها قدمت في الأعوام الاخيرة 60 في المئة من العلماء العرب والمهندسين الى الولايات المتحدة، فيما كانت مساهمة كل من العراق ولبنان 15 في المئة. وشهد العراق ما بين 1991 و1998 هجرة 7350 عالما تركوا بلادهم بسبب الاحوال السياسية والامنية ونتيجة الحصار الدولي الذي كان مفروضا على العراق. وتشير هذه التقارير الى عمل قسم واسع من العقول العربية في اختصاصات حساسة في بلاد الغرب من نوع الجراحات الدقيقة، الطب النووي، الهندسة الالكترونية والميكروالكترونية، والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وعلوم الفضاء وغيرها من الاختصاصات العالية التقنية.
في الاسباب
لم ينقطع النقاش حتى اليوم بين النخب العربية حوال الاسباب المديدة للاقامة العربية في التخلف. لا تزال اصوات واسعة تنسبه الى السيطرة الخارجية ذات الطابع الامبريالي في شقيه الاستعماري والصهيوني، وهي نظريات تبتعد عن تحميل البنى الداخلية والقوى المسيطرة المسؤولية الرئيسية في تكريس التخلف. في المقابل يسود نقاش جدي حول اعادة قراءة اسباب التخلف من خلال عوامله الداخلية المتصلة انطلاقا من البنى والتراكيب الموروثة بشتى تنويعاتها بوصفها المسؤولة اولا واخيرا عن الواقع العربي. تفرض القراءة الموضوعية للتخلف العربي ان يُقرأ بعوامله الداخلية وبدور العناصر الخارجية حيث تقوم علاقة جدلية بين هذه العوامل. واذا كانت اسباب التخلف متعددة ومتشعبة، فانه في الامكان التوقف امام عوامل اساسية في هذا المجال. 
يتعلق العامل الاول بالتجارب العربية لمنظومة بناء الدولة العربية بعد الاستقلال ولمشاريع التنمية التي قامت بها. يمكن القول ان العالم العربي يشهد منذ عقود انهيارا لمشاريع التحديث التي قامت بها حكومات ما بعد الاستقلال تحت شعارات الاستقلال السياسي عن الاستعمار القديم والحديث في آن واحد، ووضع مشاريع تنمية اقتصادية تنقل البلد المعني من تخلفه المدقع الى رحاب النمو الاقتصادي بما يحسن مستوى معيشة الفرد العربي، ويساهم في تقدمه الاجتماعي والعلمي، ورفع شعار الديموقراطية عنوانا لاشراك اوسع فئات شعبية في الحياة السياسية، واخيرا طرح مهمة التحرير القومي وخصوصا منها استعادة فلسطين، وتوظيف كل الامكانات المادية والبشرية من اجل تحقيق هذا الهدف. لا يخطئ النظر ان التدقيق في هذه الاهداف وصل الى مراوحة من جهة والى فشل مريع من جهة اخرى. يشكل هذا الانهيار في تجربة التحديث العربي المفتاح الرئيسي لقراءة ديمومة التخلف العربي وسيادته في مجمل بلدان العالم العربي.
الاشارة الى هذا الانهيار لا تلغي بالمطلق الخطوات التي قطعها العالم العربي على طريق التحديث والتنمية، لكن النقاش يدور حول محدوديتها وعدم توافقها مع الامكانات الموجودة. لا توحي الارقام عن حجم البطالة والفقر والامية وغيرها من المعضلات الاجتماعية، نجاح مشاريع التنمية في البلدان العربية، بل تشكل هذه الارقام صفعة ومؤشرا الى فشل السياسات المطبقة في هذا المجال. واذا كان العالم العربي شهد ولا يزال دخولا في عالم التحديث والتكنولوجيا المرموز اليها بازدهار المراكز الحضرية الحاشدة بالعمارات الشاهقة والانشاءات العملاقة وشبكة الخدمات العامة وتجهيزات المؤسسات العسكرية والمدنية، اضافة الى الانشاءات النفطية والكهربائية وشبكة الاتصالات الهاتفية والانترنت وغيرها، الا ان هذا النمط من التحديث لم يترافق مع انجاز خطوات تتوافق والمفهوم الحديث للتنمية بما يتجاوز المسائل التقنية نحو النظر اليها في وصفها تطاول الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع، اي عوامل النهضة الشاملة.
في هذا المجال لا تزال الاقتصادات العربية عاجزة عن تلبية متطلبات الحد الادنى من المستوى المعيشي الذي تطمح اليه الجماهير العربية. الاسوأ من ذلك ان الموارد العربية الضخمة لا توظَّف في الميدان الضروري لتحسين الاوضاع العربية، بل ان معظمها يذهب إهدارا في ميادين متعددة. في هذا المجال وعلى سبيل المثال لا الحصر، يشار الى ان دولاً عربية وقّعت صفقات سلاح بمليارات الدولارات مع الدول الغربية لاستيراد احدث انواع الاسلحة واكثرها تطورا تكنولوجيا، في ظل معرفة اكيدة بعجز هذه البلدان عن استخدام هذه الاسلحة، سواء في محاربة العدو القومي او في الامن المحلي. وهي اموال كان يمكن ان تقوم بدور مهم في التنمية المحلية لو جرى توظيفها في مشاريع اقتصادية واجتماعية منتجة.
يتصل العامل الثاني بالسياسة التعليمية والمعرفية، ونقطة البدء فيه هو حجم الانفاق على خطط تطوير التعليم بمراحله المتعددة، اضافة الى حجم الاموال المرصودة في ميادين "انتاج المعرفة". لا بد من الاعتراف بمحدودية خطط الحد من الامية والارتفاع بمستويات التعليم. يدل على ذلك حجم الاميّة المستمرة في كل بلد عربي. هناك اجماع لدى خبراء التنمية حول الدور المعرقل الذي تلعبه الامية في تنفيذ المشاريع التنموية، حيث تؤثر على الانتاجية وتضعف طاقاتها. يضاف الى ذلك ان انتشار الامية يتسبب بالاستعانة بالعمالة الاجنبية في المشاريع الموضوعة. ناهيك بالدور السياسي الذي تؤديه الامية من حيث سيادة "الوثوقية" بالسلطة وخطابها وما يعنيه ذلك من اخضاع اوساط شعبية واسعة الى هذا الخطاب.
تشكل مراكز الابحاث ونشاطها، الاساس في انتاج المعرفة في كل بلد متقدم. اضافة الى القيود المادية ومحدوديتها على هذا القطاع المعرفي، تبدو المشكلة الكبرى ناجمة عن القيود السلطوية المتدخلة في هذا المجال. تركز الابحاث على تقديم معطيات تساعد اصحاب القرار في السياسات الاقتصادية والاجتماعية، وهي تحتاج من اجل ذلك الى حد من الحرية في البحث والتوصل الى النتائج بصورة موضوعية. لا تزال الارقام في العالم العربي محض "وجهة نظر"، بحيث يمكن السلطة ان تشكك في نزاهتها او ترفضها اذا وجدت فيها ما يخالف توجهاتها، تحت حجة ان هذه الارقام تمس الامن القومي والسياسي للبلد. كما ان هذه الابحاث تواجَه كثيرا بردود فعل سلبية من مؤسسات دينية ترى في نتائجها مساً بنفوذها فتتدخل لدى السلطة السياسية لمنع نشر هذه الابحاث. يتسبب هذا التقييد لحرية البحث في انتاج ابحاث شكلية تجنبا من الباحثين لأي مشكلات قد تواجههم، او في هجرة الباحثين احتراما لعلمهم وتجربتهم حيث يلجأون الى البلدان الغربية، او في احسن الاحوال توضع الابحاث على الرفوف وفي الصناديق وتحال على الارشيف حيث تصير طعماً للنسيان.
على رغم التطور العلمي وطغيان الميادين التطبيقية للعلوم في كل مكان، لا تزال مناهج التعليم في العالم العربي مشدودة الى غلبة الفروع الانسانية والاداب والحقوق. وهو شأن يأتي على حساب الفروع العلمية والتطبيقية التي يشكل انتشارها واستقطاب الطلاب اليها مؤشرا مهما الى تطور البلدان العربية. لا يتناسب انتشار هذه المعاهد مع الحاجات التي يتطلبها نمو هذه البلدان وتقدمها، كما لا تتناسب الموازنات المالية الموضوعة لهذه الفروع مع مستلزمات فاعليتها. يضاف الى هذه النقطة ان التلقين لا يزال السمة الرئيسية السائدة في التعليم، وهذا يتسبب في قصور معرفي ولا يتوافق مع مناهج البحث وبناء الشخصية المستقلة والمنتجة للطالب وخصوصا في المراحل الثانوية والعليا من دراسته. هكذا تعتمد معظم الجامعات العربية على انتاج "كمّي" لعدد الطلاب المتخرجين، فيما يفترض اعتماد "الكيف" في هذا المجال، اي نوعية الاختصاصات الحديثة.
تبقى نقطة في هذا المجال تتصل بغياب ربط التعليم بحاجات المجتمع وتطلباته وموجبات التنمية فيه. غالبا ما تنعدم الصلة بين الجامعات والمؤسسات الانتاجية في البلد، ولا تؤخذ في الاعتبار حاجات السوق ومتطلباته، وهذا يتسبب كثيرا في تخريج طلاب يبقون عاطلين عن العمل نظرا الى فائضهم عن سوق العمل او لعدم حاجة سوق العمل الى اختصاصاتهم.
تشكل الثقافة السائدة عاملا ثالثا مهما في بقاء العالم العربي في اسر التخلف. تتنوع هذه الثقافة وتتعدد مشاربها ووسائل انتاجها. تكمن ابرز المعضلات في المفاهيم المنتشرة حول المرأة في دورها وموقعها. رغم بعض التقدم في النظرة الى موقعها، لا تزال الثقافة التقليدية والمستندة غالبا الى فتاوى المؤسسات الدينية تضع قيودا على تعليم المرأة وعلى دخولها ميادين الانتاج، وتنظّر لدور منزلي يجب ان يبقى منوطا بها، وكلها تحت حجج اخلاقية واهية. نجم عن هذه النظرة ان حوالى نصف سكان العالم العربي معطلون عن امكان المساهمة في عملية التنمية الاجتماعية والاقتصادية، اضافة الى ان 80 في المئة من هذا النصف يعاني سيادة الامية في صفوفه.
تحتل الثقافة التقليدية المستندة الى الغيبيات والاساطير والخرافات حيزا واسعا في الثقافة العربية، وتقف سدا في وجه الفكر المتنور والعقلاني. تستمد هذه الثقافة زخمها من الموروث السائد ومن الثقافة التي تقوم بها المؤسسات الدينية المستندة الى دعم المؤسسات السياسية. لم يتقدم العلم في اوروبا ولم تخرج القارة القديمة من اسر الجهل والتخلف الا عبر اطلاق العنان للتحولات الفكرية والفلسفية التي اعادت الاعتبار الى العقل في معرفة الحقيقة وفي قراءة الواقع، واعطت الاولوية للانسان واحلّت العلوم في معرفة اسرار الطبيعة والكون. لم يكن لهذه النهضة ان تقوم من دون صراع مرير خاضته قوى التقدم والعقلانية مع الاولياء على الفكر الخرافي والغيبي. تعيش الثقافة العربية ارهاصات مشابهة اليوم لما عاشته اوروبا منذ قرون، لكن ميزان القوى لم يرجح حتى الان لصالح قوى التقدم على حساب قوى الثقافة التقليدية السائدة، ما يجعل الصراع مفتوحا في المستقبل.
الى جانب الثقافة التقليدية، تسيطر على المنطقة العربية انماط من الثقافة السياسية هي على محك الاختبار العملي، اي الثقافة القومية والاشتراكية والليبيرالية والدينية. رغم تعثر مشاريع هذه الثقافات ونتائجها السلبية على التقدم العربي وعجزها عن تجاوز التخلف، فإن عدم تسليط سيف النقد على هذا الفكر وتبيان حدود نجاحاته واخفاقاته يظل من العوامل غير المساعدة في السيطرة على عوامل التخلف او في تقديم آفاق جديدة للتقدم. يبدو النقد والمراجعة واحدا من الشروط الضرورية لكل تطور نهضوي عربي مستقبلا.
تبقى اخيرا إشارة الى دور وسائل الاعلام في الثقافة العربية، فرغم دخول العالم العربي بشكل واسع في ميدان التكنولوجيا الاعلامية، الا ان حجم هذه الوسائل لا يزال ضعيفا في تقديم ثقافة عقلانية الى الجمهور العربي، بل العكس هو الصحيح حيث ان هذه الوسائل، من خلال المهيمنين عليها والبرامج التي تبثها، تلعب دورا سلبيا الى حد كبير لجهة تأبيد الثقافة التقليدية السائدة بل زيادة وتيرة انتشارها.
يتناول العامل الرابع حول ديمومة التخلف مسألة الاصلاح الاقتصادي والاجتماعي، وما اذا كان ساهم في الحد من الاثار السلبية لهذا التخلف. فرض انهيار مشروع التحديث على الانظمة العربية نوعا من المعالجات يمنع تفاقم الاوضاع العامة في كل بلد. ترافق ذلك مع التحديات التي فرضها تطور العولمة ولا سيما على صعيد العلاقات الاقتصادية بين الدول. استندت غالبية برامج الاصلاح الاقتصادي الى اقتراحات المؤسسات الدولية ولا سيما منها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي ركزت على تقليص القطاع العام وتخصيص المؤسسات واطلاق حرية السوق وخفض النفقات الاجتماعية، وكان ذلك باسم الانفتاح الاقتصادي. لكن هذا البرنامج لم يؤد الى انقاذ الاقتصادات العربية، بل نجم عنه مزيد من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي، فتفاقمت المديونية بحيث باتت موارد البلاد مخصصة لخدمة الدين العام، وازداد معدل الفقر ونسبة التفاوت بين الاغنياء والفقراء والمعدمين، ووصلت البطالة الى اعلى معدلاتها، وحافظت الامية على مستوياتها المرتفعة. هكذا انتجت هذه البرامج "اصلاحات" فاشلة زاد من وطأتها عجز الدول العربية عن مواجهة التحديات الخارجية وعن حل المعضلات الوطنية والقومية.
لكن الاسوأ تمثّل في ما رافق هذا البرنامج الاصلاحي من تشديد قبضة الاستبداد السياسي وقمع الحريات والرأي والتصدي للمعارضة بعنف، وانتهاك حقوق الانسان ووضع حد للحريات السياسية، وهي اعمال لا يمكن تصنيفها الا في خانة تكريس التخلف الذي هو صنو الاستبداد. يستحيل على العالم العربي ان يمضي في مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والحد من البؤس الاجتماعي اذا لم تترافق هذه المشاريع مع تحولات ديموقراطية على جميع المستويات بما يتيح للشعوب العربية مشاركة فعلية في الاصلاحات ومشاريع التنمية.
يمثل العامل المتصل بدور السيطرة الامبريالية على المنطقة دورا مهما واساسيا في تخلف المنطقة وديمومته. تتناول هذه السيطرة الاستعمار القديم الناجم عن احتلال الاراضي والمتجدد راهنا، ومعه المشروع الصهيوني الذي يحتل ارض فلسطين واقساما من اراض عربية اخرى. تركز دور الاستعمار على استنزاف الثروات العربية ونهب اموالها، وتكريسه انظمة سياسية مستندة الى مكوّنات ما قبل الدولة تقوم بوظيفة حماية مصالحه واستمرار هيمنته على المنطقة. كما لعب الاستعمار دورا اساسيا في محاربة المشروع القومي العربي التحديثي وساهم في افشاله. اما المشروع الصهيوني، فقد شكل اهم التحديات في وجه النهوض العربي لكونه مشروعا استعماريا استيطانيا بامتياز يتغذى من ابقاء العالم العربي في التخلف ومنع تكوّن دوله القومية والسعي لابقاء الانظمة القائمة في حال من الاحتراب الاهلي. استنزف الصراع العربي - الاسرائيلي الكثير من الموارد والطاقات العربية واضطرار الانظمة الى تكريس معظم هذه الموارد في بناء الجيوش لمواجهة هذا المشروع، وهو امر لا يزال قائما حتى اليوم.
بعد عقود من المواجهة مع مشروع السيطرة الامبريالية في أشكاله المتفاوتة، يقف العالم العربي امام مشهد العجز عن تحقيق انجازات فعلية في هذا المجال. هذا العجز هو الوجه الاول في تعيين اسباب التخلف الذي ساهمت السيطرة الامبريالية في ادامته. لكن الوجه الاخر ان عجز المواجهة هو نتيجة للواقع العربي في عدم تجاوزه ضعفه وعدم قدرته على استنهاض مقوماته الشعبية والمادية. ينظر العرب الى هزائمهم امام الاستعمار والصهيونية في وصفها ناجمة عن الاختلال العسكري في ميزان القوى مع العدو ولغير صالحهم، فيما ان الهزيمة التي مني بها العرب ولا يزالون يعيشون في قلبها هي هزيمة مشروعهم الحضاري بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، الى جانب العجز العسكري. وعليه، يبدو شرط الخروج من التخلف العربي ضروريا وحاسما ليتمكن العرب من مواجهة التحديات الخارجية واستعادة استقلالاتهم والسيطرة على مواردهم وتوظيفها في خدمة شعوبهم.
في النتائج
يطل المشهد العربي الراهن على صور متشابهة من النزاعات الاهلية تمتد من لبنان الى فلسطين الى العراق واليمن والصومال والسودان، وهي تعبّر عن انهيار مقومات الدولة التي قام عليها مشروع التحديث العربي، وعن فشله بشكل رئيسي. تمثل العودة العربية الى العصبيات القبلية والعشائرية والاثنية والطائفية ارتدادا عن الحد الادنى من الحداثة التي دخلها العالم العربي وإن بشكل مشوه. لا تمثل البلدان التي جرت الاشارة اليها الحالة الوحيدة في انهيار بنى الدولة، فسائر المجتمعات العربية تحتفظ بشكل مظهري وهشّ من وحدتها بسبب القبضة الديكتاتورية التي تحكمها، حيث لا شيء يمنع انفجار هذه البنى اذا ما تمكنت من إزاحة تسلط القمع عنها. لا يعني ذلك تنظيرا لبقاء التسلط على هذه المجتمعات تحت هاجس الخوف من انفجارها، انما للقول ان الدول المتكونة بعد الاستقلال لم تقم وحدتها واندماجها الاجتماعي على اساس ديموقراطي يعترف بحقوق المجموعات القائمة، بمقدار ما كانت وحدتها واندماجها عملية قسرية هدفت منذ التكوين الى تركيب يحوي الغاما سياسية واجتماعية قابلة للانفجار. من هنا ليس غريبا ان تتجسد مظاهر التخلف في العالم العربي بهذه الحروب الاهلية المنتشرة في اكثر من مكان.
النتائج الاخرى للتخلف العربي والتي لا تقل خطورة تتمثل في دور هذا التخلف في ازدهار الحركات الاصولية المتطرفة. تجمع مجمل الدراسات في هذا الميدان على ان "مثلث الفقر والامية والبطالة" يشكل الخزان البشري الذي تغرف منه هذه الحركات قواها ومقاتليها، والارض التي تنبت فيها ايديولوجيا التطرف وتزدهر. يتقاطع هذا العامل الموضوعي مع ثقافة غيبية تغلّب الخرافة والاساطير وتحارب الفكر العقلاني وتتصدى لكل محاولة اصلاحية في هذا المجال. يضاف الى هذا المثلث ما ينجم عنه من تحولات ديموغرافية تؤدي في كل مكان الى سعي حثيث لترييف المدن وفرض ثقافته عليها، وتكوّن احزمة بؤس حول المدن قابلة لاحتضان شتى صنوف الحركات الارهابية.
لا توحي نتائج طغيان التخلف العربي امكان ازدهار افكار الديموقراطية ونمو قواها. التخلف، كما بات مجمعا على تعريفه، هو صنو الاستبداد، وليس هناك افضل من واقع يكثر فيه العاطلون عن العمل والاميون والفقراء والمحبطون واليائسون بصفته مناخا يقدم لانظمة الاستبداد السياسي ما ترغب به من ابقاء تسلطها على مجمل الشعب، سواء عبر ايديولوجيا الخلاص التي يقدمها في وجه الفوضى المحتملة، او من خلال الحلف المقدس الذي تقيمه مع المؤسسات الدينية الراغبة في الوقوف امام التيارات الاصلاحية، او باستخدام هذه القوى اليائسة في وجه حركات المطالبة بالتغيير. لقد شكل هذا المثلث على الدوام وفي اكثر من مكان في العالم مادة دسمة لصعود الديكتاتوريات والفاشيات والتعصب القومي.
استحضار واقع التخلف في العالم العربي ونتائجه المدمرة، يعيد الاعتبار الى ضرورة قيام الدولة في كل بلد عربي وتحديث مؤسساته السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، بما يمكن من تحقيق اندماج اجتماعي بين مكونات المجتمع. سيظل الافق الديموقراطي سبيلا رئيسيا لا بديل منه لولوج العالم العربي الى رحاب الحداثة وارساء تطور اقتصادي وقيام ثورة فكرية اساسها تغليب العقلانية على الغيبيات والاساطير
يشهد العالم اليوم في ارجائه المتقدمة والمتخلفة على السواء تغيرات في طبيعة بناه السياسية والاجتماعية، تتخذ في كل مكان شكلا متوافقا مع درجة التقدم والتطور التي كان هذا البلد قد حصّلها. يعبّر هذا التغير عن نفسه من خلال انبعاث حركات دينية او اصولية او عرقية او اثنية، تندرج كلها في سياق انبعاث الهويات المتعددة على حساب هوية سائدة. يشكل التطور والتقدم التكنولوجي وثورة الاتصالات وتحول العالم قرية صغيرة وسيطرة الشركات المتعددة الجنسية على اسواق العالم مجالا يسمح بأن تخترق منتجات الحضارة كل المجتمعات، صغيرة اكانت ام كبيرة، وشكل احد العوامل المساعدة في تفكك البنى الاجتماعية السائدة. يشير باحثون الى ان هذه التغيرات نجمت عن سيادة العولمة التي طاولت تأثيراتها جميع ميادين الحياة ومست مباشرة موقع الدولة القومية، كما طاول تاثيرها الثقافات والافكار السائدة واوجدت خليطا من ايديولوجيات متنافرة. 
لم تمر هذه التغيرات سلما في المجتمعات بل ان انبعاث الهويات خلق اضطرابا في اكثر من مكان وخلخل بنى اجتماعية متعددة، وجدت تعبيرها في صراعات اتخذت لنفسها نزاعا بين اقليات واكثريات ومطالب جديدة لهذا الطرف او ذاك وصل بعضها الى المطالبة بانفصال وحكم ذاتي. لم يكن العالم العربي بعيدا عن هذا المشهد بل على العكس فإنه يقيم اقامة مديدة وسط بحر من الصراعات الداخلية تقودها اكثريات حاكمة احيانا، واقليات حاكمة ايضا، يمثل كل منهما نمطا مشتركا سمته القمع والاستبداد في كل مكان من العالم العربي، مما يطرح النظر في طبيعة السلطة السائدة في المجتمعات العربية، والتمعن في السلطة نفسها عندما تكون في يد الاكثرية او الاقلية، وتاليا قراءة الايديولوجيات السائدة وتشكل المنظومة العقائدية والفكرية لهذه السلطات.
لم يعرف العالم العربي تجربة حكم ديموقراطي تسود فيه سلطة القانون وتتحقق فيها الحريات الساسية وتنال فيها المجموعات السائدة حقوقها، كما لم يتوافر تداول للسلطة استنادا الى دساتير هذه الانظمة نفسها، التي قامت بعد الاستقلال واجتمعت على سمة عامة في حكمها يقوم على الاضطهاد شاملاً رعايته جميع المواطنين على السواء. هكذا عرف العالم العربي انظمة حكم ديكتاتوري تتسلط على الدولة بشرا وسياسة واقتصادا، ولا تعتبر نفسها حصيلة تمثيل الشعوب العربية بمقدار ما ترى نفسها وكيلة عنه. اختزل الحاكم في نفسه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية مما عزز الطغيان السلطوي. بنت السلطات جيوشا لم تتمكن من اداء دور قومي وتحريري كما روجت لها دعايات الحكام، فتحولت هذه الجيوش اداة لسحق الانسان العربي ووسيلة لاخضاعه وقهره واستنزاف موارد الدولة.
غياب الديموقراطية وسيادة الاستبداد
لم يأت غياب الثقافة الديموقراطية وعدم ممارستها من فراغ، ذلك أن بنى المجتمعات العربية تقوم على العشائرية والقبلية والعصبيات الطائفية والاثنية، وهي عناصر تلعب لغير صالح الدولة وتطورها. كما لم تأت السلطات الحاكمة نتيجة عملية ديموقراطية ولم تستمد شرعيتها من السيادة الشعبية، بل كانت حصيلة انقلابات عسكرية او في احسن الاحوال مزورة لانتخابات نيابية شكلية تعتمد القانون الذي يصل فيه تعداد المؤيدين الى حدود المئة في المئة. اما سائر الانظمة فهي وارثة سلطات عائلية ترى ان سلطتها مستمدة من حق تاريخي او من حق الهي. رغم ان هذه الانظمة دقت ابواب التحديث وحاولت اللحاق بالعصر، فقد تبين ان عجزها عن السير في ركاب هذا التحديث اورثها مجددا تراجعا في مقومات الدولة لصالح البنى المتخلفة، وقد فاقم التطور الاقتصادي المحجوز من ازمة الدولة العربية ومنع افادة الشعوب العربية من موارد اوطانها.
لكن الاخطر في حصيلة تزعزع بنى الدولة في العالم العربي هو التذرر الذي يصيب المجموعات التي يتكون منها كل بلد، وهذا يؤدي الى ما يشبه انقسام الاكثريات السائدة وتحولها اقليات موازية لتلك الموجودة. يطيح انبعاث بنى ما دون الدولة، الهوية الوطنية والقومية لحساب الطوائف والاثنيات والعصبيات العشائرية، ويتحول الحراك من سياسي او اجتماعي او طبقي يضم فئات اجتماعية متنوعة الانتماءات الى صراع طائفي- اثني- قبلي- عشائري، بما يضع علامة استفهام حول الوحدة الوطنية. لذلك تبدو البلدان العربية في مجملها تعيش حالة من الفوران الاقلوي ضمن الاقليات والاكثريات نفسها. يستتبع ذلك تصاعد النبرة الداعية الى الاستقلال الذاتي وحق تقرير المصير لهذه الفئة او تلك، كما تتصاعد الاتهامات بقمع الاقليات وحرمانها من حقوقها، مما يطرح السؤال حول طبيعة السلطة في العالم العربي وكيف جرت ممارستها من خلال حكم الاكثرية تجاه الاقلية، او من الاقلية تجاه الاكثرية. ليس مغامرةً القول ان العقلية الاستبدادية الرافضة الاعتراف بحق الاخر وممارسة ابشع صنوف الاضطهاد ضده، هي العقلية نفسها التي مورست على الشعوب العربية من الاكثرية في حكمها ومن الاقلية في آن واحد. تدل الشواهد العديدة في اكثر من بلد عربي على هذا الحكم السياسي والفكري.
الاكثريات عندما تحكم...
لا يخلو بلد عربي من التنوع في تركيبه الاجتماعي إذ يحوي خليطا من مجموعات متعددة الانتماء، وقد سعى مشروع التحديث العربي انطلاقا من الهوية القومية العربية الى دمجها في اطار دولة تتجاوز المكونات الاصلية لهذه المجتمعات. لم تقم عملية الدمج هذه استنادا الى واقع هذه المجموعات وخصائصها والاختلافات بينها وبين مكوّنات المجتمع، فأتى التوحيد الوطني مصحوبا بعملية فرض على المجموعات في ظل هيمنة مجموعات على حساب اخرى، بحيث جرى تغليب اكثريات على سائر المجموعات، او العكس: تغليب اقليات على الاكثريات. يتحمل التركيب الاجتماعي للمجتمعات العربية القائمة على العصبيات والقبائلية والطائفية المسؤولية الاولى عن قيام الكيانات العربية على الحالة التي انتهت اليها منذ عقود. لكن في المقابل تجب رؤية العامل الاستعماري الذي كان مسيطرا على المنطقة العربية والذي رعى قيام الكيانات العربية وغلّب اكثريات او اقليات وزرع الغاما في الكيانات القائمة، قابلة لان تنفجر وتمنع تكوّن وحدة مجتمعية وتتسبب لاحقا بحروب اهلية، بما يتيح لهذا المستعمر فرصا للتدخل في سياسات هذه الكيانات. في غالبية الدول العربية يسود حكم اكثرية محددة تسلمت السلطة بواسطة انقلابات عسكرية او بحكم الوراثة العائلية، ومارست سياسة عامة طبّقتها على سائر المجموعات التي يضمها البلد، وهي سياسة اعتمدت غياب الوسائل الديموقراطية في معالجة قضايا الشعب والبلد، توجتها بقمع شمل جميع الفئات غير المتوافقة مع هذه السلطة. الى جانب عمومية القمع، حظيت الاقليات الموجودة باضطهاد خاص طاولها في جوانب متعددة، وتركز التمييز ضدها عبر تهميشها مجتمعيا وسياسيا، ومصادرة حقوقها السياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية، اضافة الى تقليص افادتها من الثروات الوطنية. فإذا كان العالم العربي محكوما في بناه الاجتماعية بهذا التنوع الاكثري والاقلوي، فإن القاء نظرة على سياسة الاكثرية تجاه الاقليات في ثلاث دول عربية هي مصر والسودان والجزائر كافية لاعطاء صورة تجسم كيفية التعاطي مع الاقليات في الوطن العربي.
تحفل التقارير المحلية والعالمية عن حقوق الانسان في العالم العربي بتفصيلات واسعة عن انتهاك حقوق الاقليات فيه، وعن انتهاكات كبيرة تطاول المجموعات في مواطن متعددة من حياتها. وتؤكد هذه التقارير تجاوز المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية التي تنص على انه "لا يجوز في الدول التي تضم اقليات اثنية او دينية او لغوية، ان يحرم الاشخاص المنتسبون الى الاقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة او المجاهرة بدينهم واقامة شعائرهم او استخدام لغتهم، بالاشتراك مع الاعضاء الاخرين في جماعتهم".
تضم مصر اقلية قبطية ذات تاريخ عريق في قدمها وصاحبة دور اساسي في نهضة البلاد، وتضم حوالى عشرة ملايين شخص، يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية، ويعود التمييز ضدهم الى عقود سابقة، ذلك أن شعارات الثورة المصرية في المساواة بين المواطنين لم تنفع في ردم الهوة بين الاقباط وسائر ابناء الشعب المصري. وقد ظل التعاطي مع هذه المجموعة محكوما بالحذر وانعدام الثقة وخصوصا عندما يتعلق الامر بمناصب رفيعة في الدولة، فلم تُعطَ كامل حقوقها المدنية والسياسية اسوة بالمسلمين. هكذا شكل الانتماء الديني لهذه المجموعة عقبة في ممارسة حقوقها المشروعة سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وتفاقمت ازمة الاقباط في علاقتهم بالدولة والمجتمع مع انبعاث الاصوليات الاسلامية والحركات الدينية المتطرفة التي صعّدت من عدائها لكل من لا يعتنق دينها، وخصوصا بعدما رعى الرئيس انورالسادات هذه الحركات خلال حكمه. وها هي مصر تشهد منذ سنوات اضطرابات طائفية بين مجموعات اسلامية وقبطية على خلفية تطاول الممارسات السياسية وصولا الى نمط الحياة المدنية المختلفة في العادات والتقاليد. ولا يتورع متطرفون اسلاميون من اعادة طرح مقولات لم يعد لها من وجود، تقوم على تنظيم العلاقة بين المسلمين وسائر ابناء الديانات منطلقة من التمييز وصولا الى دفع الجزية. في المقابل تسود حالة خوف فعلي لدى المجموعات القبطية من هذا الانفلات الاصولي والاحتكاكات المتواصلة بينهم وبين افراد قبطيين، حتى ان الامر وصل بالكنيسة القبطية احيانا الى المطالبة بأن تكون رعاية شؤون الاقباط من حق الكنيسة، بما يوحي مطلب الاستقلال الذاتي تقريبا. ويتحمل النظام المصري مسؤولية رئيسية في وصول التناقض الى هذه المرحلة نظرا الى محاباته للاكثرية الاسلامية وللحركات الاسلامية السياسية الطابع، طمعا في اخذ مشروعية للسلطة والافادة منها في مواجهة كل معارضة ذات طابع تقدمي.
يقدم السودان نموذجا فظا في التعامل مع الاقليات السائدة فيه، وخصوصا في الجنوب وفي دارفور، حيث تدور صراعات تعود الى عقود، تهدأ احيانا عقب اتفاقات مع السلطة المركزية ثم لا تلبث ان تندلع مجددا. يضم الجنوب ملايين من السكان منهم 19 في المئة من المسلمين و81 في المئة من المسيحيين والاحيائيين والوثنيين. تقوم سياسة النظام على فرض الشريعة الاسلامية على الجنوب السوداني بالقوة، اضافة الى حرمان المنطقة من الافادة الاقتصادية من موارد البلاد، ناهيك بتقليص الحقوق السياسية. وقد استنزفت حرب الجنوب موارد السودان من البشر والعتاد، وادى اصرار النظام المركزي الى مطالبة الجنوبيين بالانفصال، وهو امر لم يعالج حتى الان بشكل نهائي.
اما في دارفور، فيبدو الوضع افدح في ما يخص انتهاك حقوق المجموعات القائمة هناك. تمثل دارفور خمس مساحة السودان، ويقطنها حوالى ستة ملايين. يمارس النظام المركزي سياسة تعريب قسري للمجموعات العرقية الساكنة فيها والغاء خصوصياتهم الثقافية والقبلية. ويدعم النظام "قبائل الجنجويد" ذات الاصل العربي في حملاتها ضد قبائل دارفور وتمارس في حقها ابشع انواع القهر عبر القتل الجماعي والقصف الهمجي وصولا الى التطهير العرقي. كما في اوضاع الجنوب، تحولت قضية دارفور الى مشكلة انسانية عالمية اوجبت تدخلا من الامم المتحدة لمنع قتل ابناء المنطقة من غير الاصل العربي.
تمثل الجزائر نموذجا اخر من اضطهاد الاكثرية الحاكمة للاقليات فيها، وتتشابه معها دول المغرب العربي. يعاني البربر من رفض انظمة الشمال الافريقي الاعتراف بحقوقهم الثقافية والسياسية. ورغم ان هؤلاء يمثلون من حيث انتماؤهم العرقي حوالى 80 في المئة من سكان الجزائر و60 في المئة من سكان تونس وليبيا، فان السلطات الحاكمة تمنع عليهم حتى اليوم تعليم لغتهم الخاصة ولا سيما الامازيغية، كما يحظر عليهم انشاء وسائل اعلام ومحطات اذاعية تبث بلغتهم الخاصة. ويمارس على هذه الفئات تمييز في مواقع السلطة والادارة وتمنع عنهم وظائف تتسم بالحساسية الامنية او السياسية. ولم يمنع الانتماء الديني الواحد للبربر وسائر المجموعات الحاكمة من ممارسة سياسة اقصاء وحرمان من الحقوق السياسية والثقافية.
... والاقليات عندما تحكم
تعرف البلدان العربية في اكثر من مكان انماطا من الحكم تمارسها اقليات عرقية او دينية او قبلية وعشائرية. على غرار حكم الاكثريات تتسم علاقة الاقليات الحاكمة بالشعب بسياسة استبدادية وقمعية ضد السكان، وباضطهاد اكثر عنفا ضد مجموعات معينة. تعتمد هذه الاقليات على ايديولوجيا وعصبية شوفينية تبرر بواسطتها سياستها القمعية وعدم اعترافها بحقوق الاخرين. يمثل العراق زمن حكم البعث والحكم في سوريا والسلطة القائمة في بعض دول الخليج العربي والجزيرة العربية امثلة دالة على حكم الاقليات في العالم العربي.
يتشكل العراق من مجموعات ثلاث رئيسية ذات طابع ديني واثني، وهم السنّة والشيعة والاكراد. يغلب على تاريخ العراق الحديث حكم الحركة القومية العربية التي مثّلها الناصريون بعد انقلاب 1958 ثم تكرست على يد حزب البعث الذي حكم العراق اربعة عقود وانهار بعد الاحتلال الاميركي للعراق. تقاطعت اسباب تاريخية تتصل بتاريخ الحكم الملكي في العراق معطوفا على رعاية بريطانية لتحكيم الاقلية السنية منذ العشرينات. رغم ان السنّة لا يشكلون اكثر من خمس سكان العراق فيما يشكل الشيعة حوالى 60 في المئة منهم، ويتمتع الاكراد بحجم يقارب حجم السنّة، الا ان السلطة ظلت حتى الاحتلال الاميركي عام 2003 في يد الطائفة السنية. في الشكل لم يمارس حكم البعث السلطة استنادا الى انتمائه الطائفي، بل قرن الاسلام بالقومية العربية وحاول اعطاء الحكم صبغة علمانية بعيدة عن التمييز الطائفي. لكن الحركة القومية التي حكمت العراق مارست عمليا تمييزا طائفيا ضد الطائفة الشيعية وعرقيا ضد الاكراد. تصرف السنّة تحت غطاء القومية العربية على انهم اكثرية في العراق، فاحتكروا السلطة وحدّوا من نفوذ الشيعة، بل مارسوا عليهم انواعا من الاضطهاد وصلت بأجهزة النظام الى قتل قادتهم الدينيين والزمنيين، ومنعت الشيعة من ممارسة شعائرهم الخاصة، اضافة الى حرمانهم المواقع السياسية في الدولة الا بما يشكل ديكورا في خدمة السلطة. اما علاقة الحركة القومية منذ انقلاب 1958 مع الاكراد، فاتسمت بقمعهم وشن الحملات العسكرية ضد اراضيهم وصولا الى استخدام اسلحة كيميائية لابادة اقسام واسعة من السكان. لم يكتف النظام بحرمانهم حقوقهم السياسية والثقافية ومنعهم من استخدام لغتهم وسعيه الى تعريبهم بالقوة، بل لجأ الى محاولة تغيير واقعهم الديموغرافي عبر نقل سكان اكراد ووضع سكان عرب مكانهم. عانت الاقلية الكردية أهوالا من حكم الحركة القومية العربية، وعززت لديها نزعة الانفصال ولو ادى ذلك الى الاستعانة بالحكم الاجنبي.

لا يختلف حكم البعث في سوريا عن شقيقه في العراق حيث اعتمد النهج نفسه في قمع الشعب بمجمله ثم تخصيص فئات محددة بهذا القمع. تشكل سوريا ما يشبه الفسيفساء العرقية والدينية والمذهبية، حيث السنة فيها حوالى 70 في المئة من السكان والعلويون 9 في المئة والاكراد 8 في المئة، فيما يتكون القسم الباقي من الدروز والمسيحيين. تحكم الحركة القومية المتمثلة بحزب البعث سوريا منذ اكثر من اربعة عقود، ولاسباب تتصل بالصراع على السلطة داخل حزب البعث وبالعلاقة مع الحركة الناصرية، آلت السلطة الى الاقلية التي تمكنت من الامساك بمقاليدها، في الجيش اولا ثم في اجهزة الدولة السياسية والادارية. وعلى غرار ما حصل في العراق تصرفت الاقلية بوصفها تمثيلا اكثريا مغطّى برداء القومية العربية وبكون الحكم علمانيا. لكن ذلك ترجم نفسه بالامساك بالسلطة واحتكارها وتقديم شكليات مشاركة في السلطة من سائر المجموعات الدينية والاثنية. وكما في العراق ايضا، هناك مشكلة كردية في سوريا ناجمة عن عدم الاعتراف بحقوق هذه الاقلية الثقافية والسياسية، بل ان الامر افدح بما يتصل بحرمان قسم كبير من الاكراد الجنسية السورية.
في المملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي، يسود حكم عائلي قبلي عشائري تكرس خلال الحكم الاستعماري لهذه المناطق. نحن هنا امام صورة فاقعة لحكم اقلوي على مجمل الشعب مستندا الى نوع من الحق الالهي في السلطة والى إلباس هذا الحكم صفة حامي الدين الاسلامي. باستثناء افراد العائلات المالكة والحاشية الملحقة بها، تعيش مجموعات هذه البلاد انتهاكا فاضحا في حقوقها السياسية والثقافية والاقتصادية نظراً الى اقتران الاستيلاء على السلطة السياسية بسيطرة هذه الاقليات الحاكمة على الموارد الاقتصادية.
اضافة الى هذه الصورة العامة، تجدر الاشارة الى ان هذه الاقليات المقموعة من الاكثريات تمارس قمعا على اقليات تعيش الى جانبها، على مثال اضطهاد الاكراد في العراق للتركمان، وفي النزاعات بين المذاهب الدينية نفسها على غرا ما تشهده الطائفة الشيعية هناك، مما يجزم بالحكم القائل اننا امام ذهنيات اقصائية ونابذة للآخر وعقلية تسلطية تهيمن على المجتمعات العربية بمختلف تكويناتها وبناها.
ايديولوجيات اقصائية واستئصالية
سادت في العالم العربي منذ حكم الاستقلال بعد الخمسينات من القرن الماضي ايديولوجيات شكلت المنظومة الفكرية والعقائدية التي "ألهمت" السلطات الحاكمة ممارسات سلطوية فأعطتها مشروعية وكرستها ثقافة للمجتمع. تمثلت هذه الايديولوجيات التي تحكمت عمليا بالحركة القومية العربية في شقيها الناصري والبعثي، وبالفكر الاشتراكي ذي الانتماء السوفياتي خصوصا، ثم بالفكر الاسلامي التقليدي منه والاصولي حديثاً، وهي تتسم باعتبار كل واحدة منها تمثل الحقيقة والمشروع النهضوي للعالم العربي وسبيل الخلاص للامة، وتجتمع على كونها بعيدة عن الاصول الديموقراطية في العلاقة مع الشعب وبعضها مع البعض الاخر، وفي رفضها الاعتراف بهذا الاخر والتعاطي معه كما يقدّم نفسه مالكا للحقوق نفسها وخاضعا للقوانين اياها. بل نحن عمليا امام هويات فكرية تسعى كل واحدة الى الغاء الاخرى سلما او بالقوة، وامام منظومات عقائدية لا تجد حرجا في استئصال الفكر المخالف وانهائه من الوجود. وقد استلهمت الاكثريات والاقليات هذه المنظومات الفكرية في ممارستها السياسية والتي طاول قمعها مجمل الشعب بصرف النظر عن انتماءاته.
يتحمل الفكر القومي العربي بمختلف منابعه المسؤولية الاساسية في ما اصاب المجتمعات العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لانه الفكر السائد في النظرية والممارسة. تحتل نظرة الفكر القومي الى قضية الاقليات موقعا خاصا في منظومته العقائدية، وهو تأسس على مقولات اساسية تدعو الى تمجيد العرب واقامة دولة واحدة على اساس روابط الدم واللغة والتاريخ والمصالح المشتركة. في سبيل ذلك رفعت شعارات مثل "ارض العرب للعرب" و"امة عربية واحدة ذات رسالة خالدة". لم تخل المنظومة العقائدية القومية العربية من الشوفينية وخصوصا في نظرتها الى الاقليات الموجودة تاريخيا في المنطقة العربية وتعود الى ما قبل وجود الاسلام. وهي رأت في الاشكالية الاقلوية انها بمطالبها تضعف الشعور القومي وتتسبب في تفتيت الامة العربية من خلال طرحها مطالب انفصالية. وتصر هذه النظرية على ان تحقيق الوحدة العربية وحده يكفل ضمان احترام حقوق الاقليات داخل الدول الموحدة. لكن الاخطر في النظرية القومية العربية هو النظرة التشكيكية في الاقليات واعتبارها ألغاما استعمارية يجري استخدامها لمنع تحقيق طموحات الامة العربية، وقد وصلت الاتهامات بالعمالة الى حدود بعيدة ولم يتورع بعض غلاة التعصب القومي من اعتبار الاقليات اشد خطرا من العدو الصهيوني. لذا لم يكن غريبا ان يمارس دعاة الفكر القومي في السلطة وخارجها سياسة قمع للاقليات وحرمانها حقوقها الطبيعية او التحدث بلغتها والحفاظ بالتالي على تراثها الثقافي.
احتل الفكر الاشتراكي المستند الى الماركسية بشكل خاص والى افكار اشتراكية متنوعة موقعا مهما في الفكر السياسي الذي ساد مرحلة الستينات والسبعينات. ورغم انه لم يتح له ان يتجسد في سلطات حكمت على غرار الفكر القومي، الا ان الحدود التي سمحت التطورات بأن يكون فيها حاكما او شبه حاكم، دلت على العقلية الاستبدادية التي يتمتع بها حملة الفكر الاشتراكي، واظهر عدم تقبل الديموقراطية بما هي قبول الاخر وتقاسم السلطة والاعتراف بحقوق القوى السياسية الموجودة. يمكن الاستدلال على هذه الوجهة من خلال استعادة ما قام به الشيوعيون في العراق خلال حكم عبد الكريم قاسم مطلع الستينات من القرن الماضي، حيث كانوا اصحاب نفوذ ومواقع في السلطة، فمارسوا قهرا وعنفا ضد القوى السياسية القومية وتصرفوا كسلطة مستبدة تحاكي طغيان عبد الكريم قاسم نفسه. اما المثال الاخر الاكثر فظاظة فهو حكم القوى اليمنية الجنوبية ذات الانتماء الماركسي والذي امتد لحوالى عقد ونصف عقد من الزمن، واتسم بصراعات بين ابناء الحزب الواحد وتصفيات متبادلة لقواه. تصرف الحزب الماركسي بصفته تحشيدا لقبائل وعشائر تتصارع على السلطة والموارد، ويقصي بعضها بعضا عبر الابادة الجسدية، وذلك بعد ان تكون مارست هذه المهمة على سائر القوى السياسية غير المنتمية الى معسكرها.
لم يقم الفكر الاشتراكي في الاصل على اعطاء حيز للديموقراطية بصفتها وسيلة تداول للسلطة وحل النزاعات بالوسائل السلمية وقبول الاخر بصرف النظر عن الخلاف السياسي او الفكري. كانت القوى التي حملت لواء الفكر الاشتراكي تدعو بالتأكيد الى تطوير المجتمعات العربية وتجاوز تخلفها وتحسين اوضاع الشعوب العربية وتحررها السياسي والقومي والاقتصادي، كما كان برنامجها يحمل في صلبه الدعوة الى تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة ومنع استغلال الانسان للانسان، كما كان البرنامج يشدد على حق الاقليات في المساواة وفي تقرير المصير، مما يعني ان هذا البرنامج كان متقدما على البرنامج القومي العربي بأهدافه وطموحاته. لكن هذا الفكر كان مشبعا بنظرية ديكتاتورية البروليتاريا وحصر السلطة في القوى الاشتراكية واقصاء الاحزاب، كما كان معتنقا مقولة ان الديموقراطية اداة البورجوازية والطبقة الحاكمة للسيطرة وقمع الجماهير وتزوير تمثيلها السياسي والشعبي. وهو امر وجد ترجمته في مسلك استبدادي مارسته هذه القوى في الحدود التي اتيح لها ان تمارس.
النموذج الثالث الذي ساد ويستمر صاعدا اليوم هو الفكر الذي تعتنقه التيارات الاسلامية الطامحة للوصول الى السلطة. نحن هنا امام نموذج لفكر استئصالي اشد خطورة من السلبيات التي رافقت الفكر القومي والاشتراكي، وتكمن خطورته في استناد التيارات الاسلامية الى النص الديني وخصوصا القرآن واعتبارها اياه مرجعها في الفكر الذي تطرحه. ورغم التفاوت بين تيارات اسلامية معتدلة وتيارات متطرفة تكفيرية، الا انها تتفق في النظرة الى الاقليات الموجودة والقائمة على انكار حقوقها في المواطنية اسوة بالمسلمين، بل ان بعضها لا يتورع عن استعادة مفهوم "الذمية" الذي ساد في التاريخ الاسلامي تجاه الاقليات. وتتفق هذه التيارات على استخدام الوسائل الديموقراطية بما يؤمن لها الاستيلاء على السلطة، يتبعها احتكار لها واقصاء سائر القوى عنها.
تمثل النماذج لوجهة الحكم الاسلامي من خلال ما تمارسه حاليا هذه الحركات على السلطة الرسمية، او من خلال عملها المباشر، اسوأ انواع الحكم الاستبدادي الذي عرفه وسيعرفه العالم العربي فيما لو اتيح لهذه الحركات الاسلاموية ان تسود. انطلاقا من قراءة خاصة للنص القرآني، تسمح هذه التنظيمات لنفسها بتأويل يرى في المسلمين فئة مميزة عن سائر ابناء الطوائف، وعلى وجوب فرض الاسلام على المجتمع، وعلى اشتقاق قوانين تستند الى الدين الاسلامي ويجب على المجتمع التزامها والخضوع لها. اما رافض هذه التوجهات والافكار فكافر مارق مهرطق يستحق الموت. هكذا تسود نظريات التكفير التي لم تعد مقتصرة على قوى فكرية مخالفة بل صارت تطاول المجتمع نفسه، وتمثل العمليات الارهابية التي تصيب المدنيين من دون تمييز في اكثر من بلد عربي نموذجا لهذا الفكر الاستئصالي بامتياز.
يصعب على المجتمعات والشعوب العربية ان تعرف التطور والتقدم والدخول في العصر اذا ما استمر الاستبداد مسيطرا في السلطة والمجتمع. فهو لا يأتلف مع التقدم باشكاله المتعددة، بل انه صنو التخلف، ولن يكون ممكناً وضع المجتمعات العربية في سياق التقدم الا من خلال الاعتراف النظري والعملي بأن طريق الديموقراطية بكل اشكالها هو السبيل لنهوض هذه المجتمعات، وان الوصول اليه يحتاج الى بناء قوى الديموقراطية نفسها، والى تجاوز الافكار السائدة بعد وضعها على مشرح النقد والنقد الذاتي كشرط ضروري للتجديد ¶
ندر ان وجدت  مجتمعات في العالم الحديث مشدودة الى ماضيها على غرار ما هو عليه حال مجتمعات العالم العربي. فالماضي هنا يمسك بتلابيب الحاضر ويحدد معالم المستقبل، والاموات تجثم على الاحياء وتمنع اي خروج من اسار سلطتها. على رغم التطورات العلمية والتكنولجية  الهائلة التي شهدها العالم خلال القرن العشرين وتصاعدها المتواصل، يبدو ان العالم العربي قرر الاغلاق على نفسه وادارة الظهر للتاريخ والاكتفاء بما انتجه ماضيه. لا تعنينا ان يكون لنا موقع في صناعة المستقبل، مستمتعين في الاقامة في التخلف والركود، مستسلمين لثقافات عفا عليها الزمن، مبتهجين بما حققناه ومعتبرين ان التاريخ توقف عند هذه الانجازات، وهو ما دفع  بفوزي منصور في كتابه "خروج العرب من التاريخ" الى الحكم على العرب بانهم  يديرون ظهورهم للمستقبل غير أبهين بعودة الانحطاط باشكاله المتعددة. تكاد الاحالة الى الماضي تشمل جميع المجالات من الثقافة الى العلوم الى الدين والاقتصاد والاجتماع، وهو شأن يضع العربي في حالة من الانفصام بين توقه الى مواكبة العصر وبين انشداده الى الموروث بكل اشكاله، هي معركة التجديد والنهضة التي انخرط فيها كثيرون، ومعركة الثقافة العقلانية بروادها القلائل الذين كابدوا من طغيان التقليد، وما زالوا يدفعون ثمن الخروج من الماضي وظلاميته. فما هي سمات الثقافة العربية الراهنة، وكيف واين يتجلى الانجذاب الى الماضي، وما الاسباب التي حتمت تكريس هذه الاقامة، وبالتالي هل من سبيل الى الخروج منه والدخول في العصر؟.
في بعض سمات الثقافة العربية الراهنة

تحتل الثقافة موقعا مركزيا ومقياسا لمدى خروج مجتمع محدد الى رحاب التقدم. يعيش العالم العربي معركة نهوضه في جانبها الثقافي كما يخوضها في المجالات الحضارية الاخرى. واذا كانت الغلبة حتى الان للبقاء اسرى الماضي ، فان ما انجز على صعيد المعركة الثقافية لصالح التقدم يظل يشكل واحدا من العناصر الايجابية التي يمكن البناء عليها حاضرا ومستقبلا.

يمثل الاعتداد بالذات احد امراض الثقافة العربية، يطغى على العقل العربي جنون امتلاك الحقيقة والرأي الصواب. تنغرس هذه النظرة عميقا في الوجدان العربي المصاب بنرجسية الدور الرسولي المناط به في قيادة العالم وتحول العرب الى القوة المهيمنة، وهي نظرة تستند الى تراث ديني يضع العرب في المكانة الاولى بن شعوب العالم لكون نبي الاسلام قد خرج من ديارهم ولكون المسلمين "خير امة اخرجت للناس". يحمل التراث الادبي والفكري العربي منذ عصوره الاولى هذه النرجسية ، ويسعى المثقف العربي الى اسقاط الماضي على حاضره. ينتج عن هذه النظرة ازدواج يعبر عن نفسه بكون الذات العربية تعيش ماديا وعمليا في العصر الحديث، لكنها في الواقع تظل مشدودة الى القرون الغابرة. والاخطر من ذلك ادعاءات بعدم الحاجة الى علوم الاخرين خصوصا ما هو آت من الغرب بكل ما يعنيه ذلك من اقامة في التخلف الحضاري المتعدد الجوانب.
سمة ثانية من سمات الثقافة العربية تتصل بسيادة ثقافة التقليد وغلبة النقل على العقل. تعتمد ثقافة التقليد على تقديس الماضي بشكل اساسي، مما يجعل كل احلال لمبضع النقد لهذا الماضي موضع رفض وشبهة في المقدم عليه. ان عقلية القياس هذه تعجز عن تصور الجديد وغير المالوف في التراث، مما يجعلها عاجزة عن تمثل الحداثة الراهنة، وذلك لانشدادها الى قياس الحاضر على الماضي، وهي عقلية موروثة من الفقهاء والمتكلمين. ولان هذه الثقافة تمارس تقديس وعبادة النصوص، فلا مانع لديها من جعل النص يتماهى مع الدين بما يكسبه صفة قدسية وبالتالي يحوله الى سلطة مادية. ادى هذا التقديس للنص مقرونا بغياب العقلانية  الى صعوبة في التمييز بين الحقيقة والصواب واقتحام للاساطير والخرافات والغيبيات وهيمنتها على قسم واسع من التراث. هذا الابتلاء الذي اصاب العقل العربي بالعودة اللاتاريخية الى الماضي والاقامة فيه منعته من رؤية الايجابي في هذا الماضي للافادة منه واستلهامه مجددا، ووضع ما بات خارج الزمن جانبا بصفته تعبيرا عن مرحلة محددة من التاريخ العربي يتسبب التمسك بها باعاقات تمنع مسار التقدم وتعرقله.
يشكل "تديين الثقافة" واحدا من المؤشرات الخطرة التي تربط الثقافة العربية وثيقا بالماضي. يفرض على المجتمعات العربية قراءة للنصوص الدينية غير تاريخية لا تأخذ في الاعتبار تاريخ ومكان نزولها والتشريعات التي ترتبت عليها، وهي شؤون لا تتلاءم مع الواقع الراهن والتطورات التي طرأت خلال قرون مضت. نجم عن ذلك تحول التاريخ العربي والاسلامي الى ما يشبه اجترارا للماضي وتمجيدا للاسلاف مقرونا ببكائيات على هذا الماضي.ويتجلى تديين الثقافة بقوة من خلال اغراق المكتبات ومواقع الانترنت ومعارض الكتب بانواع من الكتب التراثية ذات الاتجاه السلفي المتشدد، وهي ثقافة تؤكد على الدوام ان الحقيقة موجودة في الماضي، وبالتالي لا حاجة الى الى البحث في الحاضر والمستقبل. وهي افكار تعفي المثقف العربي من تحليل الداخل وتعيين اسباب الظواهر المتعددة، بل التركيز على مقولة قضاء الله وقدره في ما يصيب العرب من احداث.
لا تنجو سياسة التديين هذه من مسؤولية تغذية ثقافة الكراهية والعنف بين الطوائف والمذاهب خصوصا انها تتغذى من مصدرين اساسيين هما المأثورات اللاهوتية من جهة، ومن البنى العصبية والعشائرية والطائفية من جهة اخرى. وهي موروثات يجري استحضارها بقوة في الثقافة والسياسة والاجتماع وفرض حقائقها الماضوية واسقاطها على الراهن من الاحداث. ان ما يجري من اقتتال اهلي تحت عنوان الصراع بين السنة والشيعة في اكثر من مكان انما هو احد مظاهر هذا الاستحضار الدائم للتاريخ السياسي القديم ورميه مجددا على الحاضر بكل ما حمله هذا التاريخ من عنف وكراهية. ولان الماضي يجثم الى هذه الدرجة على الحاضر، فان الثقافة العربية تستسهل اعتماد نظرية المؤامرة على العرب والمسلمين بهدف الحط من شأن ثقافتهم ودينهم وحضارتهم، بما يجعلهم اسرى التخلف والركود. ينجم عن نظرية المؤامرة ما بات يعرف بمفهوم "الامن الثقافي العربي" الهادف الى الدفاع عن المكونات الثقافية الاصلية للعالم العربي في وجه زحف الثقافة الاجنبية والعلوم الوافدة بوصفها ادوات تسلط على الذات العربية. وهي نظرية تعفي العقل العربي من المساءلة عن المآل الذي اوصل العرب الى هذا الدرك من الانحطاط وتعطيه تبريرا لاسباب الاخفاقات التي مني بها ماضيا وحاضرا.
تؤثر الاقامة في الماضي ثقافيا على درجة الابداع والخلق في كل المجالات، وذلك لصالح ما يعرف ب"ثقافة الاستلهام"، وهي ثقافة تعفي نفسها من عناء البحث عبر استلهام الماضي سواء كان فلسفيا ام علميا ام ادبيا، وهو ما يفسر درجة القحط الثقافي والعجز عن مواكبة تطورات العصر. واذا ما اثيرت قضايا وأسئلة فانها تأتي بعد ان يكون الزمن قد تجاوزها وطرح تحديات جديدة. يفسر هذا الوضع عدم قدرة العقل العربي اللحاق بالحداثة وباحداث حد من القطيعة مع التراث والماضي واستيعابه وغربلته بما يسمح بمواكبة الحاضر، فجاء استعصاء الحداثة بمكوناتها المتعددة ليؤكد ان ما تعرفه المجتمعات العربية ليس سوى تحديث مقطوع الجذور عن  الخلفية الفكرية التي انتجته. لذا لا يعود غريبا ان نجد اقساما واسعة من المثقفين العرب يفتشون عن الاجوبة على الاسئلة الصعبة في ثنايا مؤلفات الغزالي او ابن تيمية وغيرهم من مفكري الماضي.
في بعض تجليات العيش في الماضي
تشكل النظرة الى العولمة وفهمها واحدا من تجليات البقاء في الماضي عربيا. يواجه العالم العربي تحديات العولمة فكريا وتقنيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. فالعولمة ترمز في حقيقتها الى مرحلة من التقدم والتطور البشري تحتل فيه الثورة التكنولوجية وثورة الاتصالات وسيطرة الشركات عابرة القوميات على اسواق العالم وتخترق المجتمعات جميعها. تطرح العولمة تحديات على جميع الشعوب في مدى مواكبة النتائج الايجابية والسلبية لهذه المرحلة من التطور البشري. اثارت هذه العولمة نقاشات حادة بين النخب العربية وتفاوتت النظرة اليها سلبا وايجابا، لكن الماضي ظل ملقيا باثقاله في قراءة هذه الظاهرة.
يتسم النقاش السابق والحالي حول العولمة بخلفية سياسية وفكرية تتصل بعلاقة العالم العربي بالغرب. ينظر البعض اليها بوصفها مقولة وفعل غربيين يقتحمان العالم العربي، فالغرب سبق له ان غزا المنطقة ايام الحروب الصليبية، وطرد العرب من الاندلس، واستعمر المنطقة العربية وقهر شعوبها ونهب مواردها، وزرع فيها المشروع الصهيوني، وهو اليوم يحتل الارض مجددا. تسببت هذه الوقائع في سيادة تشكيك عربي بالعولمة بوصفها نتاج هذا الغرب واداة سيطرته الجديدة.
 في النقاش العربي لهذه الظاهرة غلبت قضيتان اساسيتان، الاولى ترى في العولمة مؤامرة اميركية ينفذها النظام الرأسمالي الاميركي، والثانية تدمج بين العولمة والنظام العالمي الجديد المكرس منذ انتهاء الحرب الباردة بقيادة الولايات المتحدة الاميركية من اجل السيطرة على العالم العربي ونهب موارده وفرض ثقافته وقيمه عليه. كما ربط البعض بين العولمة والشرق اوسطية التي هي مشروع اسرائيلي يمهد الطريق لدخول اسرائيل الى العالم العربي للسيطرة على موارده وشعوبه.
ما زال المثقفون العرب يتخبطون في قراءة العولمة ويعجزون عن تقديم الفهم الموضوعي لها. يذهب محمد عابد الجابري الى وصفها "ايديولوجيا تعكس ارادة الهيمنة.. وهي نفي للآخر واحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الايديولوجي". فيما يرى عبد الاله بلقزيز انها "فعل اغتصاب ثقافي وعدوان رمزي على سائر الثقافات، وهي رديف الاختراق الذي يجري بالعنف المسلح بالثقافة". ويذهب حسن حنفي بعيدا في اعتبارها عودة للاستعمار الجديد حيث انه " بعد انكسار حركات التحرر الوطني عاد الاستعمار الاقتصادي والسياسي والثقافي والاجتماعي من جديد في صورة العولمة بالاقتصاد الحر   واتفاقية الجات والمنافسة والربح، والعالم قرية واحدة، والتبعية السياسية والقومية، ونشر القيم الاستهلاكية والعنف والجريمة المنظمة. كما انها في مظهرها الاساسي تكتل اقتصادي للقوى العظمى للاستئثار بثروات العالم على حساب الشعوب الفقيرة واحتواء المركز للاطراف". ويكمل حسن حنفي وصفه للعولمة فيرى فيها " تعبيرا عن مركزية دقيقة في الوعي الاوروبي تقوم على عنصرية عرقية وعلى الرغبة في الهيمنة والسيطرة".
تكشف ظاهرة العولمة والوجهة الغالبة في قراءتها وردود الفعل العربية عليها المأزق الحضاري للمجتمعات العربية. لم تأت مشكلة الهوية الثقافية العربية من اكتساح العولمة للعالم، بل هي في حقيقتها عجز العرب عن اعادة ابتكار هذه الهوية واعادة تشكيلها بما يتناسب والتحولات التاريخية التي يشهدها العصر الحديث والتي لم توفر ميدانا واحدا من ميادين الحياة. ان مجتمعا مهموما ومستلبا بماضيه لن يقدر على رؤية هذه التحولات ومواكبتها، في وقت تخترق هذه التغيرات وتكتسح حياته الخاصة والعامة بدون اي استئذان منه.
يشكل العيش في التراث العربي والاسلامي مظهرا ذا اهمية خاصة بالنسبة للمجتمعات العربية. هذه المجتمعات تبدو في القرن الحادي والعشرين اسيرة النص الديني والنص التراثي في الان نفسه. فقد تجمدت الاسئلة والاجتهادات منذ القرن التاسع وجرى الحجز على اي مراجعة لما افتى به الفقهاء في ذلك الزمن وجرى تتويجه بصفته نهاية العلم في الفقه. يستمر الفقهاء المحدثون في استحضار تلك الفتاوى واضفاء القدسية على ما جاء فيها بصرف النظر عن مرور اكثر من الف عام على صدورها. في عصر الثورة المعرفية والعلمية وسيادة الانترنت وتحويله العالم الىبقعة صغيرة، يبدو من المستغرب ان تسود قواعد فقهية تعود لالف عام منالزمن  من دون الاخذ في الاعتبار ما تغير في المكان والزمان.
نجم عن تقديس احكام  وتشريعات الفقهاء القدامى منعا لاخضاع التراث الى القراءة العقلية والنقدية قديما وحديثا، والاصرار على اسقاطه على الواقع الراهن امتدادا لتلك المعتقدات المعشعشة في العقل العربي حول الحقيقة المطلقة التي يقدمها التراث المستند الى النص الديني والشروحات التي قامت حوله. ترتبت على هذه العقلية سوء استخدام للنص في وقت يمكن الافادة مما هو راهن منه ووضع ما تقادم مع الزمن جانبا. والاسوأ في الامر ان ابعاد العقل عن قراءة التراث سمح للخرافات والاساطير بالتربع داخله بحيث بات من الصعب التمييز بين ما هو حقيقي وما هو خرافي من معتقدات واحكام، وهو امر يثقل اليوم على العقل العربي من خلال الفتاوى غير المتناهية حول امور دنيوية لا علاقة لها بالدين او بالنص الديني واسباغ القدسية عليها بما يعطيها سلطة تفوق بكثير سلطة القانون والتشريعات المدنية.
والظاهرة الاشد خطورة في هذا الزمن تلك النظريات التي تنسب للنص الديني ولاحاديث النبي والائئمة اقوالا تجزم ان القرأن يحوي جميع العلوم الحديثة وانه قال بها مبكرا قبل ان يجري اكتشافها. يضاف الى ذلك تنسيب كل امور الدنيا الى الدين، بحيث تحفل اليوم المكتبات بكتب عن الطب النبوي والاقتصاد الاسلامي والاعجاز العلمي للقرآن وغيرها من هذه المنوعات. ان نزع الصفة الدينية والروحية والاخلاقية والانسانية عن النص الديني تفقده جوهره واهميته وتجعله سلعة في الاستخدام الدنيوي والاجتهادات العشوائية من اي فئة تريد توظيفه في خدمة مصالحها، وهو شان حفل به التريخ العربي الاسلامي القديم في الصراعات السياسية التي دارت بين فرقه ومذاهبه، وكان ارزها الصراع السني الشيعي الذي عاد فانلع بحرارة وقوة.
يمثل صعود الحركات الاصولية اكبر ارتداد الى الماضي فكرا وممارسة وبرنامجا مستقبليا. تتجلى الماضوية في اكثر من ميدان من ميادين الاصوليات، وهو شأن يطال ليس فقط الاصوليات الاسلامية بل الاصوليات المنتمية الى سائر الاديان وحتى الى الايديولوجيات ذات الصفة العلمية او العلمانية. تكاد تتقاطع الاصوليات الاسلامية، وهي الغالبة في المنطقة العربية، على مقولة اساسية تتصل بدعوة المسلمين والعرب الى تمثل نموذج عهد الخلفاء الراشدين قبل 1400 سنة باعتباره العهد الذي تحققت فيه العدالة والمساواة بين البشر وانتشرت فيه قيم الاخلاق التي عاد ت فتشوهت في مراحل لاحقة. لا تثبت وقائع التاريخ صحة ما يقول به الفكر الاصولي حول ذلك الزمن، بل ان التاريخ يظهر كم كانت هذه الفترة مدار صراع بين القبائل والعشائر السائدة على المغانم والسلطة، وعلى العنف الذي ساد تلك المرحلة والذي ذهب نتيجته ثلاثة من الخلفاء الراشدين اغتيالا. لكن الاصولية تقحم تاريخا لا اساس له مستخدمة الخرافات والاساطير والاحاديث والروايات غير الصحيحة لاضفاء صورة وردية عن عصر لم يعرف مثل هذه الصورة. ان اي محاكمة لعهد الخلفاء الراشدين يجب ان تستند الى قراءة تاريخية لسمات ذلك العصر وللبنى السائدة وما فرضته من مسار على الجزيرة العربية مقرونا بنتائج التوسع خارج هذه المنطقة.
يطرح الاصوليون برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا قوامه "الاسلام هو الحل"، وتخوض الحركات الاصولية الانتخابات النيابية على اساس هذا البرنامج. لا تعير هذه الحركات اي اهتمام لقراءة معاصرة للنص الديني وللاحاديث النبوية والفرز بين ما هو راهني وبين ما تجاوزه الزمن، بل تستعيد الماضي بمجمله وتعمل على اسقاطه على الحاضر وتقترحه برنامجا للمستقبل. يصبح هدف اعادة الخلافة الاسلامية مركزيا في التوجه السياسي للنظام الذي يجب ان يقوم. تستعاد آيات من القرآن تدعو الى استعمال العنف ضد غير المسلمين نزلت في ظروف محددة من الصراعات والفتوحات، فيجري استحضارها وتقديمها غطاء ايديولوجيا لممارسات الحركات الارهابية، بل توظف هذه الايات والاحاديث في الدفاع عن العنف المستخدم في وصفه تنفيذا للجهاد في سبيل الله الذي دعا الله المسلمين الى القيام به.
في موازاة ذلك يستعاد الماضي في وجه محاولات لاصلاح الدين وجعله مواكبا للعصر، فيرمى اصحاب هذه الدعوة بالهرطقة والمروق عن الدين بما يحلل اهدار دمهم بعدما جرى وصمهم بالكفر والارتداد. تستخدم وسائل الاعلام والتكنولوجيا الحديثة عبر الفتاوى والبرامج الدينية التي يغيب عنها الحاضر قتتركز برامجها وفتاويها على "العصور الذهبية" للعرب والمسلمين عندما كانوا يطبقون الشريعة الاسلامية، لتصل هذه البرامج الى القول ان سبب النكبات العربية تعود الى تخلي المسلمين عن دينهم وان خلاصهم لن يكون الاباستعادة التمثل بماضيهم. يساعد على هذا التوجه ان نخبا غير قليلة من التي حملت برامج سياسية قومية او ليبرالية او اشتراكية لفترة من الزمن، فدفعت بها الهزائم الى الاحباط وبالتالي الارتداد الى الفكر الديني وغيبياته، وانضمت الى جوقة المنتجين للخرافة والاساطير والترويج لها.
لا يقتصر الانشداد الى الماضي على الاحزاب والتيارات الاسلامية بل يطال الاحزاب السياسية ذات الاتجاه العلماني ايضا. شهدت المنطقة العربية على امتداد القرن العشرين ولادة احزاب اتخذت القومية العربية ايديولوجية لها، كما شهدت ايضا قيام احزاب اعتنقت الماركسية اللينينية هوية فكرية وسياسية. حكمت الاحزاب القومية في اكثر من بلد عربي ووضعت افكارها على محك الممارسة السياسية. خلال حكمها قدمت برنامجا للنهوض الوطني والقومي وللتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحققت بعض بنوده وفشلت في انجاز الرئيسي منه، وخاضت حروبا مع العدو القومي وخسرت الارض والشعب. على رغم كل هذه "الانجازات السلبية" لم تقم هذه الاحزاب القومية بمراجعة لهذه التجربة، سواء منها ما كان في الحكم ام خارجه، وهي مراجعة لا بد ان تطال الفكر القومي العربي اياه الذي شكل الخلفية المفهومية لممارستها. لا تزال هذه الاحزاب تمارس فعل اجترار لفكرها السابق، بل تبدو مصرة على التموضع داخله، وكأن تجربة خمسين عاما لم تبدل شيئا من الاحكام والمفاهيم التي قامت عليها.
لا تختلف الاحزاب التي اعتنقت الاشتراكية، سواء اكانت مسماة شيوعية ام لا، عن مثيلتها القومية العربية. اهتزت هذه الاحزاب مع انهيار المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي، وسعى بعضها الى مراجعة للتجربة الاشتراكية والافادة من دروس انهيارها. ليس مبالغة ان معظم الاحزاب الشيوعية في العالم العربي لم يفلح في هذه المراجعة، بل رأى ان ما حصل من انهيار انما كان نتيجة اخطاء تكتيكية، او حصيلة مؤامرة امبريالية ضد الاتحاد السوفياتي. سمح هذا التصور لهذه الاحزاب بتكرار المقولة اياها حول صحة النظرية الماركسية بكل الحقائق التي تتضمنها. لم يدر في بال معظمها ان الفشل الذي منيت به التجربة يفترض مراجعة للاسس النظرية التي قامت عليها والتي شكلت قاعدة الممارسة السياسية على امتداد قرن من الزمان.
هكذا، بديلا عن ممارسة النقد من جانب التيارات السياسية التي احتلت المساحة الاوسع من العمل السياسي في العالم العربي على امتداد قرن من الزمان، انكفأت هذه التيارات على ذاتها، وظل خطابها قائما على تمجيد الماضي والافكار التي انتشرت والقادة الذين حملوها. لكن اقساما من هذه الاحزاب والتيارات، وتحت وطأة الهزائم وفشل التجربة، عمدت الى تغيير في مواقعها السياسية والفكرية، فاختارت انغماسا في ماض اسوأ بكثير من حاضرها، حيث ولت وجهها الى الاحزاب الاسلامية من دون اي مراجعة او تفسير سياسي- فكري لهذا الانتقال. تشهد التيارات الاصولية والاسلامية عامة افواجا غير قليلة من اعضاء سابقين لعبوا ادوارا في احزابهم القومية او الاشتراكية، وهو شأن يدل على مدى الانهيار البنيوي للقوى الاجتماعية التي شكلت سابقا منار التغيير الاجتماعي.
تعتبر المناهج التعليمية بصيغتها السائدة في معظم البلدان العربية ارضا خصبة للعودة الى الماضي وتكريس فكره وممارسته واسنادها الى النص الديني والتقليد النافذ على امتداد قرون. لا يزال معظم التعليم يعتمد اساليب التلقين كما ساد في الماضي، والابتعاد عن منطق البحث التي تقول بها المناهج الحديثة. يتخرج من المعاهد والجامعات طلاب حفظوا المواد من دون قدرة على استخدامها، ، فتسبب ذلك بخلق جيل من "امّيي الجامعات". لكن الاخطر في هذا المجال ان التعليم الديني يخترق كل مناهج التعليم في العالم العربي، ويستند الى فتاوى ونصوص قديمة يجري تلقينها للطلبة على انها تحمل الحقائق والصواب المطلق وبالتالي غير قابلة للنقد. تكمن الخطورة في هذه المناهج كونها تستند الى المرجعية الدينية التي تعطيها قدسيتها قوة مادية ومعنوية. لا تولي هذه البرامج منتجات الحداثة في الديمقراطية والتقدم وحقوق الانسان والمواطن اي اهتمام، بمقدار ما تشحن عقول طلابها بالتحريض الطائفي والمذهبي وزرع الكره والحقد في النفوس ورفض الاعتراف بالاخر  وتكريس الانعزال، مما يشكل ارضا خصبة لازدهار التيارات الاصولية وانفلات التطرف والارهاب.
لا تزال النظرة الى المرأة والى موقعها في المجتمع اسيرة الماضي ومفاهيهمه بامتياز. يحمل التراث العربي والبنى التقليدية نظرة دونية الى موقع المرأة، ويمارس بحقها تمييزا مجحفا. على رغم ان المرأة قد حققت عبر نضالها حقوقا في اكثر من بلد عربي، الا ان موروثات الماضي لا تزال تقف حائلا دون مساواتها بالرجل. تعاني المرأة من هيمنة ماض مزدوج الاتجاهات، ففي مجتمع عربي يعاني هذا الحجم من الانهيارات البنيوية وسيادة المفاهيم الدينية والتقاليد القديمة ومناهج التعليم التمييزية تجاهها، تواجه المرأة نظرية "قوامة الرجل" عليها، وهو مفهوم يضرب كثيرا من حقوقها، ويكرس للرجل السلطة في اخضاعها وحرمانها من كثير من الحقوق خصوصا في الحكم والاث والحق في اختيار الزوج او الطلاق. تتسبب هذه الاعراف والتقاليد في تهميش دورها وتضعها في مرتبة اجتماعية دونية قياسا بموقع الرجل.
يزداد وضع المرأة صعوبة في هذه المرحلة من تطور المجتمعات العربية مع صعود الاصوليات والتيارات الاسلامية التي تضع في اولوية برامجها اخضاع المرأة والعودة بها الى قرون سابقة والاستيلاء على الحقوق التي استطاعت انتزاعها، عبر اعادتها الى المنزل والحجر عليها وصولا الى تصنيفها في خانة الشر المطلق والمسؤولة عن فساد المجتمع. ان نظرة الى الفتاوى والبرامج التي تبثها القنوات الدينية تظهر مدى الانشداد الى الماضي الذي كان مفروضا على المرأة، والتي "افسدها" هذا التقدم الحضاري ودخولها ميدان العمل وسعيها لاى ممارسة لدورها الاجتماعي. لا ينقص الافكار التي تبثها الاصوليات في شأن المرأة الا الدعوة الى "وأدها" مجددا على غرار ما كان سائدا في الجاهلية. تقدم النصوص الدينية مادة "فكرية" يستند اليها اصحاب الفتاوى والمعممين في خطاباتهم الداعية الى ابقاء المرأة اسيرة الماضي بكل معنى الكلمة.
في بعض اسباب هذه الاقامة في الماضي
ان ما جرت الاشارة اليه من نماذج لعيش العرب في الماضي لا يشكل سوى عينات من واقع اشمل بكثير يكاد لا يوفر جانبا من الحياة بكل مفاصلها. وعند قراءة الاسباب الكامنة وراء هذه الاقامة، تتسع كثيرا وتخترق ايضا كل جانب من جوانب الحياة العربية. يبدو العجز عن تجاوز الماضي والقطيعة مع موروثاته واحدا من الاسباب التي تمنع العرب من دق ابواب الحداثة واستيعاب الماضي بكل مضامينه الايجابية وتوظيفه في خدمة تقدمهم. كانت حال اوروبا في القرون الوسطى مشابهة لما تعيشه حاليا المجتمعات العربية، فشكل الاصلاح الديني واعتماد العقل مقياسا في النظر الى الامور جميعا مدخلا اساسيا لخروج اوروبا من تخلفها. يحتاج العرب الى هذا الاصلاح الديني والى اعتماد العقلانية لمجابهة واقع تتسلط عليه الخرافات والاساطبر والغيبيات. بديلا عن ذلك، ينغمس العرب في سجال حول تخلفهم واقامتهم خارج الزمن بتحميل المسؤولية الى الغرب الذي يعمل ليل نهار لمنع تقدمهم عبر نهب ثرواتهم والحاقهم بسياساته القائمة على نشر الفساد والماديات في ربوعهم. شكلت نظرية المؤامرة قديما وحديثا مشجبا علق العرب عليه عوامل تخلفهم، وعينوا الغرب عدوا دائما لهم ورفضوا الافادة من علومه وتقدمه تحت حجة الحفاظ على الهوية والقيم العربية. يفضح هذا اللجوء الى التفسير المؤامراتي عجزا بنيويا لدى العرب يمنعهم من ممارسة قراءة موضوعية لماضيهم ويكبلهم حاضرا.
لم يتمكن المشروع النهضوي الذي قام اواخر القرن التاسع عشر والربع الاول من القرن العشرين من كسر الحلقة المهيمنة والموروثة من مراحل تاريخية سابقة. على رغم ان رواد النهضة سعوا الى الافادة مما حققه الغرب من تقدم وعلى رأسها مسألة الاصلاح الديني وقراءة النص بما يتجاوز التحجر المفروض عليه، الا ان النتائج ظلت محدودة بسبب عدم توفر الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللازمة لاحتضان الافكار الجديدة على غرار ما توفر لرواد النهضة الاوروبية. هكذا عاد منطق الاغلاق على النص لصالح الفقه التقليدي والمذاهب المكرسة في وصفها قدمت كل الحقائق وبالتالي لا داعي لاي جديد. تبع هذا الاغلاق حملة سياسية ومادية لم توفر بعض الرواد من امثال الافغاني ومحمد عبده من الاتهامات بالهرطقة والانحراف عن النص القويم، ووصلت ذروتها الى الشيخ علي عبد الرازق وطه حسين وغيرهم من رواد العقلانية. وهي سياسة هجومية تستمر بها التيارات الدينية والاصولية راهنا في محاربة الاجتهاد بالنص، والتصدي للتيارات العقلانية الداعية الى منع استخدام الدين في السياسة وصراعات القوى .
يلعب الاستبداد دورا مركزيا في ادامة التخلف والانشداد الى الماضي. عاش العالم الربي منذ اكثر من الف عام تحت وطأة استبداد متعدد الوجوه كان افدحه الاستبداد العثماني على امتداد عدة قرون. تكرس هذا الاستبداد على يد الاستعمار الغربي في النصف الاول من القرن العشرين، وعرف تجلياته الحديثة على يد انظمة الاستقلال. اتسمت مظاهر الاستبداد جميعها بالغاء الحريات وقمع الرأي ومنع قيام معارضة سياسية، ترافق ذلك مع الحجر على افكار التقدم. استعانت انظمة الاستبداد على مدار التاريخ العربي القديم منه والحديث بالمؤسسة الدينية ووظفتها في خدمة تبرير قراراتها واسباغ المشروعية الدينية والسياسية على انظمتها. كما استعانت هذه المؤسسة بالسلطة السياسية لابقاء هيمنتها على العقول ومنع ثقافة العقلانية من اختراق المجتمع، وهو شأن كفيل باستمرارية ثقافة الماضي وتسييدها على المجتمع.
ادت الهزائم التي مني بها مشروع التحديث العربي عسكريا وسياسيا واقتصاديا الى ولادة احباط ويأس في اوساط واسعة من الشعوب العربية. في كل مكان تولّد الهزائم انعطافا نحو الصوفية وغلبة الغيبيات والرجوع الى الماضي واضفاء الاسطرة عليه لما مثله من مجد وعزة وكرامة. شهدت المجتمعات العربية بعد كل هزيمة نوعا من الثقافة القائمة على استحضار العجائب والمعجزات وعودة الانبياء والقديسين التي ستعمل على هزيمة العدو. بديلا عن النقد الذاتي وقراءة اسباب الهزائم التي الحقت بالعرب، يجري الهروب الى عالم الغيبيات والخرافات ونشرها بما يمنع الشعوب العربية من محاسبة السلطة القائمة عما اصاب المجتمع من جراء سياستها. تشجع الانظمة السياسية القائمة هذه العودة الى الماضي وثقافته بما تقدمه من تفسير غيبي لهزائمها وتمنع السؤال عن سياساتها. لم يمكن للهزائم ان تولد توجها نهضويا جديدا لان قوى هكذا مشروع قد ضمرت وابيدت اقسام واسعة منها تحت وطاة سياسة القهر السلطوي، مضافا اليه عجز هذه القوى عن مراجعة برامجها التي اظهرت الوقائع ان الزمن قد تجاوزها وباتت من الماضي ولا تصلح الا لرفوف المكتبات.
لا يعود غريبا بعد هذا المسار الذي سلكته المجتمعات العربية والنكوص الذي اصابها ان تظهر اكثر الحركات والاتجاهات ارتدادا الى الماضي، الا وهي التيارات الاصولية والاسلامية، مقدمة نفسها بفكرها الماضوي وسيلة للخلاص. سيقوم هذا الخلاص بالعودة الكاملة الى الماضي واسقاطه على الحاضر. ترافق صعود هذه التيارات مع انهيار لبنى الدولة وانبعاث العصبيات القبلية والعشائرية والطائفية بموروثها وعصبيتها القبلية. يقدم اقتران صعود البنى التقليدية مع صعود الاصولية اليوم صورة لعالم عربي يصعب التفتيش فيه عن مساحات للتنوير ومكان للقوى العقلانية الا بقدر زهيد. فالتراث الفقهي والديني القديم -  المتجدد يلقي بكل اثقاله على العقول رافعا سيف النصوص الصالحة لكل زمان ومكان في وجه اي محاولة للتجديد.
لا يفيد العالم العربي هذا التحنيط المستمر للتاريخ وتحويله مجموعة من الاصنام . يحتاج العرب نقد حاضرهم الذي هو في حقيقته ماضيهم بكل معنى الكلمة، وكسح هذه الموروثات كشرط ضروري للتقدم.  ان تفكيك المفاهيم السائدة والتصورات والعادات المتحجرة والمستمرة من قرون بعيدة والتي ترخي بثقلها على العقول هي اكثر المهمات اهمية ليتمكن العرب من  الانخراط في العصر الحديث. ستظل هذه المهمة مشروطة بولادة القوى الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تتنكب عمليا لهذا المشروع النهضوي. في مواجهة كل هذه الظلامية يشهد العالم العربي ارهاصات نهضوية تسير بعسر شديد وتتعرض لمواجهة حادة من قوى التقليد والاستبداد.
قيم التعذيب المشتركة - المعتقلات الاسرائيلية الاميركية العربية

 يحلم الانسان العربي منذ أزمان سحيقة بحريته، بحقه في التعبير والعمل السياسي، وبحقه في المعارضة والاختلاف. امتنع عليه هذا الحق لقرون، وفرض عليه التكيف والتعايش مع الظلم والقهر. وقد تفتح لديه شيء من الأمل خلال مراحل النضال الوطني لتحقيق الاستقلال، وخصوصاً بعدما تقدم شعارا الحرية والديموقراطية مشاريع حركة التحرر العربية منذ الخمسينات، فعاش وهماً لم يدم طويلاً. وضعت حريته بين كماشة ثالوث غير مقدس، مثّله الاغتصاب الاسرائيلي لقسم من الارض العربية واضطهاد ساكينها، وواجه زحفاً استعمارياً في بلدان المغرب والمشرق كان آخرها الاحتلال الاميركي للعراق. تنسّم خيراً بالشعارات القومية والاشتراكية، فاذا بها انظمة استبداد وتسلّط، كان نجاحها المتميز في ملء السجون بالمعتقلين من مناهضيها. شكّل حشر البشر في المعتقلات قاسماً مشتركاً بين اسرائيل والاستعمار والأنظمة العربية. لا يتميز الواحد عن الآخر الا بدرجة "الارتقاء" بمستوى الوحشية. .بات السجن يحتل حيّزاً في حياة الانسان العربي، يعيش أياماً من حياته بين جدرانه، يعاني ويقاسي من عذابات آمريه. انتجت المعتقلات أدباً سياسياً وثقافة نفسية واجتماعية وسياسية ايضاً. تزخر المذكرات والروايات والتحقيقات بوصف حي يظل عاجزاً عن ملامسة الوقائع التي عاشها ولا يزال هذا الانسان العربي في سجنه الكبير وفي سجونه المحلية. تتسم السجون الاسرائيلية والاميركية والعربية بسمة مشتركة هي التعامل الوحشي مع الانسان، تعذيباً جسدياً ونفسياً، وقهراً واذلالاً. لا تختلف عن بعضها الا بدرجة استخدام التقنيات التي تزيد المعاناة والألم.

في الغياهب الاسرائيلية
يعاني الشعب الفلسطيني من الاسر شبه الجماعي. تتحدث الارقام عن عشرات الالوف من المعتقلين الذين دخلوا السجون الاسرائيلية، أو من الذين لا يزالون يقبعون داخل جدرانها. يصنّف معتقل الخيام في الجنوب اللبناني، الذي أقفل عام2000، ضمن هذه السجون الاسرائيلية بالنظر الى الاشراف العسكري عليه، رغم قيام عناصر لبنانية بادارته. في كتاب مشترك عنوانه "فتوة مسلوبة"، يصف كل من كاثرين كوك وآدم هنية وآدا كاي رحلة استجواب المعتقلين. تُعصب العيون، يتناوب الجنود في الضرب على كل انحاء الجسد. يعلّقونهم في الهواء، يربطونهم الى الكرسي، ويجبرونهم على الوقوف على رجل واحدة لمدة طويلة. يسكبون الماء البارد عليهم في فصل الشتاء، والماء الحار في فصل الصيف، ويبقونهم فترة طويلة تحت الشمس. يُمنع عليهم النوم، فتسلّط الاضواء القوية عليهم طوال الليل، وترتفع اصوات الموسيقى الصاخبة في غرفهم، لا يتورع الجندي الاسرائيلي عن التبويل على المعتقل خلال الاستجواب. يجبرونه على تمزيق صور الشهداء الفلسطينيين والبصق عليها، ورمي القرآن على الارض والدوس عليه. يتعرض كثير من الرجال والنساء للاغتصاب. تجبر النساء على خلع ملابسهن وتفتيشهن معصوبات الاعين في غرف مفتوحة أمام أعين حراس السجن.
في كتابه "أوراق سجين"، يصف أسعد عبد الرحمن معاناته خلال فترة اعتقاله، ويشير الى انواع التعذيب الجسدي التي تجري ممارستها داخل السجن. يُعرّى السجين ويُضرب بالاسواط والعصي على جميع مناطق جسمه، تطرحه الكلاب ارضاً، ثم يعلّق في يديه او من ساقيه في الهواء. يستخدمون الادوات الكهربائية ويُدخلونها الى مناطق حساسة في جسده. يحقنونه بمادة يخبرونه انها ستتسبب في جنونه. يطفئون السجائر في جسده. يُدخلون انبوباً او قلم حبر أو أعواد كبريت ويشعلونها في جهازه التناسلييلجأون الى وسائل تغذيب نفسي لتحطيم اعصاب السجين وايصاله الى انهيار عصبييقيّدونه بشكل مستمر، يهزأون من شخصيته، يُسمعونه اصوات زملائه المعتقلين وهم في حال من التعذيب والصراخ. يُدخلون السجين الى غرفة التعذيب لترى عينيه مجريات التعذيب ووسائله. يطلقون النار فوق رأسه وبين قدميه. يحضرون كلاباً ضخمة مدربة لتقوم بنزع العصبة عن عينيه، ويلقون عليه الافاعي...
لم تكن الممارسات الاسرائيلية اللبنانية المشتركة في سجن الخيام أقل وحشية عنها في السجون الاسرائيلية، بل فاقتها احياناً. يروي الأسير ديغول ابو طاس في كتابه "بلا قيد: سيرة أسير مقاوم من لبنان"، بعض أصناف التعذيب الذي واجهه كغيره من السجناء فيقول: "ادخلوا رأسي في كيس من المخمل السميك الرطب، اجبروني على نزع ثيابي فأصبحت عارياً بشكل كامل. قيدوني الى عمود من حديد، وفتحوا خرطوم الماء ووجهوه ناحيتي، ثم توقفوا بعض الوقت ليتركوا البعوض يمتص جسدي. صبوا الماء الحار ثم الماء البارد، وبدأوا جَلدي بسوط مصنوع من الليف وقد لُف عليه شريط نحاسي. جاءت الصعقة الكهربائية فأحسست ان قلبي قد انتزع من صدري، وأن رأسي كاد ينفجر، فصرخت صراخاً عنيفاً وفقدت الوعي فترة من الزمن". و يضيف في مكان آخر: "نزعوا عني ثيابي، وأنا ممدد على صدري، وبدا صب الماء ثم الجلد. صعد أحدهم على ظهري فيما قام آخر بشد رأسي الى الأعلى للضغط على الرقبة. اجلسني الجلاد على كرسي وطلب مني فتح فمي، ثم وضع شيئاً صلباً داخله ليمنعني من اقفاله، بعدها بدأ الضرب على اسناني باداة حادةكانت الأسنان تتكسر وانا انتفض من شدة الألم". تشير سهى بشارة في كتابها "مقاومةالى وسائل متعددة، من تكبيل اليدين والقدمين معاً، والتعذيب بالأدوات الكهربائية وسكب مياه مجلّدة على السجين ثم تركه لساعات طويلة في باحة السجن وذلك في عز الشتاء وبرد الجبال القارس.
في أقبية التعذيب الاميركي
على رغم الادعاءات الاميركية ان احد عوامل احتلالها العراق ناجم عن اهدافها في نشر الديموقراطية وحقوق الانسان، الا ان ما تسرّب الى وسائل الاعلام عن الممارسة داخل السجون العراقية يتناقض كلياً مع ادعاءات الحضارة والحداثة واحترام الانسان. ينتهك الاحتلال الاميركي اتفاقات جنيف لعام 1949 التي تحظّر اللجوء الى التعذيب النفسي والجسدي، وتمنع استخدام وسائل القهر والضغط للحصول على المعلومات من المعتقلين. في كتابه "غوانتانامو: الحرب الاميركية على حقوق الانسان"، يصف الكاتب الاميركي ديفيد روز ما يحصل في سجن ابو غريب في العراق، مقارنة بما يجري في معتقل غوانتانامو في كوبا. يوضع السجناء في اقفاص معدنية، مقيدين بالسلاسل والاصفاد، وفي أماكن رطبة وحارة. يجبرون على النوم في اضواء قوية، وأحياناً مع الموسيقى الصاخب. تستخدم وسائل تعذيب متنوعة لاجبار الأسير على الكلام: من الضرب بالسلاسل المعدنية، الى استخدام الصدمات الكهربائية، التخويف بالكلاب، وابقاء المعتقلين في حال من الخوف عبر الايحاء اليهم بامكان قتلهم في كل وقت. توضع على الاسرى قيود لدى الذهاب الى الحمام وتترك الغرف مفتوحة. كثيراً ما كان السجناء ملزمين التبول والتبرز على أنفسهم. يصادرون نسخ القرآن من المعتقلين فيدوسوه أمام أعينهم ثم يرمونها الى المرحاض.
حفلت تقارير منظمات حقوق الانسان بأوصاف رهيبة عن مجريات الحياة في سجن ابو غريب. يتلذذ الجنود والمجندات وضباط الجيش الاميركي في تعذيب المعتقلين واهانتهم. في تقرير اميركي صادر عن البنتاغون وضعه الجنرال الاميركي تاجوبا، يصف بعض الوقائع التي يقول انها مدعومة من جانب أقوال المتهمين والمحتجزين وشهود عياناجبر المعتقلون على الاتيان بافعال جنسية. جرى تهديدهم بالتعذيب والاغتصاب وتُرك بعضهم ليواجه هجمات الكلاب. ويعدد وسائل اخرى فيشير الى ان المعتقلين واجهوا المسائل الآتية: التهديد بمسدس محشو بالطلقات، صبّ الماء البارد والحار على السجناء العراة، وضع مصباح في شرج أحد السجناء، اجبار الاسرى على اتخاذ أوضاع جنسية مختلفة ثم تصويرهم، وضع السجناء العراة في شكل هرمي ثم القفز فوقهم، اجبار السجناء على الاستمناء أثناء تصويرهم بالكاميرات والفيديو. ويعرض احد المواقع الالكترونية بعض الصور والمشاهد عن مجريات سجن ابو غريب، منها مشهد لمجموعة من الجنود الاميركيين يقومون في وضح النهار باغتصاب جماعي لفتاة عراقية، فيما السلاح موجه الى رأسها.
في ظلمة الاستبداد العربي
يقاسي الانسان العربي في السجون الاسرائيلية والاميركية الاستبداد الاجنبي، أما في السجون العربية فيأتيه الظلم من بني قومه، وهو ظلم اشد فتكاً وألماً في الجسد والنفس. عانى الإنسان العربي ولا يزال من أنظمة الاستبداد العربي السائدة في كل الاقطار في صيغتها "التقدمية" او "الرجعية" لا فرق بينهما. ان ما صدر من أدب سياسي متنوع حول فنون التعذيب والقهر في السجون العربية، يعطي صورة لا تحتاج الى تعليق.
في كتابه "الاقدام العارية"، يصف طاهر عبد الحكيم بعض وقائع الحياة في المعتقلات المصرية خلال العهد الناصري. كانت الأجساد تكوى بالاسياخ الحديد المحماة الى درجة الاحمرار. تطفأ اعقاب السجائر في اجزاء مختلفة من الجسم. هناك وسيلة تعذيب اطلق عليها المعتقلون اسم "طاقية الثورة"، وهي عبارة عن طوق حديد يحاط به رأس الضحية، ثم يقفل بمفاتيح اميركية حتى تضغط على الرأس تماماً، بعدها تزداد لفات المفتاح حتى يكاد ذلك الطوق ينغرس في عظام الجمجمة. تطلق الكلاب الوحشية على السجين فتلقيه ارضاً ثم تنهش لحمه. يتعرض السجين لضرب مبرّح بكرابيج من السلك المجدول وبالعصي الغليظة على الوجه والرأس والرقبة. ومن يسقط ارضاً، كانت الركلات بالأحذية العسكرية الثقيلة تنهال على وجهه وبطنه.
يقدّم عبد الرحمن منيف في كتابه "الآن هنا... أو شرق المتوسط مرة أخرى"، صوراً عما تشهده السجون العربية لا تقل فظاعة عن اوصاف طاهر عبد الحكيميقول احد السجناء: "كان الهذيان والبكاء ينفجران في الليل المتأخر أو في ساعات الصباح الاولى. صدف مرات عدة ان استيقظت على اصوات نواح مجنون. بدأت الضربات تنهال عليّ من كل جانب، بالأيدي والأرجل. كنت أطير في الهواء وأسقط. كان رأسي يصطدم بالجدار والارض، لكن الايدي القوية تنتزعني لأقف مرة اخرى، ثم تبدأ الهجمة الثانيةفي لحظات احس المياه الباردة وقد أغرقتني. ومن داخل المياه احس جمراً يشتعل في جسدي كله. يتحول جسدي الى فحم محموم ينفث وهجاً دون توقف. الدماء مثل نجوم تنبعث اضواؤها من ثقوب وشروخ ملأت القدمين والساقين، كما ملأت جو السرداب".
في كتاب "بين ظلمتين"، يروي رفعة الجادرجي بعضاً من معاناة السجناء ايام حكم صدام حسين، وهو كان احدهم. كان تجويع المعتقلين سلاحاً نفسياً مهماًاستعمل القمل الابيض سلاحاً في تدمير نفسية المعتقل ومنعه من النوم. تهاجم افواج القمل جسد الأسير وتتلذذ بمص دمه الطازج. كان السجّان يرهب المعتقلين بقضيب كهربائي، يوجهه اليهم فيلمس المناطق الحساسة من البدن، بين الفخذين، فيرتعش المعتقل ويصرخ صراخاً لا يطاق. لا تعبّر هذه الاستشهادات القليلة الا عن نزر يسير من "عجائب" سجون الاستبداد العربي وعمليات التعذيب والقتل الممارسة على نزلائها. يمتنع كثير من الخارجين من هذه السجون عن تدوين الوقائع التي عاشوها خوفاً على حياتهم ومنعاً من اعادتهم الى اقبية هذه المعتقلات.
تداعيات
يخرج الانسان العربي من سجنه مثقلاً بآثار التعذيب الجسدي. قد تستطيع الأيام اللاحقة ان تدمل هذه الآثار، فيما تحفر عميقاً الآثار النفسية وذكريات التعذيب، فتستمر مفاعيلها لزمن طويل. يعيش الخارج من السجن هواجس خوف وقلق وانكسار. يترسخ الحقد في شخصيته، ينكفئ احياناً الى العزلة، ويطلب الانتقام. يمثل السجن ارضاً نموذجية لنبتة العنف. الى جانب الآثار الذاتية، تتولد انواع من الثقافة السياسية تطاول من هو قابع في السجن او خرج منه. يفرز كل سجن ثقافته بالاستناد الى الجهة التي تشرف عليه.
اول التداعيات لمعتقلي السجون الاسرائيلية او الخارجين منها، صعوبة اقناعهم بالسلام مع اسرائيل. يتحسس السجين الفلسطيني او العربي بقوة مدى العنصرية الاسرائيلية في تعاملها، وهي عنصرية تحمل الاحتقار لغير اليهود، من دون تمييز بين مسلم أو مسيحي، وهو احتقار للانسان العربي في الجملة. يتعمد الاسرائيلي اذلال السجين العربي وإشعاره بدونيته مقابل التفوق الحضاري لليهود الذين صُنِّفوا بأنهم شعب الله المختار، واجازت لهم التوراة اضطهاد الشعوب الأخرى. لذلك تبدو المفارقة بعيدة بين دعوات السلام العربية الاسرائيلية واقتناع المواطن العربي وخصوصاً الفلسطيني بامكان الوصول الى هذا السلام. يصعب على ثقافة السلام ان تلغي مفاعيل القهر الجماعي، بل ان ثقافة السلام لا تفتأ تتراجع امام ثقافة العنف المندلعة نتيجة سياسة اسرائيل وممارساتها.
منذ قيام دولة اسرائيل، سعت قوى سياسية تحمل ثقافة ليبيرالية وطنية الى التمييز بين اليهود كشعب والحركة الصهيونية صاحبة المشروع الاستعماري الذي تسبب في اقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه. قادت هذه الدعوات قوى اسرائيلية ويهودية وعربية ايضاً، فدعت الى التعايش بين الشعبين اليهودي والعربي في فلسطين، ونادت بانسحاب اسرائيل من اراضي 1967 وبحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة. واستطاعت ان تجد لها موضع قدم في الثقافة السياسية. أدت سياسة العقاب الجماعي الذي مارسته اسرائيل في فلسطين ولبنان، وعمليات الاجتياح والقتل، الى اطاحة هذه المفاهيم لصالح المزج العضوي بين اليهودي والصهيوني. تراجعت ثقافة التعايش والتمييز لصالح الدمج، فبات كل يهودي صهيونياً.
نجم عن هذا التماهي تأييد وترحيب بالعمليات الانتحارية التي ينفّذها فلسطينيون وتطاول المدنيين بشكل اساسي. يبتهج العرب في غالبيتهم من هذه العمليات، ويزداد الفرح كلما كانت الخسائر أكبر. تفيد التيارات الاصولية من هذه المشاعر وتغذّيها عبر اسباغ المشروعية على كل عملية وتصنيفها في خانة الجهاد ضد اليهود، مسترجعة وقائع الخصام والعداوة منذ العصور الاسلامية الاولى.
ليس عجيباً، بعد هذا كله، أن نرى مؤيدين للنازية واحراقها لملايين اليهود خلال الثلاثينات والاربعينات من القرن الماضي. بصرف النظر عن الحديث في عدد اليهود الذين قتلتهم النازية، أو الشعور بالشماتة تجاههم، الا ان الموقف يعبّر عن ثقافة سياسية مريعة. يغيب عن البال ان العرب شعوب سامية مثلهم مثل اليهود، وان النازية تملك التوجهات العنصرية نفسها للعرب واليهود. لو قُيّض للنازية ان تحكم في العالم العربي لتصرفت وفق الاساليب اياها التي طبّقتها على اليهود في المانيا.
تعود معرفة الانسان العربي بالسجون الاميركية الى سنوات قريبة. بدأت في التسعينات في منطقة الخليج خلال الحرب ضد العراق بعد غزوه الكويت، وتجلّت بشكل أوضح مع الاحتلال الاميركي للعراق عام 2003، ووضع الألوف من سكانه في المعتقلاتولدت الممارسات الاميركية آثاراً سلبية وعميقة في عدد من الميادين السياسية والفكرية والثقافية.
قدّمت الولايات المتحدة نفسها حاملة لواء الديموقراطية وحقوق الانسان، وادرجت تدخلها في البلاد العربية في هذا السياق وجيّشت قوى محلية لدعمه. راهن كثيرون على المشروع الاميركي وعلى دوره في انهاء الديكتاتورية واقامة مجتمعات ديموقراطية في العالم العربي. لم يكن غريباً ان يشهد العراق تأييد كتل سياسية وطائفية للاحتلال بعدما رأت فيه خلاصاً من أبشع الديكتاتوريات قساوة. لكن الديموقراطية الاميركية تكشفت عن كذبة فاضحة. فقد تبيّن ان الاميركيين يريدون احتلال العراق من أجل السيطرة على النفط وحماية مصالحهم في المنطقة العربيةوبديلاً من نشر الديموقراطية، مارست الولايات المتحدة أبشع انواع الخرق لحقوق الانسان، اساءة واذلالاً. اعتقلت الألوف، وتفنن جنودها في ابتكار احدث وسائل التعذيب وأفظعها في حق الأسرى.
في عالم عربي يسوده التخلف ويتحكم الاستبداد السياسي برقاب ابنائه، وفي ظل صعود فكر أصولي يحمل موروثات بائدة، تسببت الولايات المتحدة بأكبر ضربة لقضية الديموقراطية عبر تكوين رؤيا سلبية عنها وعن حقوق الانسان لدى اقسام واسعة من المجتمعات العربية. بات سهلاً على هذه القوى اجراء التماهي بين السلوك الاميركي ومفاهيم الديموقراطية، وقد أدى ذلك الى صعوبات واجهتها القوى الديموقراطية في العالم العربي من اجل ابراز تمييز بين مبادئ الديموقراطية والادعاءات الاميركية في هذا الشأن. تخوض هذه القوى معركة مضاعفة في ابراز قيم الديموقراطية وحقوق الانسان في صفتها قيماً انسانية تعني الحرية والكرامة والحق في الحياة والاعتراف بالآخر والتعددية وحرية الرأي. وهي أمور لا علاقة لها بالسياسة الاميركية. ستظل قضية الديموقراطية ولمدى غير محدود عرضة للتشهير والرفض كلما نظر الانسان العربي ورأى ما يعانيه العراقيون يومياً.
من الآثار السلبية ايضاً التي يحملها المعتقلون في السجون الاميركية، النظرة العدائية الى الغرب. تختزل الولايات المتحدة لدى الكثيرين اليوم هذا الغرب، ويترتب على ذلك استحضار عداء تاريخي يعود الى قرون، وتُستحضر الحروب الصليبية والحملات الاستعمارية وتهديد الهوية الثقافية العربية والاسلامية. يحتاج العالم العربي الى الغرب، والافادة من تقنياته واختراعاته وعلومه وفلسفاته الانسانية، وذلك من اجل ردم الفجوة الواسعة بين تخلفه وحاجات التقدم والتطور. تؤدي الممارسات الاميركية الى تكوين ثقافة عربية اسلامية ترفض التمييز بين المصالح الاستعمارية لبعض دول الغرب وقيمه الفكرية والحضارية.
هكذا تؤدي هذه النظرة الى رفض الغرب بالجملة من دون تمييز بين سياسة وحضارة، مما يعطي ثقافة الاصولية والتخلف دفعاً، في صفتها ثقافة ترفض كل ما يمت الى هذا الغرب. وينجم عن هذه المسألة ايضاً استنفار طائفي. فالدول الغربية ذات انتماء مسيحي، مما يعني في هذا المنطق ان المسيحية مسؤولة عن اضطهاد العرب، وأن السكان المسيحيين الموجودين اصلاً في المنطقة قوم مشكوك في ولائهم. يؤدي تحويل الصراع من اطاره السياسي الى الطائفي الى صعوبات وحواجز في وجه قوى التحرر العربي الديموقراطية منها والعلمانية على السواء.
في ضوء هذا التراكم السلبي، الثقافي منه والسياسي، الذي تتسبب به سياسة الولايات المتحدة وممارساتها، يبدو من الطبيعي ان يلقى بن لادن، قائد "غزوة نيويورك"، تأييداً شعبياً في دعواته واعماله، وان تصفق له قوى عربية واسعة لدى كل "غزوة" او خطاب.

تتخذ تداعيات ممارسات الاستبداد في السجون العربية اشكالاً مختلفة عن مثيلاتها في السجون الاسرائيلية والاميركية، تتجلى سلباً في مفاهيم وافكار تنعكس على البنى المجتمعية وعلى الحياة الشخصية والعامة للسجين القابع في المعتقل او الخارج منه.
كثيراً ما تتم الاعتقالات في الانظمة العربية تحت شعارات الوطنية والعروبة ومناهضة الامبريالية واسرائيل. زجت قوى سياسية معارضة، واحياناً قوى لا علاقة لها بالسياسة، في المعتقلات ومورس التعذيب في حقها. كان بينهم كثيرون من حملة لواء الوطنية والعروبة والقضية القومية. تحت وطأة التعذيب كفر العديد بهذه المبادئ، وبات النظام العدو الرئيسي، وتحول رجل الامن رمزاً للسلطة، ومن جراء ذلك ترسخ في ذهن السجين كره لا حدود له لمنطق الدولة والنظام، من دون تمييز بين الدولة كمؤسسات والنظام كسلطة حاكمة.
تسببت اساليب القهر ضد المعتقلين، ومعهم غالبية الشعب، الى تصاعد الأمل بالخارج، مهما يكن هذا الخارج، لكسر بنية هذه الانظمة. كثيراً ما وصل الامر بمواطنين عرب الى درجة الرغبة بمجيء اسرائيل وتخليص الشعب من هذه الانظمة. يدل الترحيب بأميركا وبانهائها لنظام صدام حسين عن حجم هذه المعاناة وعلى المآل الذي اوصلت فيه الديكتاتورية شعوبها اليه.
ساهمت المعتقلات العربية في ازدهار التطرف الديني وانتشار الاصولية وتصاعد ثقافة العنف. في اقبية تعذيب انظمة مسمّاة وطنية وتقدمية وعلمانية، ولدت نظريات التكفير الاصولية. في دراسته للحركات الاسلامية في العالم العربي، يشير فرنسوا بورغات في كتابه "الاسلام السياسي وجهاً لوجه" الى ان سيد قطب، أحد قادة "الاخوان المسلمين" المصريين، اعتنق نظرية الحاكمية الالهية وتكفير المجتمع وتصنيفه بالجاهلية، تحت ضربات سياط اجهزة المخابرات المصرية. وتحوّل عدد من المثقفين الماركسيين والعلمانيين الخارجين من السجن الى دعاة اسلاميين او اصوليين، وقد عزز هذا الصعود للتطرف الديني، انتشار نظرية "صدام الحضارات" التي قال بها هنتنغتون، فاذا بالغرب يخوض معركته ضد الحضارة الاسلامية وثقافتها، ولا سبيل الى رد الهجمة الا باستحضار الاسلام وتجييش ملايين المسلمين والدعوة الى كل اشكال الجهاد.
نجحت سياسة المعتقلات العربية في غلق افواه الكثير من القوى المعارضة. ان اسوأ ما تمكنت من تحقيقه هو تدجين نخب عبر ادخالها في ادارات الدولة وامتصاص فكرها المعارض. ومن رفض التدجين، كان مصيره القبر او المنفى. تشتت انتلجنسيا واسعة في ديار الاغتراب، بعدما ضاقت خياراتها في الوطن الأم بين الالتحاق بالنظام او البقاء في السجن. عانت آلام الغربة، تفككت قواها السياسية، غادرت اقسام منها السياسة، وانتظر آخرون الخلاص من الخارج، وبقيت مجموعات على مبادئها لكن مشلولة الفاعلية.
من الآثار التي يظل الانسان الخارج من السجن يحملها، تلك التي تنعكس على حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية. يلاحقه الرهاب بشكل مستمر، يزداد شكّه بالناس وتقلّ ثقته حتى بالاقربين. يسيطر هاجس المخابرات على حركاته. يفرض على نفسه رقابة ذاتية. يختار العزلة وتقليص العلاقات الاجتماعية. تصدمه ذكريات السجن المتلاحقة والمعاناة فيه، فيزيد ذلك من توتره وعصبيته. يضطر الى الكفاح طويلاً من اجل ان يعود انساناً سوياً في عائلته ومجتمعه.
سيبقى هدف غلق المعتقلات السياسية واحداً من احلام الشعوب العربيةلا مناص من بقاء هذا الشعار عنواناً مركزياً لجميع القوى المؤمنة بحق الانسان في الحياة والتعبير .

الحداثة المعاقة في العالم العربي

يثير مشهد العالم العربي الراهن الكثير من الاسئلة حول مدى التطور الذي عرفه خلال اكثر من قرن ومدى انتسابه الى العصور الحديثة التي انتقلت اليها مجتمعات متعددة في كل مكان. فعلى رغم التقدم التكنولوجي والفكري والحضاري والاقتصادي الذي طال البشرية على امتداد القرون الماضية وانتصاب الحداثة بعناصرها المتعددةعنصرا مقررا في تقدم المجتمعات، فان سؤالا كبيرا يطرح على المجتمعات العربية لجهة الحداثة التي تحققت فيها خصوصا منذ عقود الاستقلال. ينبع السؤال من اتساع رقعة التفكك الذي تشهده هذه المجتمعات العربية والانهيارات البنيوية التي تتوالى في كل مكان من اجزاء العالم العربي فتقدم صورة سوداء عما آلت اليه اوضاعها، بما يوحي بالقول ان المجتمعات العربية لم تعرف سوى "قشرة حداثية" خلال تطورها. وعلى رغم ان نقاشا يدور في بعض الاوساط الثقافية عن ضرورة البحث في "ما بعد الحداثة" تمثلا بالنقاش الدائر في الغرب حول المعضلات الناجمة عن تحقق الحداثة فيه، الا ان الموضوع الفعلي عربيا يظل متصلا بنقاش عن المدى الذي عرفته الحداثة في العالم العربي وما هي الاستعصاءات والاعاقات التي حالت وتحول دون تحقق هذه الحداثة فيه.
في بعض معطيات الحداثة
تحدد الحداثة بوصفها محصلة التطور الانساني والتقدم الذي عرفته البشرية في الميادين الفكرية والسياسية والاقتصادية والعلمية والاكتشافات الجغرافية وعلى صعيد الاصلاح الديني خصوصا في المجتمعات الغربية على امتداد قرون. في رحاب هذه الحداثة ولدت وتطورت المفاهيم والافكار وقامت النظريات في مختلف الميادين وولد فكر سياسي جديد وتكونت انظمة سياسية واجتماعية. واذا كان البحث في "منتجات الحداثة" واسعا جدا، فان بالامكان تحديد بعض الميادين الناجمة عنها وتشكل في الان نفسه مؤشرا لمدى علاقة هذا المجتمع او ذاك بهذه الحداثة او بعده عنها.
اول هذه الميادين ما انتجته الحداثة في الميدان الفكري. يتمثل هذا المجال في التحرر من الرؤيا القديمة للعالم والقائمة على سيادة التفسيرات الغيبية والدينية للكون واحلال الرؤية العلمية والفلسفية مكانها. انه انتصار سلطة العقل على سلطة الغيبيات،وتحرر الانسان من اسطورة الحتميات التي سبق للفكر اللاهوتي ان فرضها على العقل البشري، كما تكرست مقولة ان الانسان هو صانع تاريخه وبالتالي هو المسؤول عن خياراته، وهو ما يفتح على مسألة اولوية الذات التي ترى ان الانسان يستمد قناعاته ويقينياته من ذاته قبل كل شيء، وان العقل هو الحكم والمصدر الاساسي وحتى الوحيد في معرفة الحقيقة، وهو يستبعد الخرافة والاساطير في تفسير الحوادث والتخلص من سيطرة العادات والافكار المعيقة للتقدم. وفي رحاب الحداثة تكرس مفهوم الحرية والتحرر والعقلانية بوصفها اقانيم ثلاثة تحدد مسار الانسان وتطوره القادم، ومسيرة انتصار العلم والعقل على النقل والتراث. شكل نقد العقل الديني في التراث المسيحي واخضاعه للتمحيص العقلاني اهم  المنجزات الفكرية والثورة في ميدان تحقيق العقلانية، كما حققت بذلك الحرية في التعبير واستقلالية الضمير البشري على حساب العقائد الدوغمائية المفروضة على البشر من فوق.
الميدان الاخرلمنتجات الحداثة تمثل في الفكر السياسي ونظرية الدولة. انطلق الفكر السياسي من التأكيد على حرية الرأي والتعبير والنقد للسلطة السياسية القائمة وعلى محاربة الاضطهاد والطغيان المتمثل بالاستبداد القائم والمستند غالبا الى اعتبار الحاكم صاحب سلطة مطلقة معطاة له من الله بما يعطي هذه السلطة  طابعا دينيا وسياسيا تلزم المواطن في الخضوع التام وتبقيه  تحت رحمة العقاب الالهي. في سياق النضال ضد الاستبداد ولدت النظرية الديمقراطية كمنظومة قيم قانونية اوحقوقية يتحدد فيها الفرد بالمواطنية والانتماء المستقل خلافا لانتمائه الديني اوالاهلي. ومن الديمقراطية ولدت حقوق الانسان والمواطن وحرية الاختيار والمجتمع القائم على احترام التعددية والاعترف بالاخرالمختلف بالضرورة.
ولد الفكر السياسي نظرية الدولة المستندة الى دستور يعبر عن بنية هذه الدولة، وعلى السيادة الشعبية التي ترى ان السلطة تاتي من الشعب بديلا عما كان سائدا من ان مصدرها السيادة الالهية. ينظم الدستور السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بما يمنع تمركزها واجتماعها في يد واحدة، وهو الامر الذي يهدد الحريات العامة ويكرس الاستبداد. ويؤكد مبدأ سيادة الدولة على المساواة للمواطن امام القانون وعلى عدم التمييز استنادا الى العرق او الجنس، ويحصر العنف في مؤسسات الدولة.
في اطار الحداثة ولدت نظريات سياسية حول الدولة، فكانت نظرية العقد الاجتماعي  الذي يتنازل فيه الافراد عن حقوقهم التي كانوا يتمتعون بها في الحالة الطبيعية القائمة على العصبيات العشائرية والقبلية او الطائفية الضيقة من اجل  من اجل تنظيم شؤونهم في اطار الدولة وعصبيتها الموحدة. لكن النظريتين اللتين سادتا في ساحة الفكر السياسي تمحورا حول النظرية الليبرالية المستندة الى الحريات العامة،وهي نظرية ولدت الدولة الرأسمالية في سياقها فكرا سياسيا واقتصادا حرا. وفي هذا لسياق اكتسبت نظرية الديمقراطية مدلولا واسعا استنادا الى قاعدة الحرية الفردية والعقلانية. .في المقابل انتجت الحداثة فكرا سياسيا متنوع المشارب والاتجاهات كان ابرزه الفكر الاشتراكي الذي تكونت حوله دول اعتنقت مبادئه على غرار اعتناق الرأسملية للفكر الليبرالي
وفي الميدان الاقنصادي، اتاحت الحداثة اطلاق ثورة في تطوير الانتاج البشري عبر سيطرة الانسان على الطبيعة وعلى اطلاق قوى الانتاج. ساعد في ذلك الاكتشافات العلمية التي سخرت مكتسباتها في ميادين الاقتصاد ونقلت المجتمعات الغربية الى مستويات من التقدم هائلة واطلقت العنان لتحطيم كل الحواجز التي كانت تعيق الصناعة والزراعة والتجارة وغيرها من ميادين الانتاج. وهو امر عدل في نمط العلاقات الاجتماعية السائدة.
 شكل الاصلاح الديني الذي عرفته اوروبا مطلع القرن السادس عشر احد الاعمدة الاساسية في نشوء الحداثة وتقدمها. طال الاصلاح فيما طال مفهوما للدين يبتعد به عن طريق القسر والاكراه ودعوة الى حرية الانسان في الاختيار الديني والعقيدة التي يرغب. ونظر بعض الفلاسفة الى الاديان والمذاهب بصفتها عوامل اساسية في اشعال الحروب والفتن بين الشعوب، خصوصا في ظل تكريس رجال الدين مفاهيم تحصره بالشعائر والطقوس الخارجية والطاعة السلبية لهم. ترتب على هذا الاصلاح نتائج طالت النظام السياسي في اوروبا واثرت مباشرة على الفكر السياسي خصوصا نظرية الحرية الفردية ومواجهة الاضطهاد واستخدام الدين لابقاء البشر تحت سلطة الكهنة. لكن الاثر الاكبر الذي تركه الاصلاح الديني وتداعياته اللاحقة حروبا اهلية كان في اساس نشوء وولادة نظرية العلمانية القائمة اساسا على الفصل بين المجالين السياسي والديني اي الفصل بين الدين والدولة وتحديد مجال كل منهما. تقوم العلمانية على قواعد متعددة ابرزها تنظيم العلاقات الاجتماعية على اسس انسانية تستند الى معاملة الفرد بوصفه مواطنا يمتلك حقوقا وواجبات، وبالتالي اخضاع المؤسسات والحياة السياسية لارادة البشروممارستهم لحقوقهم. في المجال الديني، تدعو العلمانية الى اعادة الاعتبار للدين ودوره الروحي والاخلاقي بما يتيح له لعب دور فاعل في الحياة الاجتماعية في كل مكان.
لم تقتصر منتجات الحداثة على الجوانب السياسية والاقتصادية بل طالت التطور العلمي والتكنولوجي ودفعت به الى اكتشافات هائلة في ميادين العلوم من جميع الاتجاهات، وهو ما ادى بالبشرية الى مرحلة من التقدم الهائل لم يسبق لها ان عرفته في تاريخها وتسببت في قلب المقاييس الاجتماعية والاخلاقية . وطالت تأثيرات الحداثة ميادين  الفلسفة والادب والفن والموسيقى فتكونت مدارس ادبية من الرمزية الى الكلاسيكية الى الرومنطيقية وانتجت اوروبا عباقرة في هذه الميادين ما تزال مفاعيل نتاجاتها  سائدة حتى اليوم.
اذا كان ما جرت الاشارة اليه من معطيات حداثية يؤشر الى الانتقال الذي عرفته اوروبا والغرب خلال القرون الماضية، فان السؤال العربي يطرح نفسه حول موقع العالم العربي من هذه الحداثة ومنتجاتها ومدى دخول المجتمعات العربية فيها. ان نظرة متفحصة على بعض الميادين العربية يمكن ان تعطي فكرة عن القرب او البعد من هذا التقدم الانساني.
سلطة لا دولة
مثّل نشوء الدولة في اوروبا درجة من اهم درجات التطور والحداثة، فلعب النهوض السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري دورا في بلورة مفهوم القومية الذي شكل قاعدة الكيانات الاوروبية التي كانت تعاني الانقسام وصراعا في ما بينها للسيطرة على الاراضي والمقاطعات. ساعد قيام الدولة في اوروبا في بلورة قواعد قانونية ومبادئ تتصل بالفصل بين السلطات والمساواة امام القانون وحماية الحريات وتحقيق المواطنية وغيرها، فشكلت هذه المبادئ اسسا استندت اليها انظمة الاستقلال في العالم الثالث ومنها العالم العربي في وضع دساتيرها وقوانينها.
تكونت الدول العربية منذ نصف قرن تقريبا، في سياق النضال من اجل الاستقلال الوطني، وعلى حاملة مشروع قومي ذي مضمون اجتماعي وسياسي وطني. استوحت النخب العربية التي تسلمت زمام الحكم في الكثير من انظمة الاستقلال مبادئ تنظيم الدولة المعمول به في الغرب واخضعت بعض نصوصه لما يتوافق مع واقع المجتمع المحدد. تقوم في البلدان العربية راهنا دساتير تتشابه في التوجهات والقوانين والتشديد على الاهداف المركزية للدولة، وتؤكد الاندماج الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية، كما تركز على مقولة الفصل بين السلطات وتأمين التوازن في ما بينها وسيادة القانون على جميع ابناء الشعب. كما تذهب بعيدا في التزام المبادئ الديموقراطية في الحكم التي تكفل المساواة بين المواطنين وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتضمن الحقوق العامة ولا سيما منها حرية الاعلام والفكر والمعتقد والعمل السياسي. وتشدد هذه الدساتير والقوانين العامة على الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية وتسعى الى الارتقاء بمستوى الانسان العربي. كما تؤكد هذه الدساتير ايضا المساواة بين المجموعات السياسية والاقليات والطوائف والاثنيات ومكافحة التمييز ضدها او المس بحقوقها، وهي امور تظهر مدى تأثر النخب العربية بالدول والانظمة التي استندت الى مقومات الحداثة في تكوينها. لكن السؤال المطروح هو مدى تطبيق هذه المبادئ واقعيا والتزام ما تنص عليه؟
شكل تحقيق الاستقلال وتعيين مبادئ الدولة المستندة الى الدستور والقوانين احد مصادر شرعية السلطة. يؤشر المشهد العربي الراهن منذ عقود الى تغييب شبه كامل للقواعد الدستورية والقانونية، والى انحسار في شرعية السلطة، وذلك لمصلحة تمركزها في يد قوى محددة وبما لا يتناسب مطلقا مع المبادئ التي اسست لقيام الدولة، وهذا يعني تراجعا في منطق الدولة لمصلحة منطق السلطة.
قد يبدو هذا الكلام غريبا من الناحية النظرية لصعوبة الفصل بين الدولة والسلطة في اي بلد. لكن، اذا كان السؤال حول الدولة والسلطة في الدول الحديثة والمتقدمة عبثيا ولا معنى له، فانه يكتسب دلالة راهنية كبيرة في العالم العربي، حيث تعاني الدولة الوهن على حساب سلطات متنوعة الانتماءات، عسكرية او طائفية او قبلية او اثنية. ادى التراجع في تطبيق مبادئ الدولة الى تحولها سلطة استبدادية تستند بشكل رئيسي الى الاجهزة الامنية او بعض المكونات التقليدية وتمارس الغاء للقوانين الدستورية. تمارس هذه السلطات وخلافا للنصوص الدستورية تغييبا للحريات العامة، وتمييزا بين المواطنين لمصلحة الجهة التي ينتمي اليها الحاكم. اختزلت السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية في يد سلطة الحاكم فتعزز الطغيان، وبات القائد او الزعيم عنوانا للسلطة والمؤسسات التي اختزلت في شخصه على غرار ما عرفته اوروبا ايام الاستبداد وسيادة منطق "انا الدولة والدولة انا"، وجعلت طاعته وعدم نقده من المقدسات.
كرست السلطة التسلطية غياب الديموقراطية والاحزاب السياسية وحرية الصحافة والتعبير، وابتكرت شتى وسائل القمع والارهاب والتخويف والتهميش والترغيب من اجل ضمان بقاء السلطة في يديها. في هذا السياق اكتسب الاستبداد طابع المؤسسة وهو ما ساعد على ان يجدد طاقته بحيث تبدو اطاحته متعذرةً من القوى الداخلية على غرار ما شهده العراق، او ان محاولة اطاحته تهدد الكيان والنظام بالانهيار ودخول البلد المعني في دوامة حروب اهلية تدمر كل ما يكون المجتمع قد حققه من تقدم، وخصوصا ان الحاكم كف عن ان يكون ممثلا للشعب بمقدار ما بات تعبيرا عن الجماعة التي ينتسب اليها. الاسوأ من ذلك، سيادة ظاهرة ارتباط الاستبداد بنوع من الايمان بالخرافات والغيبيات واستخدام اللاهوت الديني في اسباغ المشروعية عليه. في هذا الاطار لا يعود غريبا ان تتحول الجيوش الى اداة لسحق الانسان العربي والى سيادة نظام الطاعة المطلق بدل ان تكون مكرسة للدفاع عن الوطن من العدو الخارجي وعن المواطن في الداخل وحماية حقوقه، اضافة الى تكريس نوع من عسكرة هذه المجتمعات العربية. هكذا ترافق هذا الارتداد عن الدولة بانحسار في النهوض الاقتصادي، كما ساد الفقر والبطالة والامية والفساد، ونجم عن ذلك غياب المحاسبة والمراقبة. وفي ظل هذا التسلط على الدولة ومؤسساتها وممارستها، استشرى الفساد السياسي والاداري في كل مكان، وتوزعت المواقع السياسية على اصحاب النفوذ على شاكلة اقطاعات كحصص سياسية وموارد اقتصادية وشركات عاملة. الاخطر من ذلك كله، غياب تداول السلطة بل احتكارها في يد اقلية مسيطرة وسيادة منطق التوريث في الدول الجمهورية على غرار ما هو سائد في الانظمة الملكية، وهو امر يحرم الشعوب حق المشاركة واختيار الحاكم فضلا عن محاسبته.
لا يعود غريبا بعد ذلك ان تنبعث في العالم العربي مكوّنات ما قبل الدولة، من استعادة للطوائف والعصبيات القبلية والعلاقات العشائرية، وان يحتدم الصراع في ما بينها من اجل اقتسام المؤسسات والبلدان اجمالا. يشهد على ذلك حجم الاصطفاف الذي تعيشه المجتمعات العربية وامكان تحوله حروبا اهلية تهدد العديد من الاقطار وتهز كيانات راسخة في المنطقة. في ظل هذا المناخ تصبح الاستعانة بالخارج اساسية في حسم الصراعات وتحقيق الغلبة لمصلحة هذه الجماعة او تلك. كما تصبح قدرة هذا الخارج على النفاذ الى قلب المجتمعات العربية واختراقها اكثر يسرا وسهولة في التلاعب بالكيانات.
هكذا بعد مسيرة اكثر من نصف قرن يبدو العالم العربي امام تداعيات متتالية في منطق قيام الدولة لصالح منطق سلطة التهمت الدولة واجهزت على المجتمع في آن واحد. ألغيت فكرة الوطن وحل مكانها النظام، وسادت نظرية حرمان الشعب من السياسة كأفضل سبيل لضمان سيطرة السلطة على ما بقي من الدولة وعلى المجتمع نفسه. ضاعت قشرة الحداثة التي بدا ان المجتمعات العربية قد حققتها وخصوصا منها التي عرفت تجربة في التطور والليبيرالية الى هذا الحد او ذاك.
تحديث ام حداثة؟
يوحي المشهد العربي في مظاهره المتعددة بتطور تقني وتكنولوجي يحتل موقعا متقدماً في الحياة اليومية. ثمة ظواهر تتمثل في استخدام التقنيات الحديثة وبناء الابراج الضخمة في بعض البلدان العربية، اضافة الى دخول منتجات التكنولوجيا في اكثر من مجال صناعي وزراعي وتجاري وفي تسليح الجيوش، وقيام انظمة قاربت اعتماد علاقات رأسمالية والاقتراب من بناء دول قائمة على دساتير وقوانين...، هذه كلها مظاهر تشي بدخول عالم الحداثة الى غالبية المجتمعات العربية. لكن التدقيق في حدود هذا التقدم ثم في الارتداد عنه، يسمح بالقول ان ما عرفته المجتمعات العربية تغلب عليه صفة التحديث وليس الحداثة، حيث يجري نقل هذه التكنولوجيا مقترنةً برفض الافكار الفلسفية والسياسية والاجتماعية التي انتجتها بحجة مخالفة هذه الافكار للتراث العربي والاسلامي وتناقضها مع النصوص الدينية الاساسية، وهو ما يعني عمليا الاكتفاء باستهلاك هذه التقنيات من دون القدرة على المساهمة في انتاجها الا بالجزء القليل. وهذا من شأنه أن يضع حدا فاصلا بين ادعاءت "الحداثة" العربية والحداثة الغربية بمعناها الفعلي كما تجسدت ولا تزال في المجتمعات المتقدمة.
لا يمكن تجاهل المحاولات العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اليوم لدق ابواب التقدم والسعي الى اكتساب منتجات الحداثة الغربية في مختلف الميادين. منذ طرح رواد النهضة السؤال عن سبب تخلف العرب وتقدم الغرب، استمر النقاش دائرا حول السبل التي تنقل المجتمعات العربية الى رحاب الحداثة. تحققت بعض الانجازات في الربع الاول من القرن العشرين، ثم تطورت مع صعود مشروع التحديث العربي في الخمسينات والستينات. لكن الهزائم العربية عسكريا وسياسيا امام العدو الخارجي وخصوصا المشروع الصهيوني وعودة الاستعمار الى المنطقة، مضافا اليها الهزائم الداخلية على مستوى عجز الانظمة الحاكمة عن تحقيق وعودها في التقدم الاجتماعي والاقتصادي وتحلل مقومات الدولة لصالح البنى التقليدية، ادت الى ارتداد واسع عما كانت القشرة الحداثية قد اخترقته داخل المجتمعات العربية. وفي تفحص لبعض المؤشرات الدالة على "الحداثة العربية" يمكن تبيان الارض التي تقف عليها عربيا وحجم الاعاقة الكبيرة والارتداد قياسا على عقود سابقة.
شكل انتصار العقلانية احد اهم المنجزات الاوروبية التي سمحت في تحقيق الحداثة، فلم يكن للحداثة ان تسود من دون تسليط سيف النقد على كل شيء وتسييد العقل حكما وحاكما مطلقا. في هذا المجال يواجه العقل العربي محنة من حيث تعطيل عمله والمنكفئ الى الظل. من ابرز مظاهر "قمع العقل" العربي منعه من اخضاع التراث السائد للقراءة النقدية. يجتاح التراث العربي والاسلامي الحياة العربية ويضع المواطن في قلب القرون الماضية. الاخطر هنا، ان ما يبعث من التراث لا يطاول جانبه الانساني او العقلاني المضيء، وهو تراث ساهم في نهضة الغرب وحداثته، بل ان ما يجري تكريسه على العقول العربية هو "ترفيع" ثقافة الخرافات والاساطير وتسييدها على الذهنية العربية.
تتغذى هذه الخرافات من الاساطير الدينية ومن تراث البنى التقليدية المتخلفة. تؤشر ارقام مبيعات الكتب الى غلبة ساحقة للكتب التراثية التي تركّز على الاساطير والفلك وسير رجال الدين والفقهاء والائمة وتدعو الى اعتمادها في تلقين الاجيال الطالعة. تترافق العودة الى تقديس التراث والتموضع في الماضي الى اطلاق نظرية المؤامرة التي يقودها الغرب الهادف الى ممارسة الغزو الثقافي واقتلاع الهوية العربية والاسلامية لصالح منظومته الفكرية وضمن اطار الهيمنة على العالم العربي ونهب ثرواته.
تلعب المؤسسة الدينية دورا مهما في اعاقة الحداثة في العالم العربي، وتعاونها في ذلك السلطات السياسية الحاكمة ومعها البنى التقليدية، العشائرية والقبلية والطائفية. تنصّب هذه المؤسسة نفسها مراقبا على حرية الفكر والعقل وتحدد "المسموح وغير المسموح التفكير فيه". تحارب الإنتاج الفكري الهادف الى تكريس العقلانية في قراءة معضلات المجتمعات العربية، وتصدر الفتاوى في مصادرة الكتب ومنع التعرض الى قضايا محددة، ولا تتورع عن فتاوى التحريم والتكفير والهرطقة بما يضع حياة المفكر والكاتب تحت رحمة قوى التطرف والتخلف، وهذه ظاهرة شهدها المجتمع العربي في مناسبات عديدة على غرار ما عرفته محاكم التفتيش في القرون الوسطى الاوروبية. يصعب مواجهة التخلف العربي من دون تقليص دور المؤسسة الدينية في الحياة العامة، والحد من تواطؤ السلطة السياسية معها في تكريس هيمنتها، وهو شأن كان في صميم المعركة الاوروبية في سبيل التنوير والحداثة.
يسجل انبعاث الاصوليات بعنفها وتطرفها واستخدامها الدين في السياسة وتسليط تفسيرها الاحادي الجانب له بما يخدم اهدافها، اهم هزيمة في العقود الاخيرة لمشروع مقاربة العالم العربي للحداثة. نحن امام حركات تهدف الى اعادة المجتمعات العربية الى القرون البدائية عبر حجز تطورها بالعنف والارهاب، وتخضع كل مظاهر الحياة اليومية الى منطق المقدس وتقديس ما هو غير مقدس عبر احلال طقوس تتناول السلوك اليومي والقضايا الاكثر دنيوية. اما الخطر الاكبر للحركات الاصولية على التقدم فنابع من برنامج هذه الحركات الذي يصل في مآله الاخير الى تدمير الدولة والمجتمع في آن واحد وتكريس الفوضى وكل ما هو متخلف من قوانين وعادات. تمثل هذه الاصوليات العدو الاشد للحداثة بمعناها الفكري والعقلاني والثقافي والفلسفي، ومن المفارقات انها من اكثر مستخدمي التكنولوجيا بمنتجاتها الحديثة في اعمالها الارهابية.
تمثل النظرة التي لا تزال سائدة تجاه المرأة في المجتمعات العربية دلالة جارحة على اعاقة الحداثة. تعاني المرأة التمييز بينها وبين الرجل والانتقاص من حقوقها في ميادين متعددة. على رغم بعض التقدم الذي حصّلته في نضالها ضد "المجتمع الذكوري" الا ان التعاطي معها كإنسان منقوص الحقوق وفاقد الاهلية في ميادين معينة، لا يزال يشكل عبئا على ممارستها دورها في المجتمع. فخلف الابراج العالية والمظاهر البراقة في الحياة العامة تكمن نظرة معادية للمرأة كإنسان يمتلك المقومات نفسها التي يمتلكها الرجل. في هذا المجال تتحمل البنى المتخلفة السائدة في الغالبية الساحقة من المجتمعات العربية مسؤولية تكريس هذا التمييز لصالح الرجل، كما تلعب النصوص التراثية والدينية وتلطي المؤسسة الدينية خلفها دورا في منع المرأة من احتلال الموقع الطبيعي الذي تستحق. ان نضال المرأة لامتلاكها كامل الحقوق المعطاة للرجل، هي معركة في صميم النضال للوصول الى الحداثة، ويصعب تصور خروج المجتمعات العربية من اسر التخلف طالما ان اكثر من نصف المجتمع منقوصة حقوقه العامة والخاصة.
تشكل مناهج التعليم وحجم التقدم العلمي والانتاج فيه احد معوقات الحداثة العربية. لا تزال مناهج التعليم بعيدة عن مواكبة تطورات العصر ولا صلة لها عمليا بحاجات التقدم والتطور الاجتماعي، وهو امر يفسر ضعف العالم العربي، الاقرب الى العجز، وعدم قدرته على تقديم منجزات علمية وتقنية تجاري ما هو سائد في انحاء عديدة من العالم المتقدم. الى ذلك فإن التعليم العربي عجز ايضا عن حل معضلة الامية التي يرزح ثلث سكان العالم العربي تحت ربقتها. وتترافق هذه الامية مع مستوى عال من الفقر والبطالة، وهي مؤشرات حاجزة للحداثة، بل على العكس تشكل ارضا خصبة للتطرف والعنف والارهاب وتأبيد التخلف.
لا مجال بعد هذه الاشارات للقول ان ما عرفه العالم العربي يقع في صلب انجاز الحداثة، لان العيش ماديا في القرن الحادي والعشرين يترافق ذهنيا مع العيش في القرون البائدة. وهو امر يسمح بحكم يرى ان المجتمعات العربية مصابة بانفصام في الشخصية ناجم عن هيمنة الافكار التقليدية البالية من جهة وعن الشبق في استيراد احدث انواع التجهيزات والاختراعات التكنولوجية واستخدامها من جهة اخرى.
فرد حرّ أم جماعة؟
كان التأسيس للفرد المواطن الحر احد الشروط التاريخية التي قامت عليها الحضارة الاوروبية وازدهرت، كما شكل الاساس في شرعية السلطة والدعامة الرئيسية التي نهضت عليها الديموقراطية. لم يكن لهذا الانجاز ان يتحقق من دون قيام الدولة – الامة  وفصل المجال الديني عن السياسي وتحويل انتماء الانسان من الجماعات الخاصة القبلية والعشائرية والطائفية الى المجال العام المتمثل هذه المرة في الدولة. في رحاب هذا التحول وعلى اساسه، قامت نظرية الحقوق ونشأت نظرية المواطنية التي يعرفها الفكر السياسي على انها انتماء افراد شعب محدد وفي رقعة جغرافية الى وطن واحد لجميع ابنائه والى انتظام هذا الشعب ضمن منظومة واحدة في ظل الخضوع لدستور وقوانين ومؤسسات تظللها حقوق وواجبات متساوية لابناء الشعب من دون تمييز عرقي او جنسي او طائفي. فهل استطاعت المجتمعات العربية التوصل الى تأسيس مواطنية تخرج شعوبها من سجون التشكيلات الاجتماعية البدائية المتمثلة في القبيلة والطائفة والمذهب؟ ليس من الصعب اعطاء جواب سريع عن عجز الوصول الى مثل هذا الانجاز، مما يجعل "الحداثة العربية" بعيدة عن الوصول الى المواطنية في ظل اعاقات متعددة لا يزال زخمها يسير تصاعديا في زمننا الراهن.
شكلت الايديولوجيات التي سادت او حكمت في المنطقة العربية والمنظومة الفكرية التي حملتها، عائقا في نشر مفهوم المواطن - الفرد على امتداد عقود. تشترك الايديولوجيات القومية العربية والاشتراكية والاسلامية في تهميش دور الفرد والحد حتى من تكوّنه الخاص، عبر اقصائه عن الفعل في الوقائع السياسية والاقتصادية والاجتماعية لصالح الذوبان في الجماعة وتحت عنوان التضحية بالذات في سبيل القضية العامة.
عامل اخر في الاعاقة يتصل بفشل الدولة – الامة التي ولدت مشوّهة ومعوقة عن تحقيق المواطنية لاسباب تعود الى عجزها عن تحقيق اندماج اجتماعي على قاعدة الاعتراف بحقوق المجموعات السائدة ومنع التمييز في ما بينها، وذلك بسبب غياب الديموقراطية كوسيلة تحفظ هذه الحقوق. يرتبط بهذه النقطة ان الانظمة السائدة تتسم بالاستبداد وتجميع السلطات في يد فرد او مجموعة افراد تقوم ممارستها على القمع وحجز الحريات السياسية ومنع التعبير عن الرأي والانتظام في مؤسسات المجتمع المدني، وهي شروط ضرورية لتفتح الفرد ونمو قدرته على ممارسة دوره المستقل.
ازدهرت في العقود الاخيرة الحركات الاصولية والسلفية، التي تقوم نظريتها على نفي مفهوم المواطنية الحديثة واعتباره مناهضا للشريعة الاسلامية. تفرز الاصوليات في غالبيتها المجتمعات بين "دار الاسلام" و"دار الكفر" فتمنح حقوقا للاولى وتحجبها عن الاخرى. ان اتساع شعبية هذه الحركات واحتلالها موقعا في الحياة السياسية في كل البلدان العربية تقريبا، يجعل ايديولوجيتها عنصرا فاعلا في الاعاقة وخصوصا انها تمزج بين استحضار الموروث المتخلف الذي لا تزال رموزه وجذوره عميقة في العقلية العربية، مقترنةً بالاعتماد اساسا على النص الديني وفق تفسيرات ضيقة له وبما يتوافق توجهاتها، بما يعطي هذه الاصوليات قوة مضاعفة في التأثير والاستقطاب ومن خلال استخدام وسائل الاعلام المتاحة لها بقوة لترويج افكارها.
اذا اردنا رصد مصير المواطنية وموقع الفرد في المجتمعات العربية فيمكن القول انها سائرة من ارتداد الى آخر. انعكست الهزائم العسكرية والسياسية والثقافية خارجيا وداخليا على مجمل الاوضاع العربي، ومن ابرز نتائجها ارتداد هذه المجتمعات الى مقومات ما قبل الدولة من خلال انبعاث صارخ لعصبيات الماضي واستحضارها لتشكل عنصرا مقررا في مصير الانسان العربي ومجمل سلوكه العام والخاص. يشهد اكثر من بلد عربي انتقالا متسارعا لمهمات الدولة لصالح الجماعات الخاصة. يترتب على ذلك انشداد ولاء الفرد الى هذه الجماعات سياسيا واقتصاديا وثقافيا واعتبارها مصدر الحماية الخاصة. تشهد على هذه الظاهرة بعض البلدان التي اندلعت فيها ازمات سياسية حارة او حروب اهلية تتخذ بوضوح طابعا طائفيا ومذهبيا او بين قبائل مختلفة الهويات، وما يحصل حاليا في اكثر من بلد عربي مرشح للاتساع في ظل الارض التي تهيئ لمثل هذه الانفجارات التي تسير حثيثا في تدمير الكيانات والانظمة على السواء.
تحوي المجتمعات المتقدمة بنى ما قبل دولتية، وهي لا تزال تفعل في ميادين عديدة لكن تطور الدولة وسيطرتها على المجال العام جعل فعل هذه الجماعات محكوما بشروط تقع تحت سقف المواطنية، مما يعني ان هذه المعضلات العربية ليست ابدية او غير قابلة للاحتواء، لكن ذلك يظل مشروطا بقيام الدولة وخضوع جميع مكونات المجتمع الى قوانينها وسلطتها.
اذا كانت الحداثة في العالم العربي استعصت على التحقق، واذا كانت هذه الحداثة استوجبت قروناً لتتحقق في اوروبا، فهل يعني ذلك ان العالم العربي بعيد عن الوصول الى التقدم ومحكوم ان يبقى داخل قضبان التخلف الى ما لا نهاية؟ ليس من جواب حتمي في هذا المجال. ان مستوى التطور البشري المنظور اليه من خلال الثورة التكنولوجية وخصوصا ثورة الاتصالات، يسمح اليوم بتواصل اكبر بما لا يقاس من السابق بين الثقافات والحضارات لتأمين التفاعل في ما بينها. في امكان العرب اختصار المسافات الزمنية والتسريع في الافادة من نقل منتجات هذه التكنولوجيا في تطوير المجتمعات العربية، لكن ذلك يتطلب ولادة قوى سياسية وشعبية تضع في اولوياتها كيفية الحد من عوامل التخلف العربي والتصدي لمعطياته في جميع الميادين. قد يبدو المشهد الراهن شديد السواد، لكن اذا اخذ على المستوى التاريخي فإن إمكان الحد من السلبيات الراهنة يقع في حيز الاحتمال

المشاريع الوحدوية العربية وتحديات البنى الوطنية

 لا يزال الفكر السياسي العربي ينطلق من مقولة غياب الوحدة العربية كعامل مقرر في الانقسام العربي والعجز عن مواجهة المعضلات والمصاعب الداخلية والخارجية. يعتبر هذا الفكر ان الوحدة العربية امر بديهي ويعزو عدم تحققها الى المؤمرات الخارجية والاطماع الاستعمارية. يغيب عن هذا المنطق والنهج في القراءة ان التجزئة العربية هي الاساس وليس الوحدة، وان اي نقاش في واقع العالم العربي يجب ان ينطلق من رؤية هذه التجزئة وتجذرها في المجتمعات العربية، بحيث يتوجب قراءة عوامل استمرارها وهيمنتها كشرط اساسي لفهم الاسباب التي منعت وما تزال وصول العالم العربي الى تحقيق حد ادنى من مكونات توحيدية. وهو امر يستدعي قراءة في الخطاب السياسي العربي حول الوحدة، والنظر الى المشاريع الوحدوية التي قامت على امتداد خمسين عاما، لتبيان الاسباب الداخلية والخارجية التي اعاقت نجاح هذه الوحدات، وصولا الى السؤال الراهن – المقبل حول شروط قيام هذه الوحدة.

الوحدة في الخطاب السياسي العربي
يعود شعار الوحدة العربية الى نهايات القرن التاسع عشر واستمر مرفوعا على امتداد القرن العشرين. تمحور مضمونه حول ان هذه الوحدة تساهم في خلق دولة عربية واحدة تستطيع اذا ما وظفت مواردها الضخمة من وضع الامة العربية في مصاف الدول المتقدمة، وتزيل التخلف الذي تقيم فيه الدول العربية سواء في الميدان الاقتصادي او العلمي والتربوي او في مجال الاصلاحات السياسية. وتركز الشعار حول كون هذه الوحدة ستمكن الامة العربية من مواجهة المشاريع الاستعمارية الخارجية المتمثلة في الاستعمار والمشروع الصهيوني بما يؤمن لهذه الشعوب التحرر والاستقلال. على امتداد قرن، تنوع الخطاب الوحدوي وتفاوت في طروحاته واهدافه بما يعكس الخلفية الفكرية التي كان ينطق كل طرف من خلالها، بحيث سادت ثلاثة خطب رئيسية:الخطاب القومي العربي، الخطاب الاشتراكي ثم الخطاب الاسلامي.
يشكل الخطاب القومي العربي الذي مثلته الناصرية وحزب البعث وحركة القوميين العرب الخطاب الاكثر هيمنة على امتداد نصف قرن. اخترق شعار الوحدة البرامج الساسية وكان في صلب المقومات الفكرية لهذه المشاريع. ما يزال شعار البعث "وحدة، حرية، اشتراكية" شعارا مركزيا حتى اليوم. وما زالت بقايا القوى الناصرية تهزج بشعار "حرية، اشتراكية، وحدة"، كما ما تزال الاطراف ذات الانتماء القومي العربي تضع في رأس مطالبها قضية الوحدة. مع الاشارة الى ان هذا الخطاب كان في عقود مضت يستقطب الملايين من الجماهير العربية، فيما فقد وهجه منذ عقود خصوصا بعد هزيمة حزيران 1967.
تكمن معضلة الخطاب القومي العربي من كونه يلتزم مقولة ثابتة ترى االامة العربية امة ناجزة التكوين بل هي قائمة ومتحققة منذ السيطرة العثمانية، بل يذهب بعض منظري الخطاب الى تنسيب ورسوخ التكون القومي الى قرون سابقة على اطلاق شعار الوحدة القومية. يعتبر اصحاب هذا الخطاب ان التجزئة فعل استعماري هدف الى منع قيام الوحدة. يكمن الخطأ هنا في   جهل لمكونات المجتمعات العربية التي تسودها العصبيات التقليدية ذات السمة العشائرية والقبلية والاثنية والطائفية. ويتجاهل هذا الخطاب ايضا ان الاصل في الواقع العربي هو التفتت والتجزئة، وهو لم يعرف يوما هذه الوحدة "الموهومة" التي اسقطها الخطاب القومي على العالم العربي وحسم بان الامة قائمة ومتكونة فيه على اكمل وجه.
تسود في الخطاب القومي العربي نظرية المؤامرة الاستعمارية التي جزأت المنطقة العربية واقامت فيها دويلات وكيانات منذ نهاية الحرب العالمية الاولى وعبر اتفاقات "سايكس-بيكو". لم يقسم الاستعمار المنطقة العربية، بل بنى على واقع مجزأ في الاصل، وركب كيانات ذات وظائف متعددة بما يتوافق مع استراتيجيته ومصالحه، وسيجها بانظمة استبدادية محلية وبحراسة عسكرية مباشرة او عبر زرع المشروع الاستيطاني الصهيوني. هكذا يغيب عن الفكر القومي اجمالا تجاهل ان واقع التجزئة القائم وطبيعة بنى المجتمعات العربية شكلت العامل الرئيسي في نجاح الاستعمار وتضخيمه للتجزئة العربية. لا يمنع هذا من الاشارة الى ان محاولات وحدوية غالبت هذا الواقع وسعت الى وحدات سرعان ما كان الاستعمار الفرنسي والبريطاني يطيحان بها من خلال الاعتماد على القوى العربية الداخلية.
يضاف الى هذه العناصر مسألة اساسية تتصل بالنظرة الشوفينية للفكر القومي العربي والتعصب الاعمى تجاه رفض الاعتراف بخصوصيات المجتمعات العربية واعتبار كل من لا يعتمد هذا الفكروفق الطرح السائد عميلا للاستعمار او مناهضا للوحدة. ظل هذا الخطاب داعيا الى الوحدة الاندماجية بين اقطار الوطن العربي من دون الاخذ بمدى توفر شروط التوحيد سواء على صعيد البنى القائمة او على مدى نضج المجتمعات للانضمام لمثل هذه الوحدة. وهو خطاب خلق توجسا في كل بلد يضم اثنيات واعراق ذات خصوصية محددة. سيشكل هذا الخطاب غير الديمقراطي تجاه البنى القائمة واحدا من عناصر رفض المشروع الوحدوي  وتمسك الاقليات بالكيانات القطرية القائمة التي تضمن لها  على الاقل عدم انصهارها وذوبانها وسط الغالبيةالسائدة.
يتقاطع الخطاب الاشتراكي تجاه الوحدة مع الخطاب القومي العربي في اعتبار العالم العربي منجز التكوين كأمة ومجتمع موحد، بما يعنيه من وجود طبقات متعددة وفق التحليل الماركسي لبنى المجتمعات. غلبت النظرة "الطبقوية" على رؤية التناقضات المجتمعية وجرى الاخذ بنظرة ترى ان المنطقة العربية ساحة اصطراع طبقات اولا وآخرا. تفاوتت نظرة اليسار تجاه الوحدة، نظر اليسار ذو المرجعية السوفياتية والكلاسيكية الى موضوع الوحدة العربية بوصفها امتدادا لنظرة قومية ترفعها البورجوازية وتهدف من ورائها حرف النضال الطبقي وتحويره عن مجراه الاممي بما يمنع اقامة السلطة العمالية بقيادة البروليتاريا. مقابل هذه النظرة المضادة لمنطق الوحدة والتي وجدت ترجمتها في معارضة الوحدة السورية المصرية عام 1958، اعتمد اليسار ذو المنابت القومية وجهة تدعو الى بناء الدولة الاشتراكية مؤكدة ان طريق الاشتراكية عربي بامتياز، مما عنى التزام الوحدة كشرط للوصول الى هذه الدولة بقيادة الطبقة العاملة. تجدر الاشارة هنا الى ان واقع الانقسام العربي الراهن دفع بنظرية الوحدة في الخطاب اليساري بعيدا الى الخلف.
مقابل الخطابين القومي واليساري، كان للخطاب الاسلامي موقعه في الماضي، وما يزال متصاعدا راهنا ولا يتوقع له انحسار مستقبلا. يقوم الخطاب الاسلامي على رفض الدعوات الوحدوية كما قال بها الخطابان القومي واليساري، يرى هذا الخطاب ان الدعوة لوحدة العالم العربي تتجاهل ان هذا العالم هو جزء من الامة الاسلامية الواسعة والتي يشكل الوطن العربي احد مناطقها. فالاصرار على الدعوة الوحدوية تتسبب في تفريق المسلمين وتعطي حقوقا متساوية لغير المسلمين بما يشركهم في السلطة، وهو امر يتنافى مع الاسلام. بديلا عن الوحدة العربية يرى الخطاب الاسلامي ان الدعوة الحقيقية هي لاعادة الخلافة كما كانت قبل ان يلغيها مصطفى كمال في تركيا مطلع القرن الماضي. عرف الخطاب الاسلامي مراحل انكفاء في الخمسينات والستينات عندما كان المد القومي صاعدا وكانت الدعوة الى الوحدة تلهب الجماهير العربية من المحيط الى الخليج. ساهمت الهزائم التي مني بها المشروع القومي العربي وادت الى تراجع الخطاب الوحدوي في انتعاش الخطاب الاسلامي الذي قدم نفسه بديلا منقذا للامة العربية- الاسلامية في دعوة "ما فوق قومية" تجد صداها في انبعاث الحركات الاسلامية خصوصا الاصولية منها وسعيها الى الاستيلاء على السلطة في كل مكان.
المشاريع الوحدوية خلال نصف قرن
تعود المشاريع الوحدوية العربية الى مطلع القرن العشرين وبالتحديد مع اعلان الشريف حسين ثورته على الدولة العثمانية. اعطت بريطانيا وعودا له بتحقيق الوحدة العربية لبلاد الجزيرة العربية والمشرق ثمنا للتحالف معها خلال الحرب العالمية الاولى، لكن بريطانيا ومعها فرنسا لم تكن في وارد اي توحيد عربي، بل على العكس من ذلك، ففيما كانت تغدق الوعود على العرب بتحقيق مطالبهم، كانت ترسم مع فرنسا خرائط اقتسام المنطقة في ما بينهما، وهو ما تحقق خلال الحرب وبعدها، فوضعت بلدان تحت الانتداب البريطاني واخرى تحت الانتداب الفرنسي واعطت بريطانيا وعدا باقامة دولة لليهود على ارض فلسطين. هكذا تبخر حلم الوحدة وتكرست التجزئة القائمة اصلا واقام الاستعمار على بنى التجزئة دويلات سعى ان تحوي متناقضات بنيوية بما يسمح ان تكون على تصارع في الداخل وعلى طلب الحماية الدائمة من الخارج.
منذ مطلع القرن الماضي وحتى الاربعينات منه، عرف العالم العربي نشؤ كيانات كانت في معظمها تحت السلطة الاستعمارية. تجدد مطلب الوحدة بعد الحرب العالمية الثانية ضمن الشعارات نفسها الداعية الى التحرر من الاستعمار وتحقيق الاستقلال وصولا الى الوحدة الشاملة، وترافقت هذه المرة مع صعود للتيار القومي العربي الداعي الى تحقيق الوحدة فورا. بين الاربعينات والتسعينات من القرن الماضي جرى تسجيل حوالي 28 مشروعا للوحدة بين مجموعات من الدول لم يتحقق منها سوى القليل، ما لبث ان انفرط عقده سريعا. من اجل انعاش الذاكرة والاضاءة على معضلة الوحدة وشعارها، بمكن ايراد هذه المشاريع استنادا الى الوثائق الرسمية.
بدأت المشاريع الوحدوية بمعاهدة الاخوة والتعاون بين الاردن والعراق عام 1947، ومشروع ناظم القدسي رئيس وزراء سوريا لاتحاد الدول العربية عام 1951.في العام 1952 جرى توقيع اتفاق بين مصر والاستقلاليين في السودان، وفي العام 1955 وضع ميثاق عسكري بين مصر والمملكة العربية السعودية، وفي العام 1957 وقعت اتفاقية التضامن العربي بين الاردن والسعودية والعراق. في العام 1958 قامت وحدة بين مصر وسوريا شكلت المشروع الفعلي آنذاك واندمج البلدان تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة، والتي لم تستمر سوى ثلاث سنوات ليجري الانفصال بينهما في العام 1961. في العام 1964 وقعت اتفاقية التنسيق السياسي بين العراق والجمهورية العربية المتحدة (مصر حصرا)، وفي العام نفسه جرى توقيع اتفاقية بين مصر واليمن. في العام 1965اعلن البيان المشترك للقيادة السياسية الموحدة المصرية- العراقية، وفي العام 1967وقعت اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والمملكة الاردنية الهاشمية، تبعها في العام نفسه بروتوكول انضمام الجمهورية العراقية لاتفاقية الدفاع المشترك بين مصر والاردن. على صعيد الخليج العربي، وقعت اتفاقية اتحاد ابو ظبي ودبي عام 1968 وتبعها في العام نفسه البيان المشترك لاتحاد الامارات العربية في الخليج العربي، واستكمل عام      1971باعلان اتحاد امارات الخليج العربي. في العام 1972 صدر بيان حول الوحدة بين مصر وليبيا، وفي العام 1976 جرى انشاء قيادة سياسية موحدة بين مصر وسوريا، تبعه في العام انضمام السودان الى هذه القيادة. وفي العام 1978 جرى توقيع ميثاق العمل القومي المشترك بين سوريا والعراق، وفي العام 1980 اعلن قيام الوحدة الاندماجية بين سوريا وليبيا.
 اما في دول المغرب العربي، فقد تم توقيع معاهدة اخاء ووفاق بين تونس والجزائر عام 1983، كما وقعت معاهدة الاتحاد العربي الافريقي بين المملكة المغربية وليبيا. وفي العام 1984 جرى توقيع بيان وحدوي بين تونس وليبيا ، ثم ميثاق الاخاء بين مصر والسودان عام1988. اما على صعيد الاتفاقات الوحدوية في الجانب الاقتصادي، فقد انشيء مجلس التعاون العربي بين مصر والاردن والعراق واليمن عام 1989، تبعه في العام نفسه انشاء اتحاد المغرب العربي بين المغرب وتونس والجزائر وليبيا وموريتانيا. وكانت خاتمة المحاولات الوحدوية ما نصت عليه معاهدة الاخوة والتنسيق بين لبنان وسوريا عام 1991.
في عوامل فشل المحاولات الوحدوية
يطرح تناسل المشاريع الوحدوية والعجز عن تحقق اي واحد منها اوالصمود لاكثر من سنوات محدودة سؤالا يتجاوز نوايا اصحاب هذه المشاريع وسعي بعضهم فعليا الى انجاز نجاح في هذا المجال، لتطل على الاسباب البنيوية الداخلية للمجتمعات العربية ومعها الايديولوجيا الحاملة لهذه المشاريع، ثم التدقيق في دور العوامل الخارجية التي منعت هذه المشاريع من ترجمة نفسها على الارض. لا يمكن انكار ان بعض المشاريع كان اصحابها جادين في تحقيقها وكانت تعكس حاجة سياسية واقتصادية وعسكرية.. فيما لا نظلم غالبية المشاريع بانها كانت فولكلورية وفوقية، وكان اصحابها يدركون عدم جديتها، وان وظيفتها لا تتعدى امتصاص حاجات شعبية ومطالب احتدمت في فترات معينة تحت وطأة التحديات الداخلية والخارجية.
في النظر الى العوامل البنيوية الداخلية للفشل، يمكن القول ان الايدولوجيا القومية العربية ذات المبادئ العامة والغائمة والطوباوية تتحمل مسؤولية اساسية في فشل مشاريع الوحدة العربية. ان الاصرار على عمومية السمات العامة للمجتمعات العربية وجهوزيتها للوحدات الاندماجية فورا، واعتبار النكوص عن الوحدة سببا يقع على عاتق المسؤولين العرب وحدهم، هذه المقولة تجاهلت خصوصية كل قطر عربي وقفزت فوقها لتصطدم بجدران البنى المختلفة لكل قطر. كما جرت الاشارة لا تتكون المنطقة العربية من امة ناجزة التكون  بمقدار ما تحوي وحدات انتقالية متعسرة. بل ان البنى الوطنية القائمة على مكونات ما دون الدولة ما تزال هي المسيطرة، وتحجز الوحدة الداخلية لكل قطر في اسار جدرانها. فكيف يمكن لهذه البنى ان تتجاوب مع مشاريع ما فوق وطنية وتخضع نفسها لسلطات او بنى قد تؤدي بها الى الغاء هويتها وكينونتها. هنا يقع العامل البنيوي الاول في فشل المشاريع الوحدوية.
في العودة الى قراءة السياق السياسي لقيام هذه المشاريع، يتبين ان معظمها اتى تعبيرا عن محاور وتكتلات سياسية في اطار الصراع بين الاقطار العربية وحاجة بعضها الى الاصطفاف. على امتداد القرن الماضي لا سيما منذ الخمسينات شهدت المنطقة العربية صراعات حول خيارات سياسية واستراتيجية بين بعضها البعض، ولم تكن مفصولة عن الصراع الخارجي على المنطقة ودخوله في دعم هذا الاستقطاب ضد آخر. وكثيرا ما كانت عرى المشاريع الوحدوية تتهاوى وتنفرط بمجرد زوال او تقلص حدة التوتر بين الاستقطابات العربية. مما يعني ان هذه المشاربع الوحدوية لم تكن نابعة من خيارات قومية كما كان يدعي اصحابها، بمقدار ما كانت جوابا وتعبيرا عن مصالح ضيقة لهذ الحاكم او ذاك.
اتسمت جميع المشاريع الوحدوية، باستثناء الوحدة المصرية السورية، بانها كانت مشاريع فوقية اتت بمبادرة من الحكام ومن دون ان يكون لجماهير الاقطار المحددة دور في خيارها سلبا ام ايجابا. لم يسبق الاعلان عن الوحدات اي نقاش داخل كل قطر بما يظهر التباينات بين بنى هذا القطر او ذاك وكيف سيتم التعاطي مع الخصوصيات التي تشكل الاساس في انتماء هذه المجموعة او تلك الى "الوطن". في عالم عربي تسود فيه ايديولوجيا التجزئة وهيمنتها على الانضواء في مشروع واحد يطال من سلطة كل تجزئة، كان من الطبيعي ان يفشل اي مشروع جدي لان ضم تجزئة الى تجزئة لا ينتج وحدة، وهو واحد من القوانين العصية على التجاوز في الوطن العربي.
يمكن القول ان المنطقة العربية عرفت نموذجا اكثر جدية من اي مثال آخر حول تحقيق الوحدة، الا وهو الوحدة الاندماجية بين مصر وسورياعام 1958. قامت الوحدة بناء على طلب سوري ولقيت تجاوبا جماهيريا لم يسبق للعالم العربي ان عرفه في تاريخه. لم تستمرهذه الوحدة اكثر من ثلاث سنوات، فانفرط عقدها على اثر انقلاب سوري  كرّس الانفصال. ان فشل هذه الوحدة يؤكد انها كانت الاستثناء الذي عاد يثبت القاعدة حول اسباب تعثر قيام الوحدة. يجمع دارسو التجربة المصرية السورية ان فشلها يعود الى طبيعة السلطة التي مارستها القيادة المصرية، وهي سلطة همشت القوى السياسية السورية ومارست سلطة بيروقراطية على القطر السوري، وغابت عنها الحياة الديمقراطية التي تتيح لكل طرف ممارسة دوره وحقه في السلطة. يضاف الى ذلك ان تجاهلا حصل لخصوصيات القطر السوري بحيث تصرف الحاكم المصري هناك تجاه السوريين على شكل مماثل لكيفية الحكم تجاه الشعب المصري، وهو ماادى الى خلق تذمر من القوى السياسية السورية وشجعها على الانفصال. هذا من دون تجاهل العمل الخارجي غربيا واسرائيليا على المساهمة في افشال الوحدة وانفراط عقدها.
لم يكن فشل مشاريع الوحدة بعيدا عن سياسة الهيمنة والالحاق واعتماد التآمر وسيلة لهذه السياسة. تمثل نماذج ثلاثة ليست بعيدة العهد مصداقا لهذا الحكم. في العام 1978 وقع النظامان البعثيان في سوريا والعراق اتفاقا لتحقيق الوحدة بين القطرين. اعتبر الاتفاق من البديهيات القومية بالنظر الى ان النظامين ينتسبان الى حزب قومي واحد ويلتزمان ايديولوجيا وحدوية واحدة. لم يطل الامر شهورا محدودة على توقيع الاتفاق والبدء بالعمل على توحيد المؤسسات، حتى انفجر الصراع بين النظامين على قاعدة اتهام كل نظام للآخر بالسعي الى اسقاطه عبر انقلاب عسكري للسيطرة على القطرين معا. هكذا انفرط عقد هذه الوحدة على طبول اعدامات لقيادات من حزب البعث لم يسبق ان عرفها في تاريخه.
نموذج آخر يتصل بالخطوة التي اقدم عليها العراق بقيادة صدام حسين عام 1990 على غزو الكويت والحاقها بالعراق. لم تنقص صدام حسين الحجج القومجية في تبرير هذا الغزو، فاستحضر خطابا ينطوي على اعتبار ان الكويت كانت في الاصل جزءا من العراق، وان الاستعمار نزعها منه واقام امارة مستقلة. لذا يأتي غزو الكويت والحاقها بالعراق بمثابة تصحيح قومي لفعل استعماري وبما يعيد الحقوق الى الاصل. تسببت هذه السياسة "الوحدوية" في تدمير العراق واستحضار الاستعمار العسكري مجددا الى الارض العربية.
مثال ثالث جرت ممارسته من قبل النظام السوري تجاه لبنان على امتداد ثلاثين عاما بوصاية سورية كاملة على الشعب والارض والمجتمع اللبناني. لم يكف النظام السوري عن استحضار مقولة ان لبنان كان جزءا من سوريا الكبرى وان الانفصال عنها كان بقرار استعماري، وان الوجود السوري في لبنان لا ينفصل عن هدف تصحيح هذا لخلل التاريخي باعادة توحيد البلدين. من هنا كان الخطاب السوري يركز دوما على مقولة "شعب واحد في دولتين" وهو عنوان الوحدة في المفهوم السوري. لم تكن ممارسة النظام السوري في لبنان منطلقة من اخوة الشعبين بمقدار ما كانت سياسة الحاق وهيمنة واضطهاد للشعب اللبناني بجميع مكوناته، ونهبا منظما لثرواته.
اذا كانت التجزئة العربية المستندة الى بنى قبلية وعشائرية ودينية واثنية تظل العنصر الابرز في اعاقة تحقق الوحدة العربية، فان هذا لا يلغي دور العامل الخارجي المتمثل بمشروع السيطرة الامبريالية على المنطقة وباقامة دولة اسرائيل فيها. صحيح ان التجزئة العربية كانت قائمة قبل مجئ الاستعمار، لكن الاستعمار خصوصا بشقه البريطاني والفرنسي ثم لاحقا الاميركي سعى الى تثبيت هذه التجزئة وتضخيم مفاعيلها والبناء عليها، مما يجعل الحكم القائل "ان التجزئة القومية العربية هي اطار مشروع السيطرة الاستعمارية على المنطقة العربية" حكما كان صائبا في الماضي ومازال يحظى بكل الصواب في الزمن الراهن. انطلق المشروع الاستعماري من واقع التجزئة العربية فركب كيانات تتوافق مع الوظيفة السياسية لهذا المشروع وتحقق اهدافه الاستراتيجية في الهيمنة على ثروات المنطقة وخصوصا النفط منها وحراسة طرق المواصلات لتجارته واستخدام هذه الكيانات في الحرب الباردة ومنع تمدد الشيوعية. كان الاستعمار على الدوام حذرا ومناهضا لاي مشروع توحيدي، لذلك ظهرت بصماته في كل فشل وحدوي.لكن الدورالاساس الذي لعبه الاستعمار في تكريس التجزئة العربية انما يتجلى في دعمه لانظمة الاستبداد في العالم العربي، حيث وجد في تكريسها وحمايتها انجع الوسائل في حجز تطلعات الشعوب العربية الى الوحدة. يضاف الى ذلك رعاية هذا الاستعمار لصراعات الانظمة بعضها مع بعض بما اتاح له التدخل استجابة لطلب من هنا او هناك.
اتى مشروع اقامة دولة اسرائيل في سياق اندفاعة المشروع الامبريالي على المنطقة العربية. وانيط بهذا الكيان منذ اقامته ان يكون البوابة الامامية في حراسة المشروع الامبريالي والمخفر الامامي لحراسة التجزئة، وان يكون العصا الغليظة الرادعة لاي مس بالمصالح الاستراتيجية لهذا الاستعمار. مارست اسرائيل هذا الدور بامتياز من خلال الحروب التي خاضتها ضد العالم العربي وتسببت في هزيمته واقامته في التخلف طويلا ، كما ساهمت في تعثر نهوضه الاقتصادي والاجتماعي واي امكانية للتكامل بين اقطاره، كما تآمرت على كل مشروع وحدوي كانت ترى فيه امكان نهوض عربي في هذا لقطر او ذاك. لعبت دورا مهما في الحرب الباردة لصالح المعسكر الغربي وتولت نيابة عن الاستعمار استخدام العصا العسكرية ضد اي قطر عربي بدا ان سياسته تمس هذه المصالح. وما تزال اسرائيل ملتزمة هذه السياسة بما يجعلها الدولة الوحيدة الموحدة القوية فيما تستمر سائر البلدان العربية مكبلة بحبال التفكك والتشرذم.
شروط سؤال الوحدة
انحسرت المشاريع الوحدوية العربية من دون ان تزول الرغبات في حصولها، وهو امر سيظل مطروحا بشكل مستمر. لكن تجديد البحث في ضرورة الوحدة مشروط بمراجعة التجارب الوحدوية التي طرحت وظلت نظرية او بتلك التي تحققت على الارض ثم انفرط عقدها. لا بد لاي مراجعة ان تطال مفهوم الوحدة وعوامل تعسرها والايديولوجيا التي حملتها ودرجة التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بين البلدان العربية. ان النقاش ضروري اليوم، فوضع اليد على المعوقات وادراك اسبابها من العناصر المساعدة في تلمس طريق وحدوي جديد.
لا يضير العالم العربي ونخبه السياسية ان تدرس التجربة الاوروبية في الاتحاد المتكون منه حتى الان. في مقارنة بين العالم العربي واوروبا، يمكن القول ان العرب يملكون من الروابط التاريخية والثقافية اكثر بكثير مما تملكه الدول الاوروبية. لم تتوقف الحروب بين دول اوروبا الا بعد الحرب العالمية الثانية، وتسببت حروبها بين بعضها البعض في ملايين الضحايا الذين سقطوا على امتداد قرون. لكن القرار السياسي الاوروبي دفع في ضرورة تجاوز الماضي وبناء قارة جديدة اساسها الوصول الى وحدة اوروبية كاملة. انطلقت اوروبا وبالتدريج في سلوك التوحيد الاقتصادي عبر اتفاقات متوالية في كل مجال الى ان وصلت الى الوحدة الاقتصادية التي توجتها بالعملة الواحدة. حرصت الدول الاوروبية على اشراك شعوبها في كل خطوة توحيدية، واخضعت الاتفاقات الى استفتاءات شعبية، بما جعل طريق التوحيد يمر "من تحت". تلازم هذا التوحيد الاوروبي مع تحقيق مجتمعاتها حدا كبيرا من التحديث والحداثة بما سمح بقيام دولة القانون والمؤسسات والمساءلة وتكريس المواطنية وحقوق الفرد، وفصل الدين عن الدولة واخضاع المواطنين لسلطة القانون، وهي امور جرت كلها على قاعدة تحقيق الديمقراطية في هذه البلاد.
اذا كانت الديمقراطية في اوروبا العنصر الحاسم في تحقيق وحدتها، فان غياب الديمقراطية في العالم العربي يشكل العنصر الاساس في فشل توحد اقطارها. اذا كان تعسر الوصول الى اشكال من الوحدة مرتبطا بهيمنة بنى ماقبل الدولة من عشائرية وقبلية وطائفية واثنية، فان هذا يستدعي تحديد النقطة المركزية التي يصعب من دون تحققها التفكير في اي شكل وحدوي. ان بناء الدولة القطرية بشكلها الحالي بما يتجاوز البنى التقليدية السائدة وعلى قاعدة بناء مؤسسات القانون وتكريس المواطن الفرد والاعتراف بالخصوصبات السائدة وحقها في المساواة مع سائر المجموعات، كله على قاعدة الديمقراطية التي تكفل حقوق الافراد والجماعات وحقها في التعبير عن آرائها وافكارها، هو المدخل لمقاربة مسألة الوحدة العربية. فالتحدي اليوم في العالم العربي الوصول الى الدولة، بعدما  تآكلت تحت وطأة انبعاث الافكار ما فوق الوطنية وما فوق القومية، بما يهدد باندلاع حروب اهلية ذات طابع طائفي ومذهبي وقبلي، وهو امر يشهده اكثر من قطر عربي في الزمن الراهن.
على رغم الصعوبات التي يعيشها العالم العربي، فان سؤال الوحدة يصعب تجاوزه. في هذا المجال بمكن للعالم العربي ان يستوحي من التجربة الاوروبية بعض الامثلة. اذا كان تحقيق الوحدات الاندماجية سياسيا بين اقطار عربية يبدو مستحيلا اليوم ولا تصب مثل هذه الدعوة في خدمة المشروع الوحدوي العام، فان وسائل متعددة يمكن سلوكها ولو بشكل تجريبي تبدأ من ايجاد سوق عربية مشتركة تشكل قاعدة اساسية للتبادل الاقتصادي بين الاقطار العربية، واقامة علاقات ثقافية مشتركة وايجاد المؤسسات اللازمة لها، اضافة الى ايجاد مؤسسات تكاملية في المجالات التقنية والعلمية وغيرها، والغاء الحواجز الجمركية وفتح الحدود بما يتيح تنقل الافراد بحرية ومن دون قيود قانونية على حرية الحركة. كما يمكن انجاز اتفاقات كثيرة في ميادين متعددة.
ان انجاز مشروع الدولة في كل قطر عربي وتحقيق التوحد الداخلي فيه على قاعدة اقامة الديمقراطية، وقيام مؤسسات الوحدة في الميادين غير السياسية، وعلى قاعدة اشراك جماهير كل قطرفي كل خطوة وحدوية مهما كانت طبيعتها، امور تسمح بالتطلع الى التوحيد السياسي. الا ان الوصول الى هذه المرحلة يتطلب ان تكون الدول العربية قد قطعت اشواطا في تكريس علاقات ديمقراطية بين بعضها البعض وتجاوزت مفهوم الوحدة بالمعنى الانقلابي او الالحاقي واعترفت بعضها ببعض باستقلالية كل قطر وخصوصياته. ان هذين الشرطين، التوحيد الداخلي لكل قطرووتطور العلاقات الديمقراطية بين الاقطار العربية، يسمح بالانتقال الى البحث في الوحدة السياسية بين الاقطار العربية، بل ان مطلب الوحدة يصبح عندها مطلبا تقول به شعوب جميع الاقطار العربية لما تؤمنه هذه الوحدة من امكانت التقدم في جميع الميادين والافادة من ثروات المنطقة العربية الموظفة في خدمة هذا التقدم.
في عالم ينحو نحو التكتلات الاقليمية لمواجهة معضلاتها، بما فيها التضحية بالمصالح المحلية لصالح المدى الاوسع،وفي ظل عولمة زاحفة تفرض تحديات على المجتمعات البشرية في كل مكان، يصعب على العالم العربي القفز فوق مسألة الوحدة بين اقطاره، بل ان معضلات المجتمعات العربية المتفاقمة يوما بعد يوم تستدعي اعطاء قضية الوحدة زخما بما يضعها على السكة الصحيحة في مسارها. ان التجارب الوحدوية العربية والدروس المستفادة منها تفرض جمعا في مسيرة متعرجة تضع حدا فاصلا بين برامج اقتصادية وسياسية تتسم بالواقعية وتستند الى العياني والمباشر بما يسمح بخطوات متدرجة في هذا السبيل، وبين مشاريع وحدوية قائمة على الوهم وتحل الايديولوجيا محل الوقائع على غرار ما يزال سائدا في الفكر القومي والذي لم يكف عن عقد المؤتمرات الدائمة واجترار المقولات اياها التي عفا عليها الزمن وثبتت لا صلاحيتها عندما اختبرت على ارض الواقع.

الدين بين واقع النص ومعاشه

يشكِّل حوارُ الأديان منذ عقود أحد عناوين الجدل الفكري والسياسي الدائر في العالم. انعقدت حوله مؤتمراتٌ متعددة بين ممثلي الديانات التوحيدية الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلامية، استُحضِرَتْ فيها قضايا الخلاف وإمكانات التوافق. تشكلت في الجامعات معاهد أكاديمية متخصصة في الدراسات والأبحاث الخاصة بالمنظومات الدينية ومذاهبها. من الناحية النظرية، باتت غالبية المرجعيات الدينية تعترف بضرورة هذا الحوار وتشجع عليه. كرَّس الڤاتيكان في المجمع الثاني في العام 1965 أهمية الحوار مع الإسلام، كما أكَّد الأزهر أهمية التواصل أيضًا. لم يغبْ لبنان عن هذا الموضوع، فكانت له هيئاته وممثلوه ومرجعياته الطائفية.
إن مجرد الدعوة إلى سيادة الحوار بين الأديان يمثل، في حدِّ ذاته، مسألةً بالغة الإيجابية. فالحوار وسيلة للتفاهم وفضِّ النزاعات بالوسائل السلمية، وطريق للاعتراف المتبادل ومنع التكفير والنبذ، إضافةً إلى المساهمة في تحقيق التسويات. هكذا بات الحوار وسيلة مركزية من وسائل الديموقراطية وسعيها لإقامة علاقات عادلة يسودها الاحترام المتبادل بين البشر. في هذا الإطار، يطرح الحوار بين الأديان تساؤلاتٍ عن المدى الذي بلغه المتحاورون في شأنه. فما الحقيقي في هذا الحوار وما الشكلي؟
هل استطاع المتحاورون فعلاً ملامسة المسائل الخلافية الأساسية بين الأديان؟ وهل كانت لديهم الجرأة على وضع اليد على أسباب النزاعات الفعلية؟ هل يدور الحوار حقًّا حول المسائل الدينية، أم يتجاوزه إلى قضايا سياسية واجتماعية تبتعد عن الجانب الديني هربًا من مواجهة معضلاته الحقيقية؟ ثم لماذا راوح هذا الحوار في مكانه وعجز عن التوصل إلى حلول، على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على بدئه؟ لماذا يتجنب المتحاورون مواجهة الانبعاث الأصولي في الديانات التوحيدية الثلاث؟ ولماذا، أخيرًا، تخرج المؤتمرات والاجتماعات دائمًا بخلاصات تؤكد غلبة الخلافات والتباينات وضيق هامش نقاط التوافق؟
بعض الملاحظات الاعتراضية
يثير حوارُ الأديان ملاحظاتٍ هي أقرب إلى التحفظات والاعتراضات:
1.     تتصل الملاحظة الأولى باحتكار المرجعيات الدينية للتاريخ باعتباره تاريخًا للمسيحية والإسلام على العموم، واليهودية في بعض الأحيان. إنه تصنيف للتاريخ البشري يتجاهل حقيقة أن الأديان التي سادت، وبالأخص منها المسيحية والإسلام، كانت على الدوام أدوات في يد الدولة السائدة وسلطاتها، تقوم بوظيفة تسويغ شرعية السلطة وإصدار الفتاوى اللازمة لتبرير قراراتها وحضِّ الناس على التزامها. ينطبق الأمرُ نفسه على اليهودية التي يضطلع تيار رئيس من تياراتها اليوم بتأمين الغطاء الإيديولوجي للحركة الصهيونية ولاغتصابها أرض فلسطين وإقامة دولة يهودية عليها.
2.     تطال الملاحظة الثانية تصنيف البشر انطلاقًا من انتمائهم الديني أو الطائفي. وتكمن الخطورة فيه أنه ينطوي على رفض ضمني للفصل بين الدين والسياسة، وبالتالي لفكرة الإنسان–المواطن. كان تحقُّق المُواطَنة واحدًا من أبرز إنجازات صراع الديموقراطية مع الدولة الاستبدادية المستندة إلى الحاكمية الإلهية ومؤسستها الدينية؛ وهو صراع أمكن فيه انتزاع حرية الإنسان في اختيار الدين والعقيدة التي يشاء وحريته في أن يكون متدينًا أو غير متدين.
3.     تتعلق الملاحظة الثالثة باختزال المتحاورين للدين إلى المرجعيات التي يمثلونها. ليس صحيحًا أن ما يجري هو حوار بين الإسلام والمسيحية أو اليهودية، بل هو حوار يدور بين مسلمين ومسيحيين ويهود؛ والفارق كبير بين المفهومين. يصعب القول بوجود مرجعية واحدة للمسيحية يمثلها الڤاتيكان. فالمسيحية في الحقيقة مجموعة "مسيحيات" تختلف مرجعياتها في الرؤية الثيولوجية وفي الأصل الديني لعدد من المسائل. وهو أمر شهد عليه التاريخ، ولا يزال، عبر الخلافات بين الكاثوليك والپروتستانت والكنيسة الشرقية الأرثوذكسية. ينطبق الأمر نفسه على الإسلام، المتفرِّع هو الآخر إلى "إسلامات" متعددة المذاهب والشيع والمرجعيات. لا يمثل الأزهر جميع المسلمين السنَّة، كما لا تمثل قُمْ أو النجف جميع المسلمين الشيعة. لكلِّ طرف اجتهاداته ونظراته المتعارضة أحيانًا مع الطرف الآخر. كما أن الانتشار الواسع للديانتين الإسلامية والمسيحية يضفي خصوصيةً على كلِّ مجتمع من حيث ممارسة طقوسه ومعتقداته واجتهاداته في قراءة النص الديني.
4.     تتناول الملاحظة الرابعة إصرار المرجعيات الدينية المسيحية والإسلامية على اختزال الدين إليها ورفض الاعتراف بوجود ديانات أخرى ذات انتشار واسع، لا يقل أتباعها عددًا عن أتباع المسيحية أو الإسلام. يستبعد الحوار الديني الدائر حتى الآن التواصل مع الديانات البوذية والكونفوشية والهندوسية وغيرها، وهي أديان تحمل الكثير من نقاط اللقاء مع الأديان التوحيدية، وخصوصًا في الجوهر الروحي والإنساني والقيم التي تدعو البشر إلى الإيمان بها والتزامها.
5.     تشير الملاحظة الخامسة والأخيرة إلى أن فكرة الحوار ومساره لا تزال تُواجَه بتحفظات واعتراضات من مرجعيات دينية، علماء وفقهاء ورجال دين. تتغذى هذه الاعتراضات من موروثات فعلية لم يتجاوزها الزمن، وتتعلق بعدم اعتراف كلِّ دين بالآخر وبالاعتقاد الراسخ بضرورة دخول البشرية كلِّها هذا الدين أو ذاك لتنعم برضا الله وليتحقق لها الخلاص!
معضلات الحوار
لم تمنع التحفظات والاعتراضات الحوار من تحقيق خطوات متقدمة ومن فرض نفسه موضوعًا دائمًا على جدول أعمال المؤسسة الدينية. يدل على ذلك ما تحفل به رفوف المكتبات من عشرات الكتب التي تتطرق إلى هذا الموضوع وتجول فيه من جميع الجوانب. ولا تخفي الكتابات الصادرة والمنشورة حقيقة المشكلات التي واجهها هذا الحوار، ولا يزال، والمعضلات المنتصبة أمام المتحاورين التي جعلتْه يدور حتى الآن على نفسه ويعجز، إلى حدٍّ كبير، عن تحقيق الأهداف المرجوة وتحمُّل مشقة النقاش والسجال ومحاولات الإقناع.
ليس من قبيل المبالغة "اتهام" الأديان، من حيث تحديدُها وتعريفُها، بأنها بعيدة، إلى حدٍّ كبير، عن منطق الحوار. يعود سبب ذلك إلى ادعاء كلِّ دين لنفسه ملكية الحقيقة المطلقة وكون مبادئه ومعتقداته لا تحتمل المساومة أو أنصاف الحلول. يفترض الحوار – كل حوار – التوصل إلى تسويات بتقريب وجهات النظر إلى القضايا الخلافية لدى الأطراف المتحاورين. وفي حالة الأديان، خصوصًا التوحيدية منها، تمثل المنظومات اللاهوتية لكلِّ دين مَحاوِر الخلاف الرئيسية، مما يعني أن الحوار هدفه الوصول إلى قواسم مشتركة حول هذه المنظومات. وقد أثبتت التجربة، حتى الآن، مراوحةً في المكان وتَمَتْرُسًا حول التباينات، وأظهرت ما يشبه الاستحالة في التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات. تفسِّر هذه المُراوحة انتقال الحوار بين الأديان إلى قضايا ومسائل ليست من صُلب الأديان ووظيفتها. وليس غريبًا هذا العجز عن الوصول إلى مشترك لاهوتي: فالمنظومات اللاهوتية للديانات التوحيدية مغلقة على العموم، ترفض التنازلات فيما تعتبره جوهر إيمانها ومبرِّر وجودها. إن إلقاء نظرة سريعة على المبادئ اللاهوتية يمكن له أن يفسِّر معضلات الحوار:
1.     يركز اللاهوت المسيحي على مسائل يرى أنه يستحيل على المرء أن يكون مسيحيًّا من دون الاعتقاد والتسليم بها. فالإيمان بالثالوث القائل بوحدة الآب والابن والروح القدس وبصيرورة الله إنسانًا في شخص يسوع المسيح من المسلَّمات غير القابلة للنقاش. كما ترى المسيحية أن العهد الذي أعطاه الله لإبراهيم قد تحقَّق عبر يسوع المسيح، وهو أمر يؤدي إلى التشكيك في نبوة نبي الإسلام محمد. يترتب على هذه المقولة أن خلاص البشر مرتبط ارتباطًا وثيقًا بشخص يسوع الذي يشكِّل الوساطة الوحيدة بين الله والإنسان. وتفتح مسألة الخلاص الإلهي على شمولية الروح القدس الذي يستحيل على أي إنسان الوصول إلى الابن، ومن الابن إلى الآب، دون وساطته. ومن الطبيعي أن توصل هذه المبادئ إلى اعتبار الانتماء إلى الكنيسة شرط الخلاص البشري ("لا خلاص خارج الكنيسة")، وأن الروح الإلهي يعمل في صميم الجماعات البشرية، ومنها الجماعات الإسلامية، لإرشادها شيئًا فشيئًا إلى يسوع المسيح. ينجم عن ذلك تصور ضمني لدى الكنيسة الكاثوليكية ترى بموجبه انضواء الإسلام تحت المسيحية انضواء الفرع تحت الأصل والجزء تحت الكل.
2.     في المقابل، يحمل اللاهوت الإسلامي نظراتٍ مختلفةً عما تقول به المسيحية: يرفض الإسلام ألوهية المسيح؛ يعترف به نبيًّا ويعظِّم من شأنه ويعتبره روحًا من الله، كما يعظِّم موقع مريم العذراء. لكن الإسلام يرفض رفضًا باتًّا هذه الألوهية في سورة الإخلاص: "قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن كفوًا أحد". يجزم الإسلام بأن محمدًا خاتم النبيين والمرسلين. وتمثل وحدانية الله ورسالة محمد قاعدة اللاهوت الإسلامي: "أشهد أن لا اله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". لا يعترف الإسلام بطبيعة الخلاص الذي تقول المسيحية بإنجازه عبر يسوع المسيح، كما لا يوافق على اعتبار الكنيسة المكان الأمثل لفعل الروح في التاريخ. إضافة إلى ذلك، يحمل الإسلام من الشمولية ما يجعله يرى أن خلاص البشرية يتحقق في الانتساب إليه حصرًا بوصفه الدين الحق، المتمِّم والمكمِّل جميعَ الأديان منذ إبراهيم. "إن الدين عند الله الإسلام" [آل عمران 19] تحفر عميقًا لدى معتنقيه وتولِّد من الأفكار والمعتقدات لدى المسلم ما يجعله يصنف غير المسلم في خانة الكفر والإلحاد والوعيد بـ"جهنم وبئس المصير" [آل عمران 162، الأنفال 16، مثلاً]. ففي مقابل الخلاص المتحقق عبر الكنيسة عند المسيحية، يتحقق الخلاص هنا في اعتناق الدين الإسلامي.
3.     أما في خصوص اليهودية، فمازالت تعتبر نفسها أم الديانات، وتعتقد أن الشعب اليهودي هو "شعب الله المختار"، مما يجعل اليهودية ترى إلى نفسها ديانة "فوقية" قياسًا إلى الديانات التوحيدية الأخرى. يتمسك اللاهوت اليهودي بمقولة ترى خلاص البشرية في عودة اليهود إلى أرض الميعاد، بما يسمح بمجيء المسيح إلى الأرض، فيحقق العدالة والمساواة بين البشر. يُضمِرُ هذا الاعتقاد عدم اعتراف بنبوة سائر الأنبياء، وخصوصًا يسوع المسيح ومحمد. وعلى الرغم من أن الصلات الدينية تبدو الأقرب بين اليهودية والإسلام، بالأخص لجهة القول بوحدانية الله المطلقة، إلا أن صعوبة الحوار بينهما محكومة بمسألة اغتصاب الحركة الصهيونية لأرض فلسطين ذات القدسية الخاصة لدى المسلمين والمسيحيين على حدٍّ سواء. ففي شهر آذار 2006، جرت محاولة حوار يهودي–إسلامي في مدينة إشبيلية انتهت إلى خلاف وشجار بين المندوبين اليهود والمسلمين حول الصراع العربي–الإسرائيلي، مما أدى إلى فشل المؤتمرين في التوصل إلى أية اتفاقات، دينية أو غير دينية.
على مدى السنوات الماضية، لم ينغلق المتحاورون من المسلمين والمسيحيين دون مناقشة بعض القضايا اللاهوتية التي كان الاقتراب منها سببًا للتباعد وتعميق الخلافات. لقد بدا النقاش في هذه القضايا كأنه دعوة من كلِّ طرف للالتحاق بدين الآخر. وقد تسبَّب هذا النقاش مرات عديدة في انبعاث موروثات تاريخية تستحضر الصراعات الدينية والسياسية التي عرفها التاريخ بين الطرفين. هكذا حضرت في النقاش الفتوحات الإسلامية واحتلالها لمناطق أوروبية، والحروب الصليبية، والاستعمار الغربي لديار الإسلام، مما كان يستدعي دعوات متتالية لوضع القضايا الخلافية جانبًا والسعي إلى حصر الحوار في قضايا يمكن التوصل فيها إلى اتفاق. ونجم عن ذلك أيضا تركيز النقاشات على قضايا سياسية واجتماعية وأخلاقية، بعضها يتصل بالأديان وبعضها لا علاقة له بها وبالحوار فيما بينها.
الحوار الإسلامي–المسيحي في لبنان
يعود تاريخ الحوار الإسلامي–المسيحي في لبنان إلى منتصف ستينيات القرن الماضي. أطلقتْه "الندوة اللبنانية" عبر مجموعة من المثقفين من ذوي الحضور الثقافي والسياسي. ولم يتخذ أصحابه آنذاك لأنفسهم صفة المرجعية الطائفية أو الدينية، بل أتى حوارهم في سياق النقاش الدائر حول الدولة والوطن والنظام والإصلاح السياسي. لكن هذا الحوار توقف إبان سنوات الحرب الأهلية بعدما انكفأ أصحابه إلى مواقعهم السياسية والطائفية.
تجددت الدعوة إلى الحوار بعد توقيع اتفاق الطائف في مطلع التسعينيات، وتشكلت لجانٌ لمتابعته. وعلى خلاف انطلاقة الستينيات، نصَّبت المرجعيات الطائفية الرئيسية نفسَها مسئوولة عن الحوار، وعيَّنت لها ممثلين في هذه اللجان. وقد أتى التشكيل انعكاسًا للتركيبة السياسية الطائفية القائمة في البلد، بحيث تقوم المؤسسات السياسية بوظيفة حماية حقوق الطوائف وإعادة تركيب التوازنات انطلاقًا من مصالحها.
لم يكن الحوار، منذ بدايته، حوارًا بين الديانتين المسيحية والإسلامية بمقدار ما كان حوارًا بين الطوائف المهيمنة. لذلك بدا طبيعيًّا أن يدور الحوار حول المسائل السياسية والاجتماعية والمصالح الخاصة. استخدمت المرجعيات الروحية وممثلوها الحوار عنوانًا للاندراج في إطار الهيئات المقرِّرة لمسار الحياة السياسية في البلد، فدعت أطروحاتها إلى إدراج الحوار في سياق السلم الأهلي اللبناني وإلى تحويله إلى مسائل فكرية ذات موقع متميز في مشاريع الدول والمنظمات وبرامج الأحزاب والمؤسسات السياسية والأهلية. اعتبرت اللجنة المشكَّلة في العام 1993 أن من صلب مهماتها صياغة مشروع ثقافي جديد في لبنان يؤسس للعيش المشترك بين الجماعات اللبنانية، مستفيدًا من تجارب الحرب ومن المآل الذي وصل إليه البلد. طالب أعضاء اللجنة بتحويلها إلى مؤسسة وطنية عامة تقوم بمهمات اقتراح الحلول الآيلة إلى تجنب الخلل في العلاقات المسيحية–الإسلامية في لبنان وإلى الحد من انعكاس الأحداث الخارجية ذات البعد الطائفي والمذهبي على وحدة اللبنانيين، ومكافحة التعصب الطائفي، والسعي لإعادة تاريخ لبنان الواحد، وتعميق الحوار بين الدولة والمواطنين. وقد وصل طموح بعض أعضاء اللجنة بهم إلى تحويل هذا المشروع الثقافي إلى نموذج للحلول المطلوبة على المستوى العالمي!
قدم الشيخ محمد مهدي شمس الدين تفسيرًا بالغ الوضوح لضرورة هذا الحوار بالقول:
"انطلاقًا من فشل الحضارة على صعيد الإنسان، على الرغم من وعودها السخية وتبجحاتها الكبيرة، وفي غمرة هذا الإدراك المتنامي للواقع البائس ووعي أبعاده وأخطاره المستقبلية على الإنسان، واعتقادًا بأن مسألة الحضارة المادية والأخطار التي تنطوي عليها بالنسبة لمصير الإنسان هي من أخطر مسائل عصرنا إن لم تكن أخطرها على الإطلاق [...]، ولد الشعور بالحاجة إلى حوار بين المسيحية والإسلام".
على الرغم من التعثر الذي أصاب أصحاب الحوار ومن الخلافات التي نشبت فيما بينهم ومن عدم القدرة على تحقيق نتائج إيجابية، إلا أن المحاولة تستحق بعض الملاحظات:
1.     أولى هذه الملاحظات تقول إن الأهداف التي حددتها اللجنة لنفسها، بموافقة مرجعياتها الدينية، هي مهمات لأحزاب سياسية وحركات اجتماعية أكثر منها مهمات حوار ديني عليه معالجة الخلافات اللاهوتية التي تُبعد معتنقي الأديان بعضهم عن بعض ويسعى إلى تقريب المسافات في ما بينهم. وهو ما يفسِّر بقاء الحوار على الهامش على الرغم من حجم المؤتمرات والاجتماعات الكبيرة والمتعددة. ولأن هذا الحوار كان واحدًا من المقولات السياسية، شأنه شأن القضايا الأخرى المطروحة في البلد، سرعان ما تحول تلقائيًّا إلى سجال طائفي حول حقوق الطوائف ومصالحها وامتيازاتها في وجه طوائف أخرى، وهو سجال لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد.
2.     ثانية هذه الملاحظات أن مرجعيات الحوار وممثليها لم تتعاطَ مع لبنان على أنه مساحة تضم اتجاهات فكرية وثقافية متعددة، كما أنه يضم أيضًا منوعات من أتباع الديانات والطوائف وغير المنتسبين إلى التصنيف الطائفي القائم، مما يعني صعوبة اختزال الحوار إلى المسلمين والمسيحيين وحدهم. إنه حوار إنساني شامل يتجاوز منطق الأديان وانغلاقها على نفسها. لا يساهم احتكار الأقطاب الدينيين والسياسيين لهذا الحوار في إنهاض الوطن وتطويره الحضاري والثقافي بمقدار ما يهدف إلى الحفاظ على التركيبة الطائفية في البلد.
3.     ثالثة هذه الملاحظات أن أقطاب الحوار أعوزتهم الجرأةُ على تناوُل كيفية استخدام النص الديني في لبنان الذي تقوم إحدى وظائفه بتعميق الخلافات الطائفية والمذهبية. فلم تصدر دعوات خاصة بمراجعة كلِّ دين لنصوصه اللاهوتية، بل ظل التركيز مشدودًا إلى كيفية تأمين مصالح الطوائف وحسب. فمثلاً، أثارت الدعوة إلى نظام موحد للأحوال الشخصية ينظِّم حياة اللبنانيين في معزل عن النص الديني، بما يكفل المساواة بين المواطنين، استنفارًا بين أهل الحوار. فقد انعقد في وجه هذه الدعوة حلفٌ إسلامي–مسيحي أعلن صراحةً أنه يقف لها بالمرصاد دفاعًا عن "حرمات" الديانتين في وجه كلِّ متنطح لتجاوزهما. لم يكن الأمر في حقيقته دفاعًا عن الديانتين، بل عن المصالح الطائفية الضيقة والإصرار على إبقاء اللبناني أسيرًا في قمقمها.
4.     آخر هذه الملاحظات أن الحوار الإسلامي–المسيحي عجز عن تخفيف الاحتقان الطائفي والمذهبي المندلع منذ سنوات، الذي يحفر عميقًا في مؤسسات المجتمع اللبناني. بل إننا نشهد اليوم غيابًا كاملاً له واختفاءً لجميع الهيئات التي قامت باسمه. أما القمم الروحية التي عُقدت فقد ظلت تدور في إطار پروتوكولي، مكرِّسةً التقاليد اللبنانية القائمة على "تبويس اللحى" والإعلان عن مواقف لا تتصل بحقيقة الخلافات والمواقف التي يضمرها كل طرف للآخر.
من أجل حوار حقيقي بين الأديان
لا تهدف هذه الملاحظات إلى رأي ينفي ضرورة الحوار بين الأديان أو يقول باستحالة قيامه. إن المهمات التي يضطلع بها الدين في الحياة الإنسانية وفي المجتمعات تفرض إيلاء الحوار بين الأديان أهميته التي يستحق. وتشكِّل مسألة الحوار الذاتي داخل كلِّ دين والتصدي لقضاياه الخاصة والخلافية مع الأديان الأخرى الأساسَ الفعلي للوصول إلى قواسم مشتركة بين الأديان والتفاعل في ما بينها. واستقامة الحوار تفترض أن تتوفر فيه الشروط التالية:
1.     أول شروط الحوار أن يراجع كل دين منظومته اللاهوتية. تحوي المنظومات اللاهوتية معتقدات خاصة بمعتنقي هذا الدين أو ذاك تدخل في باب الإيمان الشخصي والحر، كما تحوي أيضًا معتقدات تمس العلاقة بسائر الأديان. المنظومات اللاهوتية الحالية هي وريثة معتقدات كانت لها ظروفها التاريخية، وقد تجاوَز الزمنُ الكثيرَ منها وجعلت التطوراتُ تعديلَها واجبًا. فإذا كانت المسيحية تسعى فعلاً إلى إقامة علاقة حقيقية مع الإسلام، فلا تقوم هذه العلاقة في حين ما يزال التشكيك في نبوة نبي الإسلام قائمًا ضمنًا؛ كما لا تستقيم هذه العلاقة في ظل الإصرار على أن الخلاص الإلهي محصور في الكنيسة، مشروط بالانتساب إليها. في المقابل، لا يستطيع الإسلام إقامة علاقات سليمة مع المسيحية وهو محمَّل موروثَ تصنيف العالم إلى "دار للإسلام" و"دار للكفر"، أو بالإصرار على أن خلاص البشرية مرهون بدخولها الإسلام. ولاستقامة العلاقة أيضًا، تجب مراجعة أحكام فقهية أو دينية تجاه التعامل مع غير المسلمين، بما يلغي مفهوم "أهل الذمة" ويعيد قراءة آيات الجهاد والتكفير بمنطق العصر الراهن. بالمثل، سيصعب تعامُل اليهودية مع الديانات الأخرى في ظل الإصرار على أنها وحدها الدين الحقيقي وأن المسيح المنتظر لم يأتِ بعد. كما سيكون على اليهودية تفكيك العلاقة الإيديولوجية بالحركة الصهيونية، بصفتها حركة عنصرية توظف الدين اليهودي لأهداف استعمارية وقمعية.
2.     ثاني شروط الحوار يتصل بمراجعة تاريخية واجبة يقوم بها كلُّ دين للعلاقات التاريخية التي تسببت في صراعات سياسية ودينية لا تزال آثارها ماثلة في التاريخ الراهن. لا تستطيع المسيحية التهرب من مُراجعة حروبها الدينية بين طوائفها ومذاهبها، ولا تجاهُل الآثار السلبية التي تركتها الحروب الصليبية، أو ما ولده الاستعمار الغربي من آثار على الشعوب الإسلامية، وخصوصًا إذا جرى الاعتراف باقتران السيطرة الاستعمارية مع التبشير الديني في البلاد المستعمَرة. في الوقت عينه، لا يستطيع الإسلام تجاهُل مرحلة الفتوحات والسيطرة على بلاد لا ينتمي أبناؤها إلى الإسلام، وما ساد هذه السيطرة من تمييز ضد الأقليات غير الإسلامية. أما اليهودية، فهي مواجهة بالخلاص من عقدة الاضطهاد، التي تحولت ذريعةً وسببًا لاضطهاد شعوب أخرى، وبضرورة الفصل بين القيم الدينية لليهودية وبين الحركة الصهيونية التي شوَّهت اليهودية.
3.     تنجم عن هذين الشرطين حاجةٌ ماسَّة إلى إصلاح ديني متجدد ومتواصل داخل كلِّ دين. لا بدَّ أن يتوافق هذا الإصلاح مع تطورات العصر وتقدم القيم الإنسانية، وعلى الأخص منها المساواة بين البشر والاعتراف المتبادل بالآخر وبحقِّ كلِّ إنسان في اختيار الدين الذي يشاء وممارسة معتقداته في حرية، واحترام خصوصيات كلِّ معتقد، ومنع فرض ما يخالف حرية الرأي الآخر. يكتسب هذا الإصلاحُ أهميةً مضاعفة مع انبعاث الأصوليات داخل الديانات التوحيدية الثلاث، بما يهدد مكتسبات التقدم والتطور والعقلانية والعلاقات المتبادلة بين أبناء الإنسانية. إذ تستثير هذه الأصوليات الغرائز وتنبش أحقاد الماضي وتحوِّل العلاقات بين الديانات إلى علاقات عنفية وإرهابية خطرة، ستكون من أهم نتائجها ارتداد البشرية إلى عصور الظلام والانحطاط.
4.     لا يكتمل هذا الإصلاح من دون تحقق العَلمانية الديموقراطية وسيادتها، بالتالي، كنظام عام. تؤدي العَلمانية إلى فصل الدين عن الدولة وتمنع استخدام الدين في الصراعات السياسية والاجتماعية، وهو استخدام يضرب عميقًا في العصر الراهن في الدول والمجتمعات كلِّها. وتضع العَلمانية الدين في موقعه الحقيقي، فتعيد الاعتبار إلى جوهره الروحي والإنساني، وتساهم في تحرير العقل البشري ومعالجة الغيبيات، وتُحِلُّ مفهوم الفرد والمواطن محلَّ مفهوم الرعية والطوائفية.
بتحقق هذه الشروط، يصبح حوار الأديان مطلبًا ضروريًّا لسلامة العلاقات المتبادلة. لكن الأمر يحتاج قطعًا إلى تغييرات في الفكر والسياسة والثقافة، وإلى سيادة فهم عقلاني ومتنوِّر للدين من جوانبه كلِّها.

ثقافة التعليم الديني الطائفي في لبنان


ألقت هجمات 11 ايلول )سبتمبر) 2001 الضوء في كل مكان من العالم على نشاط الحركات الاصولية لاسيما الاسلامية منها ووضعتها على بساط البحث. اندلع نقاش سياسي وصدرت منشورات في الغرب وفي العالم العربي تشرح اسباب الظاهرة والعوامل التي تدفع بالشباب الى الانخراط في هذا العنف الاعمى. جنحت وجهات نظر غربية، سياسية منها وفكرية، الى التفتيش عن الاسباب في متن العقيدة التي يعتنقها الشباب الاصولي، فذهبت مواقف وآراء الى القول بأن عقيدة الاسلام تحمل في تعاليمها الاصلية دعوات الى الجهاد وقتال غير المسلمين، ويحمل النص الديني من التأويلات ما يبرر تنفيذ مثل هذه الهجمات. في المقابل اطلقت السياسة الاميركية دعوات الى اصلاح سياسي وديني في العالم العربي، فشددت على غياب الديموقراطية في وصفه أحد العناصر المشجعة على الارهاب. طالبت الدعوات الاميركية صراحة بتعديل مناهج التعليم الديني والتوقف عن استخدام الآيات المحرّضة او التي يفهم منها انها تحمل دعوة الى العنف. ترافقت الدعوة الاميركية مع نقاش سياسي وفكري عربي حول الحركات الاصولية الاسلامية. لم ينف كثيرون مسؤولية مناهج التعليم الديني عن تعبئة فئات واسعة من الشباب العربي ضد الغرب عموماً وضد المواطنين من غير المسلمين.
في الحاجة الى اصلاح التعليم الديني
لا يمكن التسليم بالمقولات الاميركية حول مسؤولية التعليم الديني في تأجيج الارهاب. تحمل الديانات التوحيدية الثلاث نوعاً من الاصطفائية تنظر كل واحدة الى نفسها بموجبها على انها الأهم والأعلى والحاملة الحقيقة المطلقة، وهي نظرة تؤسس بالتأكيد لاحتمالات عنف وتطرف وتعصب. تتحول هذه النظرة الاصطفائية الى قوة مادية عندما تتلاقى مع عناصر اخرى تتسبب بها السياسة الاستعمارية القائمة على قهر الشعوب، وسيادة مظاهر البؤس الاجتماعي والفقر والبطالة، وفي تسلط انظمة ديكتاتورية تقمع حرية الانسان وتدوس كرامته. يؤدي اقتران السياسة الاستعمارية تجاه العالم العربي بالعوامل السياسية الاجتماعية الداخلية التي تعيش الشعوب العربية تحت وطأة قهرها، مما يتسبب بتكوّن عناصر العنف المتصاعد. تسبغ الايديولوجيا الدينية مشروعيتها على هذا العنف فتقدم له التبريرات الفكرية وتشجع اطرافه احياناً كثيرة.
لكن رفض الحجة الاميركية في تحميل التعليم الديني في العالم العربي مسؤولية العنف، لا يلغي وجود مشكلة فعلية تطاول هذا التعليم والأسس التي يقوم عليها والمبادئ التي لا يزال يعتمدها. تفتح هذه النقطة على الواقع الراهن للمجتمعات العربية والاسلامية ودرجة التطور والتقدم السياسي والاجتماعي والفكري الذي حصّلته ومدى مواءمته للحداثة والتحديث، مما يعني مدى مواكبة التعليم الديني للتحولات العلمية والفكرية التي شهدها العالم. ينجم عن ذلك نظرة ترى الى اعادة النظر في مناهج التعليم الديني في المنطقة العربية، حاجة داخلية لمجتمعاتها أولاً، بصرف النظر عن الدعوات الاميركية. تندرج هذه الحاجة في سياق المطلب الدائم حول الاصلاح الديني الذي رفعه رواد النهضة منذ نهاية القرن التاسع عشر، حيث شكل هذا المطلب حلقة مركزية في ردم فجوة التخلف والظلامية نحو اللحاق بحضارة الغرب وتقدمه. هكذا لم تكن الدعوة لاصلاح المناهج مطلباً غربياً، اوروبياً أكان أم اميركياً، بل مطلب رجال دين وعلماء مسلمين من امثال الطهطاوي والافغاني ومحمد عبده وغيرهم، واستمر رواد الاصلاح على امتداد القرن العشرين يحملون الهاجس نفسه وبشكل اشد إلحاحية.
ذهب بعض الغلاة من الساسة والمثقفين العرب والمسلمين الى حدود المطالبة بالغاء التعليم الديني من المدارس منعاً لنشر آراء متطرفة يتسبب بها. تجافي هذه الدعوة حقائق موضوعية تتصل بالموقع الذي يحتله الدين في المجتمع وفي تكوين الشخصية البشرية. يكتسب هذا التعليم شرعية من كونه أحد عناصر التربية الانسانية، واحدى وسائل الغوص في اعماق الوجود والمصير البشري، ومنبعاً لقيم روحية تهدي الانسان وتشرح الغاية من الحياة وما بعد الحياة. عرفت جميع العصور البشرية اهتماماً واسعاً بالبعد الديني للوجود البشري، وطاولت تأثيراته الفئات الاجتماعية من دون استثناء، بحيث بات من العبث والاستحالة فصل الصفة الدينية عن الشخصية الانسانية او الحد من آثارها الاجتماعية.
اذا كان الدين يمثل مثل هذا الموقع الحاسم في حياة الشعوب، فان طريقة تعليمه والأسس التي يقوم عليها تصبح ذات اهمية فائقة تتصل بطبيعة المواد ووسائل التعليم. ترتبط هذه الحاجة بأهداف الشعوب العربية في تحقيق التقدم والعدالة والحرية والمساواة، وهي مسائل متصلة بعملية التعليم برمتها. يظهر واقع التعليم الديني في العالم العربي اجمالاً وفي لبنان خصوصاً هذه الحاجة الماسة الى الاصلاح وتعديل المناهج.
الواقع
يحمل التعليم الديني في العالم العربي قواسم مشتركة في مناهجه، كما يحمل بعض التمايزات المنطلقة من التركيبة الطائفية لهذا البلد او ذاك. تركز المناهج على قراءة للنص الديني الاسلامي على انه الحقيقة المطلقة والناسخ لسائر الاديان. فالدين عند الله الاسلام، والمسلمون خير أمة اخرجت للناس، والنبي محمد خاتم الانبياء والمرسلين والمصطفى. تشدد هذه القراءة على ان كتاب الله (القرآن) صالح لكل زمان ومكان، ويحمل في آياته تفسيراً لكل شيء في الكون، ومصدر المعرفة والثقافة. تغيب عن هذه المناهج أي قراءة تاريخية للنص في اسباب نزوله وموجبات هذا النزول وزمانه. تتسبب هذه النظرة الكلية الى النص في مساواة الآيات الداعية الى التسامح والغفران والمحبة بآيات الجهاد والقتال المرتبطة بزمان وتاريخ وحوادث معينة جرت في التاريخ الاسلامي في زمن الدعوة، وهي حوادث زالت ظروفها التاريخية.
يقوم التعليم الديني في غالبيته على التلقين والحفظ من دون اخضاع النصوص الى الاجتهاد. يغلب منطق "لا اجتهاد في النص" على معظم المناهج، مما يؤدي الى الزام الطالب مفاهيم دينية جامدة، تتناقض مع التفسير العلمي او العقلاني. تقوم حجة بعض علماء الدين بأن ادخال التفسير العقلي للاجتهادات العلمية على النص الديني قد يزعزع ايمان المسلم ويدخله في حال من التشوش. فالايمان بحسب رأي هؤلاء يحتاج الى التسليم المطلق بكلام الله واحكامه من دون أي مناقشة، لان العقل والايمان لا يتبعان المنهج نفسه في النظر الى الامور.
تستمد كتب الفقه والشريعة موادها الراهنة من اصول الفقه والدين الموروثة عن القرون الوسطى، ولا تزال احكام الائمة في المذهبين السني والشيعي تستند الى ما وضعه العلماء والفقهاء في تلك العصور. تتجاهل هذه الاحكام قروناً من التطور التاريخي عرفت المجتمعات العربية فيها تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية تستوجب توافق الاحكام الفقهية مع هذه التطورات. يقترن ذلك كله بثقافة دينية تشهد ازدهاراً منذ سنوات بالدعوة للعودة الى الماضي واستلهام حكم الخلافة الراشدية. تجري عملية اسطرة لهذه الفترة الزمنية وتقدَّم في وصفها النموذج الذي سادت فيه العدالة والمساواة في ظل سلطة دينية. تسقط هذه القراءة وقائع تاريخية وصراعات قبلية حول السلطة والنفوذ ليس اقلها ان ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا اغتيالاً، وان الدين الاسلامي انقسم مذاهب وفرقاً اصطبغت بحروب وصراعات دموية لا تزال آثارها ونتائجها تتحكم بالحاضر الاسلامي. تنسحب هذه القراءة على الحيز الاوسع من التراث الثقافي والحضاري في محاولة لالغاء دور غير العرب وغير المسلمين من المساهمة في انتاجه. تغيب عن كل هذه القراءات الصفحات السوداء من التاريخ الاسلامي التي اتسمت بالفتن والقمع والطغيان والتعذيب لمعارضي السلطة. كما يغيب ايضاً عن التلقين الديني تلك الصفحات المضيئة من الحضارة الاسلامية المتمثلة بالتراث الفلسفي والعقلاني من زمن المعتزلة الى عهد ابن رشد، والذي اسس قبل النهضة الاوروبية، للتعددية والاعتراف بالآخر وحرية الرأي والاحتكام الى العقل. ينجم عن هذا التجاهل نظرة الى التخلف العربي الراهن تنسبه الى تخلي المسلمين عن دينهم وتراثهم، والدعوة الى استعادة الماضي والعيش في كنف نموذجه سبيلاً الى الخلاص. يستند الخطاب الاصولي الاسلامي في جوهره الى هذه المفاهيم ويلح على التزامها وتطبيقها، ولو تطلب العنف.
تغلّب كتب التعليم الديني نصوصاً تتصل بممارسة الطقوس الدينية على حساب المبادئ الجوهرية والقيم الانسانية للدين. من الطبيعي ان تحتل الدعوات الى التعبد بكل اشكاله حقها في الشرح والتوضيح والالتزام. لكن الطقوس التي تجري ممارستها تتجاوز المقومات الاساسية للدين لتطاول قضايا دنيوية من العادات والتقاليد الشعبية فيجري اسباغ القدسية عليها. تكمن الخطورة في هذا المجال في ان كتب التعليم الديني تنذر مهملي هذه الطقوس الشعبية وغير المتصلة بالدين اساساً، بالهلاك ووصول تاركها الى جهنم وبئس المصير. هكذا تضع هذه المفاهيم الله في صورة الطاغية المتجبّر المتسلّط الذي يتوعد كل من يخالف تعاليمه واوامره، على حساب الصورة الحقيقية للإله بما هي الخير والحب والجمال والسمو بالانسان الى ذرى الروح، مما يعني ان هذا التعليم في صورته الحالية أحد اسباب تكوّن عقد نفسية ومصدر رهاب داخلي يطاول سلباً حرية الانسان ويحد من ارادته المستقلة وقدرته على الاختيار.
يؤدي التعليم الديني القائم على الجمود المذهبي ورفض الاعتراف بالآخر وامتلاك المسلم الحقيقة المطلقة، الى تنمية غريزة الموت والجهاد والاستشهاد والأخذ بالثأر. كما كان هذا التعليم الجامد اساساً في فتاوى وتشريعات اجازت اغتيال شخصيات سياسية وفكرية وتهجيرها تحت حجة الهرطقة والارتداد عن الدين، على غرار ما كان يحصل ايام محاكمة التفتيش في اوروبا قبل عصر الانوار. تمثل عملية التكفير التي بات يطلقها كل رجل دين مبتدئ ومحدود المعرفة، اخطر النتائج لـ"النرجسية" التي يزرعها التعليم الديني في نفس المواطن المسلم.
يساعد التعليم الديني المذهبي في تعميق الانقسام والتعصب داخل المجتمع. ففي البلدان ذات الهيمنة السنية، تسود نظرة سلبية الى المذاهب الدينية الاخرى وخصوصاً معتنقي المذهب الشيعي. لا تتورع بعض الفتاوى عن تكفير هذا المذهب وتحليل قتاله. تسود النظرة نفسها في بلدان او مناطق ذات غلبة شيعية، فتصف ابناء المذهب السني وسائر المذاهب الاخرى بالنعوت نفسها وتحمل تجاهها المفاهيم نفسها الرافضة لها. ليس غريباً اننا في القرن الحادي والعشرين لا نزال نعيش الصراع السني الشيعي على السلطة الذي مضى عليه اكثر من خمسة عشر قرناً. أما النظرة الى الديانات الاخرى مثل اليهودية والمسيحية، فتتفق كتب التعليم الديني، السنية منها والشيعية، على نظرة ملؤها التشكيك والرفض وصولاً الى تكفيرها وعدم الاعتراف بعقائدها.
لا يقتصر التعليم الديني على المدارس الرسمية والخاصة، ويشكل الاعلام المرئي والمسموع في زمننا الراهن أهم وسيلة تأثير على عقلية المواطن العربي. تحفل القنوات الفضائية والاذاعات ببرامج دينية حول الاسلام والتاريخ الاسلامي والعربي والعلاقة مع سائر الاديان، مليئة بالخرافات والاساطير وبعيدة عن حقائق التاريخ والعلوم، ومحرّضة على الآخر الى حدود التكفير. لا يتورع بعض الدعاة في هذه البرامج عن اسباغ المشروعية على اعمال الحركات الاصولية وتبرير اعمالها ونسبها الى النص الديني الملزم والمؤكد لهذا النوع من "الجهاد"، بل ان الكثيرين يمتنعون عن الادلاء بأي نوع من الادانة لارهابها.
في لبنان
ينطبق تعبير التعليم الطائفي بمعناه الكامل على الوضع اللبناني. يتكون لبنان من ثماني عشرة طائفة، وكرس الدستور في نصوصه منذ تأسيس الكيان حق هذه الطوائف في التعليم الديني لابنائها وحريتها في اختيار المادة التعليمية. ليس مبالغة القول ان هناك ثمانية عشر منهجاً لتعليم الدين في لبنان، حيث تخرج كل مدرسة تلامذة يحملون مفهوماً معيناً عن الطائفة التي ينتمون اليها، ونظرة مغايرة عن الديانة التي ينتمي اليها سائر الطلاب. لم تكتف الطوائف بمدارسها الخاصة وبسيطرتها على التعليم الديني في المدارس الرسمية، بل باتت لها جامعاتها ايضاً، اضافة الى تاريخها الخاص وتراثها وعاداتها وتقاليدها.
يتميز لبنان عن البلدان العربية بفرز طائفي صريح. لا يتم التعريف بالمواطن استناداً الى دينه، بل بالانتساب الى مذهبه السني والشيعي والدرزي والماروني والكاثوليكي والبروتستانتي وغيرها. اعطى الدستور اللبناني الطوائف صلاحيات تتجاوز المهمة الدينية الطبيعية الملقاة على عاتقها. تحولت الطوائف الى قاعدة الكيان اللبناني، وتركب على اساسها النظام السياسي، وتوزعت المناصب السياسية والادارية على اساس النسب الطائفية، كما تحولت الطائفة الى قناة لتوزيع الدخل وواسطة العمل في المؤسسات الخاصة والعامة، وقد تسبب هذا الوضع بتحول الصراعات السياسية والاجتماعية في البلد الى صراعات طائفية تجر بدورها حروباً اهلية تغرق اللبنانيين بآثارها المدمرة كل فترة زمنية.
يستحيل تبرئة التعليم الديني الطائفي في لبنان من دوره في تعميق الانقسام بين اللبنانيين وتغييب منطق الوحدة الوطنية بين ابنائه. تنغلق الطوائف على نفسها بما يشبه "المحميات"، وتشحن ابناءها بايديولوجيتها الخاصة القائمة على نبذ الآخر واتخاذ موقف مغاير منه. تظهر كتب التعليم الديني لكل طائفة، اضافة الى البرامج الدينية في الاذاعات مدى الآثار السلبية لهذا التعليم بمضمون مواده وبالطريقة التي يجري تلقين هذه المواد.
في آذار من العام 2000 اقامت "حركة حقوق الناس" ندوة حول التعليم الديني اصدرت نصوصها ونتائج مناقشاتها في كتاب عنوانه "التعليم الديني الالزامي في لبنان"، وعكست المناقشات والشهادات الخاصة من تلاميذ في مدارس متعددة، طبيعة هذا التعليم. لا يسمح بجمع التلاميذ المسلمين والمسيحيين في قاعة الصف خلال ساعة التعليم الديني، فيجري فصلهم وفق انتسابهم الطائفي. يتولى رجل دين من كل طائفة تعليم المبادىء الدينية لابناء طائفته، حيث لكل طائفة منهجها وكتبها الخاصة. تركز هذه الكتب على الذات الدينية، فيجري التشديد على مقولات مثل نحن وهم، المسيحي يؤمن بكذا فيما المسلم يقول بكذا. ايماننا مختلف عن ايمانهم، نبيّنا أسمى من نبيهم. وهكذا يُستحضر الاخر بشكل سلبي، ويلقّن التلاميذ مفاهيم تؤسس لعنصرية وكره لا يلبثا ان ينفجرا بينهم داخل الصف او خارجه لدى  اي احتكاك. يؤدي غياب تعليم المعتقدات المشتركة الى نظرة تجاه الأديان، يقول عنها التلامذة في شهاداتهم وكذلك الاساتذة، ان نصف اللبنانيين يكرهون ألوهية المسيح، فيما يكره النصف الآخر نبوة النبي محمد.
تحصر كتب التعليم الخاصة بالطوائف المسيحية في تعليم مبادىء المسيحية وعقيدتها، من دون ان تتطرق الى الاسلام وعقيدته. ينسحب الأمر نفسه على الكتب الخاصة بالطوائف الاسلامية. واذا جرت الاشارة الى الدين الآخر، فلإبراز الجوانب السلبية من معتقداته او طقوسه. وفي النظر الى انعدام التمييز بين الدين والطائفة في الحالة اللبنانية، فإن محتويات الكتب تمتلىء بخليط لا يميز بين الجوهر في الدين والطقوس والعادات وتقاليد الحياة اليومية. تتحاشى المواد المنشورة في الكتب التحريض الطائفي المباشر، لاعتبارات تتعلق ببعض الخجل او تخوفاً من الملاحقة القانونية. يزول هذا الخجل داخل الصف المتجانس طائفياً حيث يطلق المدرّس او رجل الدين العنان لحريته في التحريض الطائفي والمذهبي، وفي تنشئة التلاميذ على التعصب ورفض الآخر، وفي ان ما يتلقاه هذا التلميذ يمثل الدين الصحيح فيما الآخرون كفرة او مرتدون او مهرطقون.
يكاد انتقاد مناهج التعليم الديني ووسائله وطرقه في لبنان ان يصنّف ضمن المحرمات. فالتعرض لها يعني التعرض للطائفة ومقدساتها وموقعها في السلطة والتوازن الوطني، ويهدد الوحدة الوطنية. تتوحّد الطوائف جميعها في اتخاذ هذا الموقف.
من اجل تعليم علماني للدين
يترك  التعليم الديني في صيغته الراهنة، عربياً ولبنانياً، آثارا سلبية على الانسان العربي، تمتد الى بنيته الفكرية والثقافية، كما تطاول مكوّنات شخصيته وممارسته حياته العادية. اول هذه الآثار تتصل بشخصية الفرد، إذ يؤدي التعليم القائم على حفظ المادة بحرفيتها من دون اخضاعها للتحليل والمناقشة والتعليل، الى تلاشي قدرات الخيال والحد من الخلق والى نمط من التكرار من دون تفكير، وهي أمور تحجر على العقل وتمنع عمله.
يتسبب التركيز الصارم والكثيف على التزام الطقوس والشكليات وعلى استحضار التاريخ الخاص بكل طائفة، بإدخال ثقافة التعصب واللاتسامح، ويؤسس لتكوّن ايديولوجيا ظلامية لدى ابناء كل طائفة. تتأسس الخصوصية في كل دين على الطقوس والفرائض، فتتحول مع الزمن الى شعار يختبىء وراءه التعصب ويشكل ارضاً خصبة لنمو الاصولية. ينعكس ذلك على قضية الديموقراطية القائمة على الاعتراف بالآخر والقبول به والعيش معاً رغم الاختلاف والتعدد، فيضع عقبات امام الخيار الديموقراطي ويمنع استيعاب موجباته. اما النتائج الاخطر لهذا الخط من التعليم فيتعلق بالسلام الاجتماعي بين ابناء البلد الواحد، فيهدده بالانفجار الطائفي الذي لا توفر عواقبه اياً من الفئات الاجتماعية مهما تفاوتت اعمارها. تعزز المشاهد اليومية اخطار الثقافة الطائفية والمذهبية. يتحدث عنها التلامذة من اعمار صغيرة امام وسائل الاعلام بطلاقة وبلا حرج وبلغة اتهامية وحاقدة لبعضهم البعض. كما تتشبع عقول الشباب بهذا الفرز المذهبي والتعبير عنه صراحة. انها اجيال راهنة ومستقبلة تتهيأ لأن تكون وقوداً في صراعات اهلية مقبلة.
تشكل العلمانية الديموقراطية شرطاً لتحول التعليم الديني اداة في خدمة الانسان وتوحيد ابناء البلد وتحقيق الوحدة الوطنية وتجاوز الصراعات المذهبية. ينطلق التعليم العلماني للدين من الاعتراف بما اثبتته الانتروبولوجيا الدينية من وجود الاديان في كل المجتمعات البشرية، وسيادة ظاهرة التقديس واتخاذها اشكالا مختلفة في كل مجتمع وفقا لمكوّناته الاجتماعية. تعبّر ظاهرة تعدد الاديان البشرية عن واقع اجتماعي، لكنها تتفق جميعها على خدمة الانسان، مما يعني ان التعليم هو في الاساس تعليم عن  الأديان وليس تعليماً دينياً. لا تقتصر دراسة الأديان على الجانب الميتافيزيقي، بل الاساس ان تتم دراستها بتاريخها الاجتماعي والثقافي واهدافها ومسار تكونها بسلبياته وايجابياته.
يفرض التعليم الديني العلماني دراسة الانظمة اللاهوتية الخاصة بالديانات التوحيدية الثلاث وكيفية تشكلها تاريخياً. تساعد دراسة التاريخ المقارن لهذه الأديان في تبيان الروابط الوثيقة بينها والقواسم المشتركة التي تجمعها وكون كل واحد منها يكمل ما بدأه الآخر. كما يفترض هذا التعليم شرحاً موسعاً لكيفية ولادة المذاهب والمدارس الدينية في المسيحية والاسلام والعوامل التي ادت الى هذه الانقسامات في صفوفها، وابراز الجانب المظلم من تاريخ حروبها وصراعاتها بما يساعد في تكوين وعي حقيقي عن هذا الماضي للافادة منه في الحاضر والمستقبل.
يدعو التعليم العلماني للدين الى مناهج تعليمية موحدة تتأسس على اعادة تقديم الدين في جوهره الروحي والانساني وثوابته المقدسة. تعتمد المنهجية التاريخية في قراءة النص المقدس على زمان صدوره ومكانه، والحاجة التي كان يعبّر عنها. كما يدعو هذا التعليم الى توليد فكر نقدي جديد عن التراث اللاهوتي المسيحي والاسلامي ودوره في الحضارة العالمية، وابراز الجانب الانساني والعقلاني من هذا التراث.
يشدد التعليم العلماني على ضرورة ادخال مادة حقوق الانسان في صلب المنهج، والتي تحوي مع الاتفاقات التطبيقية لها، ثقافة ديموقراطية تؤكد حق الانسان في الحرية والعدالة والمساواة بقطع النظر عن الانتماءات الخصوصية والجنسية والدينية والعرقية. تلتقي هذه المفاهيم مع جوهر الدعوة الدينية في كل زمان ومكان، ولأي دين انتمت.
يعطي التعليم العلماني الدين اهمية فائقة للشخص الذي سيقوم بتدريس المادة. لا يشترط في المدرّس ان يكون رجل دين، بل من الضروري ان لا يقوم رجل الدين بهذه المهمة. عليه ان يكون ملماً بتاريخ الاديان والحضارات وعلوم عصره ومتغيرات الزمن والظروف التي نشأت فيها الأديان. في المقابل يؤكد هذا التعليم وحدة الصف بتلامذته المتعددي الانتماء والطائفة ويساعد هذا الدمج في تلقي دراسة موحدة غير فئوية وغير طائفية، تساعد في نقاش حر ومفتوح.
يهدف التعليم العلماني للدين، في محصلته الأخيرة، للوصول الى ايمان قائم على الحرية، يلتزم النزعة الانسانية والحضارية، ويستظل بالعقلانية في فهم النص الديني وقراءته ووضعه موضع التجربة.
الصراع مفتوح بين العقلانية والظلامية

يحتل الإسلام كدين، والإسلام السياسي كحركات إسلامية، موقعاً رئيسياً في السياسات الرسمية العربية والعالمية وفي المناقشات الفكرية المتعددة. وقد ازداد هذا الاهتمام بعد هجمات 11 أيلول في الولايات المتحدة الأميركية، فجرى تصنيف الإسلام ديناً محرّضاً على العنف والإرهاب. يقدّم العديد من الحركات السياسية الإسلامية، في نشاطه المتعدد الوجه، مبرراً لإلصاق هذه التهمة بالإسلام. لا يقتصر الاهتمام على العالم الغربي، بل تدخل منطقة الشرق الأوسط كعنصر أساسي في السجال، فهي منطقة ملتهبة يحتل الصراع الطائفي والمذهبي حيزاً مهماً في حراكها، وتمارس الحركات الإسلامية دوراً نشطاً في أكثر من بلد عربي. ويزيد من هذه الأهمية ما بدأ يتم تداوله عن صراع بين شرق أوسط جديد ترعى قيامه الولايات المتحدة الاميركية وشرق أوسط إسلامي تقوده وتدفع به الجمهورية الإسلامية في إيران. أما أخطر ما يواجهه العالم العربي فهو تحوّل بعض قضاياه المركزية من وجهة عروبية في تاريخها وموقعها إلى قضية تخص الدين الإسلامي، على غرار ما تجري إعادة تعريف للصراع العربي – الإسرائيلي.
انخرط كثيرون في السجال حول الإسلام السياسي وحركاته، وصدر أدب غزير خلال العقود الأخيرة، منه ما اتسم بالموضوعية والتحليل العلمي للظاهرة، ومنه ما اتسمت قراءاته بنظرة سلبية أو بقراءة أيديولوجية منحازة. تعاطت دور نشر العربية بتحفظ عن الدراسات النقدية العلمية والصريحة منها، فيما تميزت دور قليلة جداً بإصدار الكتابات التي تصنّف في خانة الممنوع والمحظور التفكير فيه والتعبير عنه.
عالج عدد من الكتاب العرب والمسلمين ظاهرة الاسلام السياسي كل وفق النظرة الخاصة لهذه الظاهرة. كما عالجها اكثر من مفكرغربي بتفاوت في الموضوعية او في النظرة العدائية المسبقة.
في نشأة الحركات الإسلامية وعوامل صعودها
يرصد تركي علي الربيعو في كتابه "الحركات الإسلامية" معالجة عدد من المفكرين العرب لظاهرة نشوء الحركات الإسلامية، ويرى أن الخطاب اليساري يعطي أهمية لهزيمة حزيران 1967 بوصفها مفتاحاً لقراءة الظاهرة، حيث كشفت الهزيمة انحطاط البورجوازية العربية وتراجع المشروع الوطني وغياب البديل الثوري للبورجوازية الصغيرة ودخول حركة التحرر الوطني أزمة مستعصية. ترافق ذلك كله مع تقهقر اجتماعي وانتشار واسع للأمية في العالم العربي، مما ضاعف من أزمة الإنسان العربي النفسية والعصبية، التي تشكل أساساً موضوعياً للتزمت والتمسك بالتقاليد وتدفع إلى الارتماء في أحضان الدين. إضافة إلى هذا العامل الموضوعي في النشأة، يمكن تسجيل استخدام السلطة الرسمية للحركات الإسلامية في صراعها مع القوى المعارضة وخصوصاً اليسارية منها، وابلغ الأدلة كانت سياسة أنور السادات في تصعيد الدور السياسي لـ "الإخوان المسلمين" في مصر.
يشير محمد عابد الجابري إلى أن الإسلام السياسي هو إنتاج هزيمة الراديكاليين العرب ومساعدة دول النفط للحركات الإسلامية، فيما يربط محمد أركون تنامي أيديولوجيا الكفاح ضد الامبريالية، ومنه الكفاح ذو الطابع الديني، بتراجع الدولة العلمانية، كما يشدد على أن الخلط بين الدنيوي والمقدس، وبين الدين والدولة، يعود إلى خضوع علماء الدين والفقهاء للسلطة السياسية.
يعطي عبد الوهاب المؤدب في كتابه "عظات مضاءة" أهمية للتقهقر الحضاري الذي أصاب العرب منذ أفول عصورهم الكلاسيكية التي تميزت بمناقشة فكرية وانفتاح على الفلسفات والحضارات الأجنبية، ويرى أن الانهيار الحضاري للعرب بدأ بانتصار أهل التقليد والتفسير الحرفي على المعتزلة وما نجم عنه من ضرب للمذهب العقلاني والتأويلي في الإسلام. أما في العصر الحاضر، فقد تسبب إجهاض التيار العقلاني في سيادة الإسلام التقليدي الذي مثله "الإخوان المسلمون" ونهض على هزيمة الفكر التجديدي الذي سعى إليه جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعلي عبد الرازق وغيرهم من رواد النهضة العربية. ويضيف المؤدب أن أسباباً خارجية أيضاً ساهمت في صعود الإسلام السياسي، أبرزها السيطرة الاستعمارية على بلدان المشرق العربي، وخصوصاً منها إنشاء دولة إسرائيل على حساب الشعب العربي، وهو ما عنى للعرب خيانة الغرب لمبادئ التنوير وحقوق الإنسان وتغليب مصالحه السياسية والاقتصادية عليها.
يعيد جورج قرم في كتابه "المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين"، من موقعه كباحث في شؤون الشرق الأوسط، انبعاث الهويات الدينية واللجوء إلى الدين سياسياً وإيديولوجيا، إلى كون كل من الديانات التوحيدية الثلاث تتميز بنوع من "الاصطفائية". تعتبر الديانة اليهودية نفسها أولى الديانات وأساسها لأن الله نظر إلى الشعب اليهودي كـ "شعب الله المختار"، فيما ترى المسيحية تميزها وأولويتها من كون المسيح في نظرها هو الله متجسداً في إنسان. فيما يصنف القرآن المسلمين "خير أمة أخرجت للناس".
يشدد قرم على أن انحراف الهوية الدينية يعود إلى استخدام الدين في النزاعات والصراعات السياسية، وإلى وجود عوامل خارجية فاقمت التطرف الإسلامي، مثال نظريات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية وإستراتيجيتهم الامبريالية في العالم، الدافعة في اتجاه التحريض الديني، وخصوصاً بعد تصنيف الدين الإسلامي إرهابياً. وساهمت هذه المواقف الغربية في بروز ردود فعل داخل العالم الإسلامي رأت بموجبها أن هذا الغرب يخوض ما يشبه "حروباً صليبية" ضد المسلمين ويسعى إلى السيطرة على العالم العربي عبر دعمه حليفه الأساسي إسرائيل. لذا يدعو قرم إلى إعطاء الأولوية لقراءة أسباب صعود الحركات الإسلامية واستخدامها الإرهاب، بوصفه جواباً عن الاحتلال العسكري للمنطقة والاستعمار الصهيوني لفلسطين، إضافة إلى التهميش الاجتماعي للغالبية الساحقة من المواطنين، وسوء التوزيع الاقتصادي وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، وتحكم الأنظمة السلطوية برقاب الشعوب العربية وقمعها ومصادره حرياتها.
يقرأ الكاتب الفرنسي فرانسوا بورغا في كتابه "الإسلام السياسي وجهاً لوجه"، أسباب صعود الحركات الإسلامية من موقع قريب جداً منها، حيث عاش وسطها لفترة زمنية وناقش أفكارها مباشرة مع بعض قياداتها. يعيد بورغا هذا الصعود إلى عوامل ثلاثة، يتصل الأول بانهيار مشروع التحديث العربي الذي قادته أنظمة الاستقلال العربية منذ الخمسينات وفق برامج هدفت إلى تحقيق التحرر القومي وطرد الاستعمار وتحرير فلسطين وقيام الوحدة العربية، إضافة إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بما يجعلها تنهض بالمجتمعات العربية، وتحسين مستوى معيشة أبنائها، ثم تحقيق الديمقراطية السياسية عبر مشاركة أوسع القوى الشعبية وتأمين المساواة والعدالة بين أبناء المجتمع، وهو برنامج لم يمكن تحقيقه وفق تطلعات الشعوب العربية. أما العامل الثاني فيتعلق بفشل الأحزاب والتيارات السياسية العلمانية التي صعدت مع الاستقلالات العربية، وهي أحزاب قومية واشتراكية وشيوعية وليبيرالية، فشلت جميعها، في النظر والعمل، في تأطير القوى الشعبية وقيادته معارضة تساهم في تغيير الأوضاع القائمة. يأتي العامل الثالث حصيلة العاملين السابقين ويتجلى في فشل العروبة كهوية جامعة احتضنت المشروع القومي العربي، لأن العروبة، وفق مفهوم هذه الحركات، ولدت في أحضان الغرب وتبنّت ثقافته، وجرت محاولة فرضها على المجتمعات العربية كهوية بديلة من الهوية الإسلامية التي كانت سائدة من قبل.
في إيديولوجيا الحركات السياسية الإسلامية
في كتابة "الحداثة في فكر محمد أركون"، يضيء فارح مسرحي بعض الجوانب الفكرية – الدينية التي يراها أركون منطلقات إيديولوجية لحركات الإسلام السياسي. يعتبر أركون أن هذه الحركات تنطلق من مسلمات إيديولوجية واحدة على الرغم من الاختلافات والصراعات القائمة في ما بينها. فهي تستند إلى "عقل إسلامي" تحدّد منذ أن كتب الشافعي "رسالته" التي عيّنت الأحكام والأصول الشرعية للفقه الإسلامي. تستند هذه الأصول إلى الخطاب القرآني وسيرة النبي والإمام على وسائر الأئمة عند الشيعة، حيث يمثل القرآن مصدر السيادة الإلهية العليا، والسنّة مصدر السيادة العليا للنبي، بما يحصر دور العقل في البحث عن الأحكام الموجودة في القرآن والسنّة. أسست الرسالة لتكوين عقل إسلامي منغلق ضمن قوانين حديدية صارمة تقوم على الجزم إن سبل النجاح في الدار الآخرة ووسائل الوصول إليها تجد كل تفسيراتها وشروحها في القرآن، مما يكرّس العقل الديني عقلاً تابعاً وخادماً للوحي، غير متجرئ على تجاوز ما يقول به الوحي. وهذا ما يفسر تحوّل هذا العقل إلى دوغمائية تفرض اعتقاداً راسخاً بأن الإسلام إطار صالح لكل زمان ومكان، والإيمان بوجود الإسلام الحق يستوجب القول بإله موجود، واحد، خالق، وقادر، خاطب الناس باللغة العربية، وكلامه مدوّن في اللوح المخطوط (القرآن) الذي يحوي كل شيء ويمثل الحقيقة القصوى، فيما يتفوّق المؤمن على غير المؤمن والمسلم على غير المسلم.
تمثل ظاهرة التكفير مكوّناً عقائدياً لدى الحركات الإسلامية المتطرفة، فيشير الشيخ حسين الخشن في كتابه "الإسلام والعنف" إلى جذور هذه الظاهرة التي تعود إلى المراحل المبكرة من تاريخ الإسلام وتطوره، فينسب إلى الخوارج المسؤولية عن إطلاقها بكل ما يترتب عليها من عنف، يصل بأصحابه إلى إهدار دم المخالف لرأيها. يرى الخشن أن النظرة السطحية إلى النص الديني والتشدد في احكامه، تشكل عنصراً مركزياً في فكر هذه الحركات. يحوي التراث الإسلامي مادة خصبة تؤسس للتكفير عبر الطريقة الانتقائية في قراءة الآيات القرآنية والأحاديث النبوية بما يخدم أهداف هذه الطائفة أو تلك. فالحركات الأصولية تكاد تتشابه في نظرتها الاستعلائية التي ترى بموجبها أن فهمها للدين يحمل وحده الحقيقة، فيما يقف الآخرون في المكان الخاطئ، وكل فرقة تصنّف نفسها بالفرقة الناجية، فيما مصير سائر الفرق إلى جهنم وبئس المصير.
يفسر علي حرب في كتابه "الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة"، بعض الأسس الإيديولوجية للإسلام السياسي وتوجه بعض فصائله نحو الإرهاب، فيجد أن هذا الإرهاب ينبع من "أزمة الهوية والمعنى"، وهو ثمرة العقول المغلقة وعبادة الأصول وتقديس النصوص. فالإرهاب "حصيلة أوامرنا الإلهية وحكوماتنا الدينية ومرجعياتنا الغيبية وشعاراتنا الأحادية وثوابتنا الأبدية". ويكمن جذره في المحاولات الهادفة إلى أسلمة الحياة المعاصرة انطلاقاً من معتقدات "اصطفائية" تدعي امتلاك الحقيقة، وفي شعار الحاكمية الإلهية وإقصاء الآخر. أما الخلافات المذهبية بين السنّة والشيعة فكان محورها ولا يزال الصراع على السلطة واندفاع هذا الفريق إلى تكفير الآخر.
يشدد عبد الوهاب المؤدب على وجوب العودة إلى الجذور العميقة الضاربة في الماضي العربي والإسلامي التي تساعد في فهم أفكار الحركات المتطرفة، ويرى أن المشكلة الرئيسية في هذا الفكر تكمن في كيفية قراءته النصوص الدينية المقدسة في الإسلام. ذلك أن قراءة النص بحرفيته ستلقي الضوء على الآيات الداعية إلى العنف وتضع جانباً الآيات الكثيرة الداعية إلى العفو والرحمة والمغفرة. وهو ما يفسر تمسك هذه الحركة الأصولية بآيات العنف وجعلها منطلقاً إيديولوجياً تبرر به إرهابها تحت اسم "الجهاد"، ويفصل الآيات عن السياق التاريخي التي نزلت به والأسباب التي استوجبت هذا النزول.
يحاول عبد الحسين شعبان في كتابه "فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي"، مجادلة الحركات الإسلامية في تركيزها على التعصب والعنف، فيرى أن بعضها يعتمد آيات العنف فيما يغيّب آيات التسامح، ويشدد على أن الآيات القرآنية والممارسات العنفية التي شهدها التاريخ الإسلامي والمتناقضة مع مبدأ التسامح، جرت قراءتها بعيداً من الظروف التاريخية وسياق الصراعات آنذاك، مما يعني عدم جواز أدراجها كمكوّن جوهري للدين الإسلامي.
يرصد تركي الربيعو في كتاب "الحركات الإسلامية" آراء كتّاب تطرقوا إلى أفكار الحركات الإسلامية وعقائدها، فيشير إلى ما يقوله فؤاد زكريا من تضاد مطلق بين الصحوة الإسلامية والعقل، وإلى تركيز بعض هذه الحركات على تمجيد العنف وعدم الاستماع إلى الرأي الآخر، والتشديد على الطاعة المطلقة للقادة واستخدام القوة ضد معارضيها. أما رضوان السيد فيفسر عنف هذه الحركات بوصفها من نتائج لا معقولية الاستبداد السائد في البلدان العربية وتوظيف النصوص الدينية والفقهية بما يخدم نضالية هذه الحركات. في المقابل يعتبر نبيل عبد الفتاح أن العنف مكوّن أساسي في بنية الخطاب الإسلامي في شتى فروعه، ويرى "أن الإخوان المسلمين" يختزلون الإسلام السياسي ويقدّمون رؤية تقليدية لنموذج أهل الذمة بالنسبة إلى الأقباط. وسط ذلك، يقترح نصر حامد أبو زيد وصفاً لخطاب الحركات الإسلامية يقوم على خلفية إيديولوجية أساسها التضاد بين المتنور والمتخلف وبين العقلاني والخرافي. فالانتكاسة التي شهدتها حركة النهضة والتنوير العربي ارتدّت صعوداً لقوى الخرافة والأسطورة التي منعت القراءة العقلانية للنص الديني.
في الأهداف السياسية والاجتماعية لحركات الإسلام السياسي
لا تخفي حركات الإسلام السياسي توجهاتها وأهدافها التي تختصرها بشعار مركزي ومحوري عنوانه "الإسلام هو الحل". تقدم نفسها بديلاً من السلطة القائمة وتطرح شعارات تتسم بالعمومية في قضايا لا علاقة لها بالإسلام والأهداف الدينية التي أتى من أجلها. يكاد شعار الوصول إلى السلطة جامعاً لهذه الحركات، بصرف النظر عن فكرها وعن التلاوين والخلافات في توجهاتها، وتشكل العلاقة بين الدين والسياسية، ومن ضمنها خضوع السياسة للدين، نقطة رئيسية في خطاب الإسلام السياسي. يشير تركي الربيعو إلى وجهة نظر الشيخ علي عبد الرازق في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، القائلة بأن السياسة شأن تدبيري وليس عقائدياً، ويفند الرأي القائل بكون الإسلام ديناً ودولة، ويرفض هذه المقولة مشدداً على أن الخلافة مقام ديني. ويضيف الشيخ عبد الرازق أن الإسلام لم يعرف يوماً دمجاً بين الدين السياسة بمقدار ما عرف استخدامها للدين في تسويغ قرارات السلطان السياسي. في المقابل يبدو هشام جعيط قلقاً على مستقبل الدين في الدولة العلمانية العربية، فيشدد على وجوب اعتراف الدولة بالدين وحمايته، في مقابل رفض استخدام الدين أداة في يد الدولة التي تتلاعب به لغايات سياسية.
يشدد عبد الوهاب المؤدب على خطورة التوجه السياسي لبعض الحركات الإسلامية في نظرتها إلى الغرب، بفكره وعلمه وحضارته، فتراه العدو الرئيسي للإسلام وعائقاً أمام انتشار مبادئه، مما يدفعها إلى الدعوة إلى قطع العلاقة مع هذا الغرب والانكفاء على التراث الإسلامي والحضارة الإسلامية واعتماد النص القرآني وحده بوصفه مصدر الحقائق الكاملة. يرى المؤدب في هذه الدعوة خطر انعزال إسلامي عن المجتمعات الغربية التي تعيش أعداد واسعة من المسلمين وسطها، وتبريراً لرفض اندماجهم فيها، بما يعني البقاء على هامشها ويزيد من التنافر بين المسلمين وسكان البلاد الأصليين، مما يهدد بتحوله تصادماً وعنفاً، كما باتت تعرفه العديد من بلدان أوروبا الغربية. وهذه الحالة لن تصبّ في مصلحة الإسلام والمسلمين، بل ستؤكد الصورة السلبية التي تسم هذا الدين بالانعزال والإرهاب والتطرف.
من موقع معاد للإسلام، تقدم إرشاد منجي في كتابها "مسلمون وأحرار" وصفاً للإسلام مقارنة بالديانتين المسيحية واليهودية، فتسم الإسلام بالتعصب واللاتسامح، وتنتقد إصرار المسلمين على احتكار دينهم للحقيقة ووصفهم الأديان الأخرى بالهرطقة والضلال. فتقارن بين الإسلام واليهودية التي ترى فيها مثال الحب والرحمة والابتعاد عن كره الآخر، فيما تضع المسيحية في موقع الوسط بين الديانتين.
يقدم فرنسوا بورغا شرحاً وافياً عن أهداف الحركات السياسية الإسلامية، فيرى أنها تجمع كلها تقريباً على الوصول إلى السلطة وإعادة بناء الدولة الإسلامية وفقاً لمبادئ الشريعة. لذلك تشكل الأنظمة العربية القائمة عدوها الرئيسي نظراً إلى اعتمادها العلمانية أساساً لقوانينها تحت تأثير الاستعمار الغربي وانتشار إيديولوجيته وثقافته. تتفاوت النظرة بين حركات تدعو إلى بعث "السيادة الإلهية" أو سيادة "قانون الله"، بكل ما يعنيه من رفض كامل للقوانين المدنية، وحركات تحاول أن تتكيف مع الواقع فتلجأ إلى الضغط المتدرج لإحلال القوانين الإسلامية من خلال تعديلات متتالية على القوانين المدنية وتستند إلى الشريعة الإسلامية. تستفيد هذه الحركات من اضطرار الأنظمة إلى الخضوع المتتالي لضغوطها نظراً إلى حاجة هذه الأنظمة لإضفاء مشروعية دينية على سلطتها السياسية المفتقرة إلى الإرادة الشعبية.
ويرى بورغا أهدافاً إيديولوجية وفكرية لهذه الحركات تتمثل في مواجهة الحداثة والديموقراطية. فالحداثة، كما تراها، هي ضد الإسلام لأنها تجسد الاستعمار الثقافي الذي عاد فترسخ رغم رحيل قواته عن المنطقة عبر قوانين وتشريعات مدنية وتعليم وإرساليات ومعاهد. أما الديموقراطية فهي إنتاج الحداثة القائمة على مفهوم مستورد من الغرب، هدفه الرئيسي استكمال ضرب الهوية الإسلامية. فالديموقراطية قائمة على الإرادة الشعبية التي تتنافى مع سيادة الله وأولوية القانون الإلهي. كما أن الديموقراطية تتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية لاعتمادها القوانين المدنية والوضعية. أما مبادئ حقوق الإنسان والاعتراف بحقوق الأقليات غير الإسلامية، فليست إلا وسائل يستخدمها الغرب لفرض هيمنته على المجتمعات الإسلامية. لذلك كله، ترى هذه الحركات أن مبدأ الشورى الإسلامي هو التعبير الحقيقي عن الديموقراطية الإسلامية المتوافقة مع تعاليم الإسلام وقيمه.
هل من خروج ممكن من هذا النفق؟
من هذا المال الذي وصلته المجتمعات العربية والإسلامية وأخطار وقوعها في قبضة ظلامية، يطلق عبد الله القصيمي صرخة عكس التيار في كتابه "الكون يحاكم الاله"، فيوجه الملامة إلى البارئ الذي يتسبب بمآسي العرب والمسلمين. فهو مسؤول عن تشويه العرب وتخلفهم بسبب إعطائهم ألسنة ناطقة وآذاناً مسموعة، كما هو مسؤول عن إفساد تدينهم وإيمانهم عبر خلق التعصب والحقد والبغضاء فيهم. ويتساءل عن سبب هذا الانفاق الضخم على الجامعات والمعاهد والمؤسسات الدينية المخصصة لقراءة النصوص الإلهية وتفسيرها من أجل وظيفة تتحدد فقط في تمجيده؟ ولماذا الإنفاق أيضاً على الحج إلى كعباته ومزارات أنبيائه؟ ولماذا تدفع تلك الخسائر المجنونة في شهر رمضان من أجل أن يأكل الناس ويشربوا ويمارسوا الحب، فيما يمتنعون عن العمل خلاله بحجة التعبد إلى هذا الاله؟
بعد هذه "السياحة" مع بعض الدراسات حول ظاهرة الإسلام السياسي، يمكن القول أن معالجة هذه الظاهرة ونقدها موضوعياً وتقديم أجوبة حول سبل التعاطي معها، لا تزال متفاوتة في جديتها وجرأتها وصراحتها في وضع النقاط على الحروف والتصدي لما هو خطير فيها. هذا من دون التقليل من أهمية أبحاث ودراسات لكتّاب أخضعوا الأصولية الإسلامية وفكرها إلى مشرحة التحليل العلمي والعقلاني، واعملوا قبضتهم في سلوكياتها محلياً وعالمياً، غير آبهين بالتهديد والتخوين والتكفير الذي واجههم به ظلاميو هذه الحركات الأصولية.
يعبّر صعود الإسلام السياسي عن درجة محددة من مسار تطور المجتمعات العربية مما يعني أنها ظاهرة ذات تاريخ وزمان محددين. إذا كانت الظاهرة تجلت أكثر ما يكون في انهيار مشروع التحديث العربي الذي انطلق مع صعود المشروع القومي وتكوّن أنظمة الاستقلال، فإن هذا الإسلام السياسي لم يشكل ولا يمكنه أن يكون جواباً متقدماً عن هذا الانهيار أو طريقاً للخلاص، بمقدار ما يمثل أعمق تعبير عن الانحدار الذي وصل إليه هذا المشروع القومي، مما يعني أن ظاهرة الإسلام السياسي تمثل المظهر الأسطع لأزمة التطور العربي والتحديث في جميع الميادين. هذا الحكم لا يحجب واقعة كون الإسلام السياسي، بحركاته الأصولية خصوصاً، يقدم نفسه داخل المجتمعات العربية والإسلامية بوصفه مشروعاً متكامل البعد في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والثقافة. تقف هذه المجتمعات أمام مشروع إيديولوجي يتسم بالشمولية والتوتاليتارية، ويعبّر صعوده عن درجة التطور التي ارتدت إليها المجتمعات العربية في اجتياح ثقافة الخرافة والأسطورة والتعصب ورفض الآخر داخل مكوناتها، وذلك على حساب قبول الآخر والاحتكام إلى العقلانية وسيادة منطق التسامح.
إن إلقاء الضوء على الأسباب الموضوعية لصعود الإسلام السياسي وحركاته الأصولية وموقعها التاريخي، يوجب تعيين بعض العوامل التي يمكن أن تساعد في الحد من اندفاعة هذه الحركات، في هذا المجال يمكن تسجيل الآتي:
1- يشكل النهوض الاقتصادي الاجتماعي والفكري، في إطار تنمية شاملة للمجتمع، أول شرط في هذا المجال. تتغذى الحركات الأصولية من الانتشار الواسع لمظاهر الفقر والأمية والجهل والبطالة والتهميش الاجتماعي التي تلفّ فئات واسعة من المجتمعات العربية. كما تقدم إليها أنظمة الاستبداد السياسي أرضاً خصبة ينمو فيها فكر يغلب النزعات الإرهابية والعنف، فتعتبره هذه الحركات أفضل الأجوبة عن قمع هذه الأنظمة لها والحد من حريتها في العمل. وتتطلب مواجهة هذه الحركات أيضاً إتاحة المجال لحرية مناقشة إيديولوجية وممارساتها من موقع موضوعي وعقلاني، بعيداً من التخوين وإنكار حق الظاهرة في الوجود.
2- يبدو العالم العربي والإسلامي راهناً في أمس الحاجة إلى إصلاح ديني يطاول النصوص الدينية والتراثية والقوانين الفقهية السائدة، وبات مستحيلاً تجنب المرور في هذا المخاض الذي يشترط التحديث والتقدم الاجتماعي والفكري، وهذا شأن مرّت به أوروبا في القرن السادس عشر وشكّل نقطة انطلاق نهضتها، وقد حاول العالم العربي ولوج هذه النهضة نهاية القرن التاسع عشر لكنه أجهض قبل أن يحقق مراميه. يحتاج الإصلاح الديني أولاً إلى إعادة تحديد مفهوم الدين بما يؤدي إلى الفصل بين جوهرة ومتطلبات ممارسته في الحياة اليومية، وبما يعيد الاعتبار إلى الدين بصفته الروحية والإنسانية وعلاقة الإنسان بربه. ويتطلب الإصلاح، ثانياً، إعادة قراءة للنص الديني (القرآن)، تستخدم العقل والمنطق في تفسير الآيات، وتعتمد المنهجية التاريخية في القراءة. يحوي القرآن آيات نزلت في مرحلة تاريخية محددة وأجابت عن حاجات سياسية واجتماعية، وكان من بينها آيات الجهاد الداعية صراحة إلى العنف ضد غير المسلمين. لا يمكن إعتماد هذه الآيات اليوم تحت حجة سائدة بقوة، مفادها أن القرآن يحوي الحقيقة الكاملة لكل زمان ومكان. تستند الحركات الأصولية إلى هذا المنطق في تبرير تبنيها لممارساتها العنفية وترى فيها أساساً إيديولوجياً لعقيدتها. تتحمل المؤسسة الدينية مسؤولية رئيسية في الجواب عن هذه القضية، مما يفرض عليها تجاوز التفسير الحرفي والظاهري للآيات وإعادتها إلى موضعها التاريخي، ويضع المؤسسة الدينية ورجالها في موقع يحتاج إليه الإصلاح الديني بشكل كبير.
3- لا ينفصل الحراك السياسي والاجتماعي المتصدي لاستبداد الأنظمة السائدة، مقروناً بسعي المجتمعات العربية إلى ولوج الديموقراطية وسيلة من وسائل تقدمها، عن تقديم جواب عقلاني في وجه الحركات الأصولية، بل يشكل هذا الحراك شرطاً لا بد منه للخروج من نفق الإرهاب الأصولي وتدميره لبنى المجتمع.
يحتاج المجتمع العربي إلى مشروع نهضوي شامل يطال كل ميادين حياته كشرط لدخوله العصر ووصوله إلى الحداثة، وهو ما يوازي مواجهة مشروع نشر الظلامية في العالم العربي والهيمنة على عقله.
 يثير انبعاث الحركات الاصولية الاسلاموية المتطرفة منذ سنوات سجالا داخل العالمين العربي والاسلامي، معطوفا على صورة متكونة في الغرب عن دين يتسم بتشجيع الارهاب او احتضان تنظيماته. تعززت هذه النظرة بعد هجمات ايلول عام 2001 في الولايات المتحدة الاميركية وما تبعها في السنوات الاخيرة من نشاط لتنظيم القاعدة ضرب في اكثر من مكان في العالم تحت اسم الجهاد في سبيل الاسلام. اختلطت الصورة بين حقائق فعلية تعبر عنها الحركات الاسلاموية بصفتها العنفية وبين استغلال سياسي يتجاوز حدود تنظيمات معينة ليعطي رأيا اجماليا سلبيا حول الاسلام والعالم العربي على السواء، ليس اقله اختراع نظرية "صراع الحضارات". ساهمت الوقائع والتطورات في خلق سجال فكري حول هذه المسائل انخرط فيه مثقفون وباحثون من العالم الاسلامي والعربي سعيا لفرز المسائل عن بعضها وتبيان الثابت والمتغير في الدين الاسلامي، وصولا الى طرح اسئلة جريئة حول قدرة المسلمين على التجديد في فهم الاسلام واحداث ثورة معرفية داخلية تتيح للعالم التواصل والتعرف عليه بشكل اكثر انسانية. تتقاطع جميع الابحاث والدراسات حول نقطة انطلاق في التجديد عنوانها الاصلاح الديني كشرط موجب وضروري لدخول العالم الاسلامي الى العصر.
في المحاولات الاصلاحية السابقة
اثيرت قضية الاصلاح الديني مبكرا ومنذ القرن التاسع عشر، فرضها حراك مجتمعي فكري سياسي اجتماعي. يتوافق الباحثون على ريادة بعض مفكري القرن التاسع عشر في طرح الموضوع انطلاقا من سؤال- هاجس ما يزال يعتمل حتى اليوم :"لماذا تقدم الغرب وتخلف العرب والمسلمون؟"، وهو السؤال الذي طرحه جمال الدين الافغاني ووافقه عليه الشيخ محمد عبده، وشكل مفتاحا لنقاشات فكرية بين رواد التهضة،الدينيون منهم والعلمانيون على السواء. يسجل للافغاني تقدمه وجرأته في وضع الدين الاسلامي وكيفية ممارسته آنذاك في خانة العوامل المسؤولة عن هذا التخلف. مشبعون بفكر عصر الانوار الاوروبي وبالعملية الاصلاحية الدينية التي قادها مارتن لوثر في اوروبا والتي كانت لها مساهمة اساسية في نقل اوروبا من الهمجية الى المدنية، استلهم رواد النهضة الحدث الاوروبي فقالوا بوجوب الاصلاح الديني في العالمين العربي والاسلامي سبيلا الى الدخول في المدنية وتجاوز التخلف المريع الذي تعيشه هذه المجتمعات. اكتسب هذا الطرح اهميته من كونه يصدر عن رجال دين على رأسهم مفتي مصر، مما يمنع التشكيك في كون دعاة الاصلاح لا يفقهون امور الدين او يسعون لتشويهه والقضاء عليه.
لم تتوقف محاولات الاصلاح الديني في العالم العربي خلال القرن العشرين، اكمل رواد النهضة في المشرق وفي مصر خصوصا الطريق الذي فتحه اسلافهم ، فكانت محاولات طه حسين وعلي عبد الرازق وامين الخولي ومحمد حسين خلف الله الذين حاولوا التمييز بين الاسلام كدين يقوم على مبادئ وقيم روحية واخلاقية وبين السياسة والدولة التي لا علاقة لها بمضمون النص الديني، كما سعوا الى محاولة لقراءة النص الديني بما يتناسب ومقتضيات الواقع الراهن. وبعد قيام انظمة الاستقلال، لم يتوقف السجال حول الدين والمجتمع والسياسة، بل اتخذ منحى اوسع بالنظر الى العلاقة التي نشأت بين المؤسسة الدينية والسلطة السياسية التي كانت تفتقد الى المشروعية الشعبية، فاتكأت على المؤسسة الدينية لتسويغ قراراتها، مقابل اطلاق يد المؤسسة الدينية في تحكيم فتاواها وافكارها في المجتمع.
كما في القرن التاسع عشر، واجه رواد الاصلاح في القرن العشرين هجوما شرسا من المؤسسة الدينية الرافضة لادخال اصلاحات على المؤسسة نفسها، والمتصدية لاية اجتهادات في قراءة النص الديني استنادا الى موقعه التاريخي في الزمان والمكان والى تغير الكثير من المعطيات التي حتمت بعض نصوصه ولم تعد تتلاءم مع العصر. في وجه دعاة الاصلاح انطلقت فتاوى التكفير والاتهام بالهرطقة واباحة دم بعض هؤلاء الاصلاحيين.
ميادين الاصلاح الديني
فرض صعود الاسلام السياسي منذ السبعينات من القرن الماضي تحديات على الفكر السياسي العربي بمختلف مدارسه. ولكون هذا الاسلام الجديد صاحب ممارسة اعتبر انها تستند الى النص الديني وتجد تبرير اعماله في متنه، كان لا بد وان يتجه الاصلاح هذه المرة وجهة تسعى الى تحييد النص الديني او تنزيهه من ان يكون مبررا للارهاب والعنف الذي تعتمده الاصولية الاسلاموية المتطرفة.
 تنطلق مدارس الاصولية من مقولة ترى ان النص الديني المتمثل خصوصا بالقرآن هو نص صالح لكل زمان ومكان. وان لا اجتهاد في تعديل او الغاء اي من محتوياته. تكمن خطورة هذه المقولة عندما تعتبر الحركات المتطرفة ان عملياتها الارهابية مستندة الى النص الديني وانها تنفذ اوامر الله في قتل الكفار من غير المسلمين. تركزت وجهة النقد من قبل عدد من المفكرين على الانطلاق من ان النص القرآني هو نص له زمان اي تاريخ محدد نزل فيه، كما ان له مكان عبر عنه اي بيئة اجتماعية وسياسية. لا ينكر الدارسون ان النص يتمتع بقدسية لكونه اتى وحيا على لسان النبي محمد، لكنهم يفصلون بين آيات نزلت في اوقات محددة لتجيب عن قضايا مدنية او اجتماعية كان لا بد للرسول من اعطاء اجوبة عنها، مما يعني ان هذه الايات مرتبطة بزمان ومكان نزولها وبالتالي يصعب اسقاطها على مجتمعات وازمنة لاحقة، مما ينفي ادعاء الحركات المتطرفة اعتمادها حجة في تبرير ارهابها. واستكمل باحثون اسلاميون قراءتهم التاريخية للنص الديني من خلال التمييز بين الدين كرؤى روحية وقيم اخلاقية ومبادئ انسانية فرأوا انها صالحة لكل زمان ومكان خلافا للنصوص المتصلة بقضايا مدنية اخرى.
سحبت الدراسات الاسلامية المستندة الى المنهج التاريخي نفسها على الشق الاخر من النص الديني وهو المتعلق بالاحاديث النبوية. على رغم الجدال الذي لم ينقطع بين المذاهب حول صحة الكثير من الاحاديث من جهة، وتوظيف اعداد منها في الصراع السياسي بين المذاهب، قدمت القراءة النقدية التاريخية تجاوزا لمسألة صحة او عدم صحتها، فوضعتها ايضا في سياق تاريخيتها لكونها اتت جوابا عن قضايا سياسية واجتماعية واقتصادية زمن النشوء المبكر للاسلام من جهة، وجوابا ايضا عن الحاجات والمعضلات التي افرزها توسع الاسلام الى خارج الجزيرة العربية، مما يعني ان اسقاطها على عصرنا الحديث امر مغاير للمنطق ولا يتوافق مع التطور الذي عرفته المجتمعات العربية والاسلامية خلال اربعة عشر قرنا من ولادة الاسلام.
بعد ان وجه الخطاب الاصلاحي الديني نقده لكيفية استخدام النص الديني بمصدريه الاساسيين، كان لا بد من يطال النقد مسألة الشريعة التي تكونت من خلال فتاوى الفقهاء شرحا للنص الديني. سعى الفكر الاصولي والديني المتزمت الى تصنيف الاحكام الفقهية في خانة النصوص المقدسة والتي يجب على المجتمعات الاسلامية اعتمادها. في هذا المجال ايضا كان لابد من استخدام سلاح النقد التاريخي لاعادة النصوص الى زمانها ومكانها ورفض اطلاقيتها ووضعها في مصاف النص القرآني او الاحاديث النبوية. ارتبطت هذه القضية مباشرة بموضوع قراءة التراث العربي والاسلامي، وكان على النقد الاصلاحي ان يفرز ويغربل ما يجب الاخذ منه او ما يجب اعتباره تقادم مع الزمن. لم يكن الامر سهلا في مواجهة مدارس اسلامية تتعاطى مع التراث كتلة متراصة وتتمسك بمضمونه بصفته جزءا من الهوية الاسلامية او العربية، ومادة للسجال الحضاري مع الغرب او من يجري تصنيفهم في خانة الاستعمار.
هناك قضية اساسية في التراث تتصل بما يعرف ب"الآداب السلطانية" التي هي مجموعة نصوص نشأت في سياق تاريخي سياسي محدد، وقامت بوظيفة ايديولوجية في خدمة السلطان السياسي وتبرير اعماله. قدم الشافعي نظرية في هذا المجال استخدمها رجال الدين والسياسة بأمتياز، فاستحضر آية من النص القرآني تقول "ياايها الذين آمنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم" فكرسها واحدة من قواعد الحكم الاساسية في الاسلام، والتي لم يبق منها اليوم سوى اطاعة الحاكم. تكمن خطورة هذه "الآداب السلطانية" في ان احياءها والنفخ فيها لم يكف من قبل الحكام ورجال الدين على السواء. تشكل هذه المنظومة من التراث قاعدة لتبرير الاستبداد في العالم العربي وتأبيد السلطات الحاكمة تحت حجة درء الفتنة والخلاف اوالاعتراض على السياسات القائمة.
لا يكتمل خطاب الاصلاح الديني من دون التعرض الى الموقع الذي تحتله المؤسسة الدينية والعاملين فيها. توسعت هذه المؤسسة بشكل كبير واتخذت لنفسها صلاحيات اقرب الى السلطة الالهية على البشر، فباتت تحلل وتحرم ما يتوافق مع مصالحها ونمط تفكيرها. تحولت الى ما يشبه محاكم التفتيش الاوروبية في القرون الوسطى، فتمارس رقابتها على الفكر وتتدخل في الشؤون الحياتية للمواطن، وتكفر هذا الكاتب او ذاك وتهدر دمه احيانا،كل ذلك باسم حمايتها للدين ومنعا للخروج على احكامه. لم يستقم هذا الدور الاستثنائي للمؤسسة الدينية الاسلامية الا بقيام علاقة تبادلية بين النظام السياسي القائم وهذه المؤسسة. قدمت المؤسسة للنظام تبريرا لمشروعية سلطته المفتقدة الى المشروعية الشعبية، وبررت له سياساته في كافة المجالات السياسية والقومية والاجتماعية ووقفت الى جانبه في وجه حركات المعارضة. في المقابل اطلق النظام السياسي العربي العنان لعمل هذه المؤسسة وسلطها على المجتمع وعلى الفكر السائد وحمى فتاواها وقراراتها واعطاها مشروعية مماثلة. لا ينفصل انفلات الحركات الاصولية وانقلابها على النظام الذي حضنها عن السياسة المتبادلة للمؤسسة الدينية والاستبداد العربي الذي يصنف كثيرون هذه الاصولية بصفتها الابنة الشرعية لهذا الاستبداد. لذا يشكل اصلاح هذه المؤسسة وتحديد ميدان عملها بما لا يتجاوز الشؤون الدينية واحدة من المسائل الاساسية في مواجهة التخلف.
لا يستطيع احد تجاهل سؤال يرمى حاليا في وجه العرب والمسلمين :" هل يستعصي الاسلام حقا على الحداثة والتقدم؟". لا يستقيم الجواب بالمعنى التاريخي في جانبه السلبي. فالحداثة حالة قائمة ومستمرة وليست مشروطة بتاريخ خاص او بمرحلة من مراحل التاريخ، كما انها ليست مشروعا ناجزا وحكرا على الغرب. الحداثة باختصار هي كل ما تصبو اليه المجتمعات من تغيير وانخراط في مشروع النهضة والتنمية والتقدم في جميع المجالات والميادين. لكن الدخول في هذه الحداثة عربيا واسلاميا سيخضع كما خضعت مجتمعات اخرى الى جملة شروط تتصل بتحولات في هذه المجتمعات، يأتي الاصلاح الديني في رأس الاولويات الضرورية لتجاوز التخلف والدخول الى العالم المتقدم. لذلك يبدو سؤال التجديد في الفكر الاسلامي سؤال اللحظة التاريخية والمصيرية والذي يشكل الشرط الضروري لقيام نهضة عربية- اسلامية جديدة.
يشهد العالم العربي والاسلامي اندلاعا لصراع اسلامي- اسلامي بين طائفتيه
 الرئيسيتين السنية والشيعية، وهو صراع لم يسبق ان اتخذ هذا المنحى المذهبي منذ قرون عديدة. يتداخل في هذا الصراع من كلا الجانبين اللاهوتي بالسياسي مما يضفي على النزاع حرارة وتوترا مرتفع المنسوب. تتبدى بوضوح الاثار السلبية لهذا الصراع على النسيج الاجتماعي في كل مكان يتداخل فيه الطرفان ويترك انعكاساته على العلاقات الاجتماعية والسياسية فيدخلها مدخل الافتراق وتأسيس عداوة تصل الى حدود القطيعة. اثيرت نقاشات من كثير من النخب حول افضل الوسائل لتجنب هذا الصراع الذي تمتد جذوره في التاريخ، واستحضرت الحالات المشابهة في غير مكان كمثال على معالجة مثل هذه الصراعات، وكانت العلمانية ابرز الحلول لهذه الاشكاليات وجوابا عن الفصل بين المجال الديني والمجال السياسي.
سبق لاوروبا ان شهدت نزاعا بين طوائفها ومذاهبها امتد لسنوات بين الكاثوليك والبروتستانت ودفع ثمنه الاوروبيون مئات الالاف من الضحايا ولم ينته الا بعد صراع مرير بين المجالين السياسي والديني وانتهى الى الفصل بينهما وتحديد مجال كل واحدعبر نظام علماني يعطي للدين حقوقه ويعطي الدولة المدنية سلطتها في شؤون المواطن. لم يخل هذا الصراع من استحضار الدين المسيحي وتوظيف كل طرف لنصوصه بما يتوافق مع توجهاته، وهو ما اوجد تراثا لاهوتيا جعله كل طرف اساسا للصراع  دفاعا عن الحقائق المطلقة التي يعتبر كل جانب امتلاكها فيما يقيم الاخر في الكفر والهرطقة. هكذا عرفت اوروبا تزييفا للصراع السياسي بين الدول والمقاطعات وسعي رجال الدين وخصوصا البابوات لامتلاك السلطتين الزمنية والدينية.
لا يختلف الصراع الاسلامي الاسلامي في الجوهر عما شهدته اوروبا في القرون الماضية. يعود هذا الصراع في الاصل الى النزاع على السلطة والثروة بين القبائل والعصبيات الموجودة اتخذت لها عنوانا النزاع على الحق بخلافة الرسول. تداخل هذا الصراع مع معطيات ناجمة عن التوسع الاسلامي في المناطق ودخول اقوام جديدة ذات تاريخ وتراث اثرت بالوافد الاسلامي وتأثرت به. نجم عن هذا النزاع انقسامات في المجتمعات الاسلامية وبروز احزاب وفرق متعددة وصل عددها الى حوالي 72 فرقة. وعلى غرار ما حصل في اوروبا، تداخل الصراع السياسي بالمعطيات الدينية المتأثرة بدخول الاسلام مناطق جديدة، ولجأ كل طرف الى وضع الدين بنصه القرآني والاحاديث النبوية واحكام وفتاوى الفقهاء في خدمة هذه النزاعات بحيث ينتقي كل طرف ما يناسب وجهة نظره ويجعل منها الحقيقة الوحيدة فيما تقبع سائر الفرق في الكفر ويتحدد مصيرها في نار الاخرة. وكما استقطب الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت الساحة الاوروبية، تمحور النزاع الاسلامي بين قطبيه من السنة والشيعة. انتج الطرفان الاسلاميان تراثا يمتزج فيه الدين بالسياسة مما ولد منظومة فكرية- ايديولوجية بدأت بالتكون منذ اندلاع النزاع قبل 1400سنة وما زالت تتوالى مفاهيمها لدى فقهاء الطرفين حتى الزمن الراهن، وهي منظومة تنظّر لنبذ كل طرف وتزرع افكار الحقد وتستخدم الرموز التاريخية لتبيان استحالة التعايش.
تركز المنظمة الايديولوجية السنية على اعتبار الشيعة مرتدة عن الدين الاسلامي، ويطلقون عليها اسم "الرافضة"، ولا يرون انتسابا لابناء الشيعة الى الاسلام، ويذهبون الى تكفيرهم ورفض اقامة علاقات معهم. ويذهب بعض الفقهاء الى القول بان الرسول احل قتل "الرافضة". ازدهرت الايديولوجيا السنية تجاه الشيعة على يد ابن تيمية الذي دعا الى قتال فرق الاسلام المخالفة وفي مقدمتها الشيعية الامامية. واتخذت فتاوى ابن تيمية بعدا سياسيا بعد ان اصبحت عقيدة الدولة السعودية على يد محمد بن عبد الوهاب، والتأكيد على الاقصاء والتكفير والنبذ للروافض الشيعة.
في المقابل اتخذت فتاوى ائمة الشيعة ومرجعياتها الدينية المنحى نفسه الذي اتخذته السنة، فسميت السنة ب"النواصب"، حيث يتحدد "الناصب" بمن ينصب العداوة لاهل البيت، والصقت بالنواصب صفة النجاسة. وذهب فقهاء الشيعة الى اعطاء مفهوم النجاسة بعدا لاهوتيا، وهو ما ترتب عليه ممارسات طالت الحياة المشتركة والعلاقات اليومية العامة بما فيها احكام المعاشرة. هكذا زرع ايدولوجيو الشيعة والسنة بذور الحقد والكراهية بين الطرفين، وهو ما يجد ترجمته اليوم في العلاقة المتوترة بينهما وانفجارها عنفا في اكثر من مكان.
لا ينفصل انبعاث النزاع الطائفي اليوم في العالم العربي عن فشل هذا العالم في الانتساب والدخول في الحداثة وعن مدى الاقامة الطويلة للتخلف في ربوعه. لم يكن لهذا الصراع دوره الحالي زمن النهوض القومي والاجتماعي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، لكن فشل او مراوحة هذا المشروع التحديثي الذي عرفته المنطقة في ذلك الزمن والنتائج الارتدادية التي نجمت عنه وخصوصا الهزائم امام العدو القومي والعجز عن تحقيق الوعود في التقدم ، كلها من العوامل المسؤولة عن عودة الموروث الطائفي وطغيانه على الحياة العامة والخاصة.

يطرح استخدام الدين في السياسة وتوظيفه في الصراعات الاجتماعية والسياسية قضية مركزية تتصل بالسبل القابلة لمنع هذا الاستخدام. يعتبر الفقهاء من السنة والشيعة ان الاسلام بخلاف المسيحية هو دين ودولة في الان نفسه، وهو امر يبرر دعواتهم الى اعطاء الدين الاولوية في التشريع والحكم. تثبت كل وقائع التاريخ الاسلامي منذ وفاة الرسول ان الاسلام لا يحوي نظاما للدولة، وان ما عرفه التاريخ كان على الدوام استخدام السلطان السياسي للدين ومؤسسته في تسويغ السلطة السياسية واضفاء المشروعية عليها. في هذا المجال، كثيرا ما لجأت السلطة السياسية الى اعطاء دور ما  للمؤسسة الدينية في سياق العلاقة التبادلية بين الطرفين بما يكفل للسلطة السياسية تبعية المؤسسة الدينية لها واصدار الفتاوى اللازمة لقوانينها وتشريعاتها. لذا يتطلب الامر اعادة الدين الى موقعه الحقيقي بصفته الروحية والاخلاقية وفصله عن المجال السياسي من اجل ان يتمكن من القيام بدوره الفعلي.
لم تنه اوروبا حروبها المذهبية الا بعد ان تمكنت قواها الاجتماعية والسياسية من الفصل بين المجالين السياسي والديني عبر اعتماد العلمانية نظاما للدولة والمجتمع. لم تعن العلمانية يوما الغاء للدين او الطوائف، بل العكس تماما فان ما تدعو اليه حقا هو كيفية ممارسة كل مجال لعمله بما يسمح للدين من تطوير قضاياه الروحية والاخلاقية بحيث يمكن له ان يلعب دورا ايجابيا في الحياة العامة. في المقابل وحدها العلمانية تتيح للمجال السياسي عبر الدولة ومؤسسات المجتمع الاهلي والمدني ممارسة دورها بما يخدم التقدم والتطور. وحدها العلمانية تسمح بالتعددية والاعتراف بالاخر وبالمساواة امام القانون دون تمييز بين العرق او الجنس او المذهب والطائفة. يشترط ذلك اقتران العلمانية بالديمقراطية التي وحدها يمكن ان تحقق مثل هذه الانجازات.
تبدو هذه العلمانية العنصر المقرر في تمكين اللاهوت الاسلامي بشقيه السني والشيعي من ان يتحرر من مقولتي "الرفض" و"النصب" ولازمتيهما في التكفير والنجاسة كما يشير الى ذلك جورج طرابيشي في كتابه "هرطقات2،عن العلمانية كأشكالية اسلامية- اسلامية". لا يبدو الامر مبسطا في الزمن الراهن، فتحقق مثل هذا الانجاز سيكون حصيلة نهوض مشروع نهضوي حديث في جميع المجالات السياسية والدينية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية. لا تبدو قوى هذا المشروع متكونة بشكل يتيح تحقيقه، مما يعني ان زمنا سيمتد من اجل ولادة قوى مناهضة لهذا الاسر للمجتمعات العربية والاسلامية في قمقم الطوائف والمذاهب.
مثّلت الهجمات التي ضربت الولايات المتحدة الاميركية في 11 ايلول2001 حدثا "تاريخيا" طبع الاستراتيجيات السياسية للعالم الغربي الى عقود لاحقة، بحيث يجري الحديث عما قبله كتاريخ منفصل عما بعده. ان حدثا بهذه الضخامة كان من الطبيعي ان يطرح اسئلة عن الابعاد والاسباب والعوامل التي تسببت به، وعن النتائج التي ستترتب عليه. اثار اسئلة في الغرب اجمالا وتحليلات طالت مجتمعاته وعقائده وسياساته، كما رمى على العالم العربي والاسلامي تحديات حول دلالات هذا العنف غير المسبوق بمثيله، خصوصا ان هوية وجنسية المنفذين عربية- اسلامية كاملة. راوحت الاسئلة بين مسؤولية الاسلام كدين عن الهجمات فيما توقف كثيرون عند مسؤولية الغرب نفسه عن انفلات العنف ووصوله الى هذه الدرجة. ما تزال الاسئلة والاجوبة متواصلة حتى اليوم ولا يتوقع لها ان تخف وتيرتها.
تحمل العلاقة القائمة بين الغرب اجمالا والولايات المتحدة الاميركية خصوصا من جهة والعالم العربي – الاسلامي من جهة اخرى،  من المعضلات الكثيرة التي تحوي وتفرز احقادا وعداء لا ينقصه سوى ان ينفجر عنفا. يعود هذا التاريخ المثقل بهذا التناقض الى قرون تمتد من الحروب الصليبية وهزيمة المسلمين في اوروبا، وتصل الى حدها الاقصى مع الاحتلال الصهيوني للارض الفلسطينية والعنف الوحشي المسلط على الشعب الفلسطيني، وصولا الى الاحتلال الاميركي للخليج العربي ودخول الجيوش الاجنبية الاراضي المقدسة منذ حرب الخليج الاولى، واقتران ذلك بحصار على الشعب العراقي قبل سقوط النظام الديكتاتوري، وهي احداث تعزز لدى الوجدان الاسلامي والعربي منطق الهيمنة الغربية على شعوب وثروات العرب والمسلمين. خلقت هذه العناصر حالة عربية- اسلامية تقول بضرورة استعادة مجد الاسلام والعرب القديم عبر احياء الحرب المقدسة التي تترجم نفسها بمحاربة "الشيطان الاكبر" في عقر داره.
في الجانب الغربي، اتسعت التساؤلات وتفاوتت القراءات للحدث، فتركز البحث حول التفاوت بين الغرب وحضارته وبين التخلف الذي يقيم فيه العالم العربي والاسلامي مما ترجم نفسه حقدا على هذا الغرب وسعيا لتدمير حضارته. انتشر بسرعة سؤال "لماذا يكرهوننا؟" وتعددت الاجوبة عليه وكان ابرزها الذي ركز على التفاوت الثقافي والفكري ونمط الانظمة السياسية القائمة، وصولا الى اطلاق نظرية "صراع الحضارات" بما هو صراع بين حضارة الغرب المسيحية وحضارة الاسلام. ترتب على نظرة الغرب هذه اجوبة استراتيجية كان ابرزها ان الغرب يواجه هجوما على قيمه وتقدمه وان الجواب على ذلك يكون باقرار استراتيجية الحرب الوقائية التي تسمح بنقل المعركة بشكل مسبق الى اماكن تراها الولايات المتحدة مصدر تهديد لامنها. من هنا كان اجتياحها لافغانستان واسقاط حكم "طالبان" واحتلالها للعراق وانهاء حكم صدام حسين، وصولا الى اعتبار ان هذه السياسة مستمرة وستطال بلدانا اخرى.
مقابل الردود الغربية المستنكرة والخائفة من هذا المسار في العمل الارهابي، عرف العالم العربي انواعا مختلفة من الردود تفاوتت بين الانظمة القائمة ونخب محددة، وبين الجمهور العريض من الشعوب العربية والاسلامية. اتسمت ردود الجمهور الواسع بالرضى والفرح، وصنفت العمليات التفجيرية في خانة الاعمال البطولية، واعتبر منفذوها شهداء مصيرهم الخلود في الجنة. لم تخل اصوات من اعلان الاسف لسلبيات هذه التفجيرات على صورة الاسلام في العالم، لكن هذا الاعلان اتى مقرونا بالاحتجاج على سياسة الغرب ودعوته الى نقد  ممارساته تجاه الشعوب العربية والاسلامية، وانتهاز فرصة الهجمات ليراجع ذاته وضميره. 
سلطت الهجمات الضوء على "الاسلام الحركاتي" وكيفية نظرته الى الاسلام واستخدامه لتراثه ومفاهيمه بما يتوافق مع الاهداف التي يطرحها. واظهرت المدى الذي بلغه"السياج الدوغماتي" في السيطرة على العقول لشبيبة لم تقدم لها الانظمة الا الاحباط واليأس والانفكاك عن اوطانها كما يقول محمد  اركون في كتابه المشترك مع جوزيف مايلا(من منهاتن الى بغداد..ما وراء الخير والشر): "ان جنود بن لادن وبن لادن بالذات، كلهم بلا اوطان ، بلا انتماء الى ارض وطن محدد، لانهم تخلوا عن اشكال التضامن الطبيعي الممثلة بالاسرة والمنطقة والامة والدولة والثقافة والذاكرة التاريخية ، ليذهبوا وليموتوا وليقتلوا بلا هدف سياسي يمكن تحديده".
احيت هجمات ايلول وطبيعة منفذيها نقاشا حول الاسلام وكيفية قراءته وتأويل نصوصه وطرق استخدامه وصولا الى السؤال الهاجس المستمر: هل يشرّع الاسلام الارهاب؟ وهل هو دين عنف؟ تأتي مشروعية الاسئلة من الاعلان الصريح لبن لادن ان ما قام به يصب في الدعوة الى الدفاع عن الاسلام وجد مستنده في الايات القرآنية والاحاديث النبوية. وتواصلت الاسئلة لتطال بنية وفكر الحركات الاصولية المتطرفة وواقع المجتمعات العربية المسؤولة عن انتاجها.لا بد من الاعتراف بداية بمسؤولية الهزائم التي مني بها العرب لاسيما هزيمة 1967 والتي اشرت الى نهاية او انحسار الايديولوجيا القومية وصعود الاسلام السياسي وحركاته الاصولية المتشددة الذي يستحيل في نظرها الفصل بين النظام السياسي والديني.
من المعلوم ان المجتمعات العربية- الاسلامية تعاني منذ قرون تعود الى مئات السنين من انغلاق في قراءة النص الديني واعتبار ان ما انتجه فقهاء العصر القديم شكل نهاية الاجتهادات. ادى هذا لاانغلاق الى تراجع تيارات العقلنة لصالح ثقافة "القصص- التاريخ"، وهي قطيعة اثرت سلبا على رؤية الفكري والروحي والانساني والاخلاقي في النص القرآني. ترافقت هذه القطيعة مع انغلاق آخر لهذه المجتمعات على منتوجات الحداثة الاوروبية، وهو انغلاق تحول الى رفض ايديولوجي للحداثة من قبل الحركات القومية المناضلة ضد الاستعماربعد العام 1945. ثم اتت الثورة الايرانية عام 1979 لتنشط على نطاق واسع الفكر الاصولي في العالم العربي والاسلامي وتزيد من تراجع الجهود العقلانية التي كانت بدأت بالتفتح ولو بخجل.
تقوم ايدولوجيا الحركات الاصولية على قراة للنص الديني لا سيما القرآن منه على ان هذا النص "هو كلام الله المنطوق باللغة العربية والمنقول بحرفيته من قبل رسول الله"، وان هذا النص وجد لكل زمان ومكان ولا اجتهاد في تأويله. يحوي النص القرأني آيات تدعى "آيات العنف" تبيح قتل غير المسلمين بصفتهم مشركين وكافرين، وهي آيات تعتبرها الحركات الاسلاموية قائمة وتبرر لها افعالها التي تقوم بها. ان اخذ النص الديني بكليته والاصرار على استمراريته تشكل اخطر ما يواجه المجتمعات العربية والاسلامية لما يعطيه من حجج على تشريع الاسلام للارهاب والعنف. منذ اقفال ابواب الاجتهاد وسقوط التيارات العقلانية في الفكر الاسلامي بعد هزيمة المعتزلة، تقلصت القراءات التاريخية للنص القرآني التي تعتبر ان لهذا النص تاريخ في نزوله اي زمان محدد، وكذلك له مكان انطلق منه اي في بيئة معينة هي بيئة الجزيرة العربية. تستدعي "ارخنة" النص تأويلا يفسر ما قصده الله لحظة نزول الايات والمعنى الذي يهدف الى ايصاله. لا يمكن اسقاط القراءات والمعاني من الزمن القديم على زمننا الراهن، مما يعني ان النص القرآني يحوي من الايات ما تجاوزه الزمن وبالتالي لا يمكن استخدامها في تبرير اعمال ارهابية.
تكمن الاشكالية الكبرى في المجتمعات العربية والاسلامية في رفض هذه القراءة التاريخية للنص الديني، ويعبر هذا الرفض عن نفسه بتصدي المؤسسة الدينية الرسمية، السنية منها والشيعية، لاي تأويل مخالف لما تراه وصولا الى تكفير واتهام المخالف بالهرطقة وصولا الى اهدار دمه، يساعدها في ذلك تواطؤ مع السلطة السياسية الفاقدة لمشروعيتها والساعية الى تكريس هذه المشروعية من المؤسسة الدينية. يجري كل ذلك في مناخ من الانهيار الاجتماعي والثقافي والفكري وانحسار التيارات العقلانية وهزال قواها. وهي امور لا تساعد في تقليص موقع الحركات الاصولية والحد من فكرها الارهابي.
يملأ الخطاب الاصولي اليوم الفراغ الكبير الناجم عن الندرة والضعف الذي يطال فئة المثقفين القادرين على ممارسة الوظيفة النقدية من دون تقديم تنازلات. يساعد على ذلك هذا الحشد الهائل من رجال الدين الذين يجهدون في نشر واحتضان الحركات الاصولية ونشر فكرها مستخدمين احدث وسائل التكنولوجيا الاعلامية. يطرح هذا الواقع تحديات على المسلمين لجهة ان يعيدوا للاسلام قوته الروحية والدينية والانسانية المحتواة في النص القرآني، وذلك من دون ان تقع هذه الاستعادة تحت سلطة رجال الدين ولا تحت نير سياسات الدولة، فكلاهما ارض خصبة لازدهار الظلامية وسيادة مفاهيمها.
         القسم الثالث

بطالة الاجتماع وثقة الإنتاج الثقافي

  الــعـــــرب الأمّــيـــــون


يشهد العالم العربي مفارقة بين اندفاعة غالبية بلدان العالم نحو العلم واكتساب المعرفة وتمكين شعوبها من القراءة والكتابة في الحد الأدنى، وبين "تصاعد عربي إلى الوراء" في الإصرار على هيمنة الجهل المتجسد في العدد الهائل من الأميين والمتزايد عاما بعد عام. تقدم المنظمات العربية والدولية ذات الاهتمام بميادين التعليم والثقافة أرقاما مخيفة عن واقع العرب الذين تفوقوا هذا العام على القارة الإفريقية في عدد الأميين، فيما كانت أفريقيا تشكل الموقع الأول في هذا المجال.
تقدر منظمة التربية والثقافة والعلوم (الاونيسكو) التابعة للأمم المتحدة نسبة ألاميين بـ 40% من مجمل السكان العرب أي حوالى 70 مليون مواطن، ويرتفع العدد في إحصاءات المنظمة العربية للثقافة والعلوم (الاليكسو) إلى حوالى 80 مليون أمي، أما "المشروع المسكوني للتربية الشعبية" الذي يعمل على مكافحة ألامية في سبع دول عربية فيرى أن عدد ألاميين يصل إلى حوالى 100 مليون أمي أي بنسبة 45% من سكان العالم العربي.
وتشير هذه الإحصاءات إلى أن نسبة النساء الأميات يساوي ضعف الذكور بما يصل إلى 80% من الأرقام المشار إليها. الأخطر هنا، أن عدد الأميين الذين تزيد أعمارهم عن 15 سنة يسير في تصاعد سنوي، أي يطاول أجيال الشباب. تشكك المنظمات الدولية في حجم الأرقام لتشير إلى أن الدول العربية لا تقدم لها الأرقام الفعلية عن عدد الأميين الذين قد يتجاوز ما هو مصرح عنه. يتركز الحجم الأكبر من الأمية في بلدان العالم العربي الكبرى مثل مصر والجزائر والمغرب واليمن.
سواء كان العدد في حدود سبعين مليونا أو يتجاوزه إلى المئة مليون مواطن عربي لا يتمكنون من القراءة والكتابة، الأرقام تعكس صورة مزرية ومخيفة عن الموقع الذي يمثله العرب ضمن العالم وعن مستوى التخلف الذي تقبع مجتمعاتهم داخله. تعبر الأرقام عن أعطاب بنيوية تتصل بخط تطور المجتمعات العربية وبسياسات الدول في مجال التنمية، كما تترتب على الأرقام نتائج سياسية واجتماعية واقتصادية خطيرة.
أولا – يعكس حجم الأمية الخلل في السياسة التعليمية في كل الأقطار العربية من دون استثناء، وهو خلل يطاول أنظمة التربية والتعليم والسياسة المستخدمة في توظيف الأموال اللازمة لفتح مدارس وتدريب معلمين واتباع سياسة إلزامية التعليم ومجانيته خاصة في المراحل الابتدائية والمتوسطة. ولا تزال نسبة الإنفاق على التعليم متدنية قياساً على مجالات غير إنتاجية، ولا تزال الخطط الموضوعة للحد من تفاقم الأمية تراوح مكانها، مما يعني فشلاً لسياسات التعليم وعجزاً عن حل قضية محورية مثل قضية الأمية.
ثانياً: تتسبب الأمية في إعاقة مشاريع التنمية العامة منها والمحلية في كل بلد. فتتأثر الإنتاجية ومردودية العمل سلباً بوجود قطاع واسع من العمالة عاجز عن القراءة والكتابة. ينسحب ذلك على مجالات الاستخدام في قطاعات إنتاجية تتطلب حداً معيناً من مستوى تعليمي، فيلجأ بعض الدول العربية إلى الاستعانة بعمالة أجنبية على حساب أبناء الوطن، وهو أمر سيؤدي تلقائياً إلى زيادة حجم العاطلين عن العمل وارتفاع منسوب البطالة، بكل ما يعنيه من آثار اجتماعية سلبية.
ثالثاً: يرتبط "استقرار" الأمية وتزايد أعدادها بالثقافة الاجتماعية والتقاليد السائدة وما يترتب عليها من مفاهيم متخلفة. وكما أشارت الإحصاءات، تمثل النساء نسبة 80 في المئة من الأرقام المليونية من الأميين. ولا تزال المجتمعات العربية، في الكثير منها، أسيرة مفاهيم بائدة تحدد موقع المرأة في المنزل، وتمنع عليها الحاجة إلى اكتساب العلم والانخراط في سوق العمل. تستحضر هذه الثقافة فتاوى مرجعيات دينية لا تتورع عن اعتبار ذهاب الفتاة إلى المدرسة وانخراط المرأة في العمل من المسائل التي تمس الأخلاق وتفسد المجتمع وتتعارض مع "القيم الدينية" الموروثة. يترتب على سيادة هذه الأفكار حذف أكثر من نصف السكان العرب من المساهمة في ميادين العمل ومن أي دور لهن في تطوير للمجتمعات العربية وتنميتها.
رابعاً: ينجم عن انتشار الأمية بهذا العدد الضخم نتائج اجتماعية وفكرية خطيرة تتصل بالأفكار السائدة ونوع "التثقيف" الذي تخضع له الشعوب العربية تؤدي الأمية إلى سيادة "الوثوقية" بالسلطة التي تحتكر نشر الفكر، خاصة منها سلطة رجال الدين. وتسود أفكار ترتكز على الخرافة والأساطير واستعادة الماضي وتصويره مثالاً يستوجب احتذاءه، ويجري الهجوم على كل ما هو حديث وعصري ومتقدم واتهامه بالغربة عن مجتمعاتنا وبأنه استعمار لعقول الشباب. وتضج برامج الإعلام المرئي والمسموع، وتزدهر الصحافة والكتابات في نشر أفكار تصب في النهاية في مزيد من تجهيل الناس وتبعدهم عن إمكان استخدام العقل ومكتسبات العلم في قراءة واقعهم وتعيين مشكلاتهم ووسائل حلها.
خامساً: يترتب على مثل هذا الانقياد الأعمى نتائج من أخطرها التحول إلى الإرهاب والتطرف. فالأمية مجدولة بـ "الفكر" الغيبي والخرافي تشكل بحراً تغرف منه حركات التطرف الأصولية، وأرضا خصبة لنمو الإرهاب المتعدد الوجه يعتمد منظرو الحركات الأصولية المتطرفة على استخدام منظومة فكرية تدمج النص الديني بالأساطير وبالبؤس الاجتماعي فتشحن جمهورها بإيديولوجية عمادها الحقد وكره الآخر والاستعداد للموت وتصفية كل من تصنفه هذه الحركات في خانة العدو والكافر.
سادسا: إذا كانت المجتمعات العربية تناضل من اجل الخلاص من الاستبداد الرازحة تحت وطأته، وتسعى إلى ولوج رحاب الديموقراطية، فان هذا الحجم من ألامية سيشكل سدا منيعا في وجه هذه الطموحات. بل على العكس، ستكون الأمية خير سند لاستمرار الأنظمة الديكتاتورية وسيادتها وقاعدة ينهل منها الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، لأن هؤلاء الأميين سيبقون أسرى إيديولوجيا الاستبداد وسيكون من الصعب عليهم الانفتاح على أفكار الحداثة والديموقراطية والتقدم. في هذا المجال، تتحول الانتخابات البرلمانية أو المحلية قضية شكلية، بل مناسبة تمكّن السلطة من تجييش الجمهور لمصلحتها لأنه الأقرب إلى أفكارها، فيما ستعجز الأحزاب المعارضة من الإفادة من هذه الأداة التي تشكل عنصرا أساسيا في مفهوم الديموقراطية.
تقف المجتمعات العربية أمام منعطفات حاسمة في تطورها في ظل التقدم العلمي الذي يجتاح العالم. سيظل ولوجها أبواب التحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي رهنا بمدى تغلبها على ألامية وردم الفجوة الهائلة بينها وبين العصر.

فجوة التكنولوجيا العربية

في تقرير صادر عن مؤسسة الامم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونيسكو) حول حالة العلوم والتكنولوجيا والبحث العلمي، صنف التقرير العالم العربي في "آخر درجات القاع" قياسا بمجتمعات اخرى مشابهة للمجتمعات العربية. قارن التقرير بين تطور العالم العربي في هذا المجال وبين التطور المذهل الذي عرفته دول آسيوية مثل الصين والهند وماليزيا وباكستان وكوريا، وهي دول تعاني فقرا شديدا وكثافة سكانية عالية وانعداما في الموارد النفطية. قبل تقرير اليونسكو، وعلى امتداد سنوات اربع خلت، كشفت "تقارير التنمية الانسانية العربية" الصادرة عن "برنامج الامم المتحدة الانمائي" بالتعاون مع "الصندوق العربي للانماء الاقتصادي والاجتماعي" عن المعضلات التي تواجه العرب وتحد من دخولهم عالم التكنولوجيا. فكيف تتجلى حقيقة العلاقة "العربية" مع الثورة التكنولوجية، اين الحقيقي منها واين الشكلي، ما تجليات التخلف واسبابه العميقة التي تضرب في جذور المجتمعات العربية؟

بات هناك اجماع لدى العلماء والباحثين ان مقياس درجة تقدم بلد ما او تخلفه في العصر الراهن ترتبط بدرجة التطور المعرفي ودخول الثورة التكنولوجية ومنتجاتها ميادين الحياة في البلد. يشير تقرير التنمية الانساننية العربية للعام 2003 الى ان "فجوة المعرفة وليس فجوة الدخل اصبحت في نظر مؤسسات اقتصادية دولية، المحدد االرئيسي لمقدرات الدول في العالم الان". لم يغب هذا التحديد عن رؤية وافكار الكثير من المنظمات العربية المهتمة بشؤون التنمية والتقدم، كما ظلت حاضرة بقوة في مداخلات المؤتمرات الدورية المنعقدة في اكثر من قطر عربي لنقاش واقع المجتمعات العربية وقياس درجة تقدمها او تخلفها والاسباب البنيوية التي تجعلها قاصرة عن اللحاق بالعصر.

من الظلم الصاق صفة جهل العالم االعربي بالتكنولوجيا ومعطياتها وعدم ادراكها للتقدم الثوري الذي تشهده. يؤشر المشهد العربي الى هذا الولوج عبر ازدهار المراكز الحضرية الحاشدة بالعمارات الشاهقة والانشاءات العملاقة وشبكة الخدمات العامة وتجهيزات المؤسسات العسكرية والمدنية، اضافة الى الانشاءات النفطية والكهربائية وشبكة  الاتصالات الهاتفية منها وما خص الانترنت، مقرونة كلها باستيراد التكنولوجيا بشكل او بآخر، بصرف النظر عن التفاوت بين بلد واخر وفق درجة تقدمه او تطوره.

تشكل ثورة الاتصالات وصناعة الالكترونيات اليوم احد المقاييس الاساسية في مدى دخول بلد ما ميدان التقدم العلمي والتكنولوجي. تجمع كل التقارير والاحصاءات على تأخر عربي عن الاندماج في هذا الجديد والافادة من مكتسباته قياسا على مايشهده العالم المتقدم. فعلى سبيل المثال، لا يتجاوز انتشار اجهزة الكمبيوتر في العالم العربي اكثر من 1،5% من عدد سكانه، اما استخدام الانترنت فلا يتجاوز 2% من اجمالي المستخدمين في العالم. يعود التركيز على شبكة الاتصالات وخصوصا الانترنت الى ان هذه النظم تشكل اليوم اهم عناصر البنى التحتية لاقامة مجتمع المعلومات، ولان الاتصالات ايضا باتت تلعب ادوارا اساسية في التطور الاقتصادي والمالي والثقافي، فتختصر الزمن والمسافات بين بلدان العالم بعد ان حولته الى "قرية صغيرة". يشير الباحثان ناديا حجازي ونبيل علي في كتابهما "الفجوة الرقمية" الى دور مزدوج يقوم به قطاع الاتصالات، فهو من جهة قطاع اقتصادي قائم بذاته يساعد في تنمية القدرة الذاتية والسوق المحلية في جانب، كذلك تنمية القدرة التصديرية. وهو من جهة اخرى يلعب دورا مفصليا في دفع وتطوير قطاعات التعليم والاعلام والخدمات الصحية والصناعية وغيرها.

لا تقتصر المشكلة في عدم الاستخدام الكافي لمنتجات الثورة التكنولوجية، فالمعضلة الاكبر تكمن في عجز العالم العربي عن الدخول في صناعة هذه التكنولوجيا وتقديم ابتكارات في مجالها. ما تزال المواقع العربية على شبكة الانترنت تتسم بالضعف قياسا الى المواقع العالميةخصوصا في مجال تقديم انواع المعرفة الى الجمهور العربي. اشتهر علماء من اصل عربي باختراعاتهم العلمية في بلدان غربية احتضنتهم وقدمت لهم الوسائل الضرورية لعملهم، ونال بعضهم جوائز عالمية منها جائزة نوبل، لكن اكتشافاتهم هذه لا تصنف في خانة المساهمة العربية في الثورة التكنولوجية، بل هي مسجلة حصرا على حساب البلد الذي يقيم فيه هذا العالم. تفتح هذه المسألة على الاسباب البنيوية التي تضع العالم العربي في درجات متأخرة في علاقته بالتكنولوجيا وثورتها الزاحفة.

يرتبط التخلف في هذا المجال بدرجة التطور وحدوده الذي وصلت اليه المجتمعات العربيةعلى مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية. يمكن اعادة اسباب الاعاقة الى عاملين رئيسيين :الاول، يتصل بسياسات التنمية الشاملة التي اعتمدتها البلدان العربية منذ حصولها على الاستقلال والنجاح الجزئي الذي حققته في مجال التحديث الى ان دخلت في المراوحة والانكفاءالى الخلف، فيما يتصل السبب الثاني بالبنية العقلية والذهنية التي رافقت محاولات الدخول الى العصر والافادة من التكنولوجيا.

في الاسباب المتصلة بالسياسات التنموية الشاملة، يمكن الاشارة الى اربعة اسباب حدت وما تزال من الدخول العربي الى عالم التكنولوجيا. يتصل السبب الاول بالسياسة تجاه الابحاث، مراكز وعاملين فيها، ومدى تمكين العقول العربية من توظيف كفاءاتها في انتاج معرفة علمية. من المعروف ان الدول المتقدمة تضع مراكز الابحاث في صدارة "انتاج المعرفة"، بحيث يشكل حجم الموازنات والمبالغ المنفقة عليها احد مقاييس التقدم العلمي والحضاري. فعلى رغم الثروات الغنية التي يتمتع بها العالم العربي، فان البلدان العربية لا تخصص اكثر من 0،5% من اجمالي ناتجها الوطني للبحث والتطوير، فيما تخصص البلدان المصنعة حديثا حوالي 3% من اجمالي ناتجها للابحاث العلمية. يزداد الامر سوءا عندما يتبين ان قسما اساسيا من هذه الموازنة تذهب الى النفقات الادارية وتغطية رواتب العاملين وايجارات المراكز. الا ان الاسوأيكمن في ان قسما غير قليل من هذه الابحاث ترمى على رفوف المكتبات ولا تجري الافادة منها او توظيفها في ميادين تطوير البلد، مما يجعلها بعد فترة عديمة الصلاحية بعد ان تفقد المعلومات الواردة فيها اهميتها.

يتناول السبب الثاني في الاعاقة طبيعة التعليم ونوعيته وطريقة ادائه. بات معلوما ان الفروع العلمية والتطبيقية ما تزال تحتل مرتبة ضعيفة في الجامعات العربية لصالح غلبة الفروع الانسانية والاداب والحقوق. تزداد المشكلة عندما يتبين قصور المستوى التعليمي الجامعي قياسا الى جامعات متقدمة في العالم. يغلب التلقين على وسائل التعليم، وتعتمد الجامعات على الكم وليس على الكيف. لا يرتبط التعليم بحاجات المجتمع وموجبات التنمية، كما لا تقوم صلة وثيقة بين الجامعات والمؤسسات الصناعية، وهو امر اساسي في ادخال التكنولوجيا وانتاجها. يشار هنا الى ان العديد من الدول العربية اوفدت نخبا منها الى الغرب للتخصص في ميادين التكنولوجيا العالية، وحققت هذه النخب نجاحات اساسية، لكن السياسات العرببة عجزت عن استيعابها والافادة منها، فوجدت هذه النخب نفسها مضطرة الى الهجرة خارج الوطن العربي.

يتصل السبب الثالث بمستوى التقدم الاقتصادي والاجتماعي الذي وصلت اليه المجتمعات العربية. لا تشجع الصورة الراهنة لهذه المجتمعات المتسمة بالفقر والبطالة والامية وضعف الرعاية الصحية، على خلق مناخ محفز لتطور العلوم العالية ولادخال التكنولوجيا. تشير التقارير الرسمية الى ان العالم العربي يسجل اعلى نسبة في البطالة والامية والفقر في العالم، مما يعني توجه الاولويات نحو تأمين الحد الادنى من الحاجات التي تؤمن استمرارية المواطن على قيد الحياة، فتتحول سائر القضايا، ومنها ادخال التكنولوجيا، الى نوع من الترف والكماليات.

اما السبب الاخير في الاعاقة، فهو سبب سياسي بامتياز. يحتاج البحث العلمي والتطوير التكنولوجي الى مستوى من الحريات العامة وحرية في التعبير تسمح للباحث ان يقدم معلوماته وارقامه من دون اي قيود. ما تزال الارقام في العالم العربي وجهة نظر، وما يزال الحاكم العربي يخاف حقيقة المعطيات العلمية خصوصا في الميادين الاقتصادية والاجتماعية من ان تمس هذه الارقام الامن السياسي والقومي للبلاد او تؤذي السلطات السياسية والدينية. ولا تساعد الاوضاع السياسية غير المستقرة المصحوبة باضطرابات اجتماعية مفتوحة على نزاعات اهلية، في تشجيع العلماء والباحثين على الاقامة في اوطانهم، كما لا تشجع ايضا القطاع الخاص واصحاب الرساميل والمؤسسات الدولية في توظيف الاموال الضرورية لتطوير التكنولوجيا.

لا يقلل العامل المتعلق بطبيعة العقلية العربية السائدة اهمية عن السياسات الداحلية في اعاقة الدخول الى التكنولوجيا. اتت الثورة العلمية في اوروبا منذ القرن السادس عشر وصولا الى زمننا الراهن حصيلة تحولات فكرية وفلسفية واجتماعية، ولم تكن الاكتشافات والاختراعات العلمية سوى واحدة من مفاعيلها ومحصلتها. بدأت باعادة الاعتبار الى العقل طريقا لمعرفة الحقيقة وتحليل الواقع، وخاضت صراعا مع الغيبيات والفكر الخرافي السائد. اعطت الاولوية للانسان وتقدمه وسعادته بصفتها الهدف الاخير، واحلت العلوم الموضوعية الشأن الارفع في معرفة اسرار الطبيعة والكون والحياة البشرية. ترافق ذلك كله مع صراع سياسي ضد الاستبداد وسلطة البابا والكهنة وسعي لفصل الحياة الدينية عن الحياة المدنية والسياسية. في ظل هذه المعطيات ولدت الثورة الصناعية وانجدلت معطياتها بسائر القضايا السياسية والاقتصادية والفكرية، وهو امر ما يزال مستمرا في ظل الثورة التكنولوجية الصاعدة.

ظل العالم العربي يتعاطى مع ادخال التكنولوجيا بميادينها المتنوعة بصفتها امورا تقنية مفصولة ومعزولة عن العوامل التي تسببت بها. يأخذ العرب التقنيات الحديثة، لكنهم يرفضون الافكار التي انتجتها. وما يزيد الامور تعقيدا في الزمن الراهن هو ذلك الزحف المتمادي للغيبيات والخرافة وسيطرته على معظم ميادين الحياة في المجتمعات العربية، من السياسة الى الاقتصاد والثقافة، مما يجعل التعاطي مع معطيات الثورة التكنولوجية امرا يشوبه الحذر والتحفظ.

يستحيل خروج العالم العربي من اسار تخلفه ليتمكن من الدخول الى العصر من دون ولوجه اصلاحا شاملا يبدأ بسيادة العقلانية مدخلا للنظر في امور الحياة، ويستكمل باصلاح سياسي يضع المجتمعات العربية على سكة التقدم والتمية الشاملة. 

 

نتائج وتداعيات هجرة الأدمغة العربية



تشكل هجرة الكفاءات العلمية من الدول العربية الى الدول الغربية أخطر أنواع الهجرات على تطور المجتمعات العربية وتقدمها. اتسعت هذه الهجرات كثيراً في العقدين الأخيرين نتيجة عوامل متعددة سياسية واقتصادية وعلمية. لعقود سبقت، كانت الدول العربية نفسها مصدر هجرات متبادلة للأدمغة والعقول، ولم تكن لتشكل آنذاك ظاهرة سلبية لأنها كانت توظف خبراتها في خدمة تطور المجتمعات العربية. يدق كثيرون اليوم ناقوس الخطر ويحذرون من المفاعيل السلبية لاستمرار هذه الهجرات، ويعقدون مؤتمرات تبحث وسائل الحد منها وكيفية استعادة بعض هذه العقول الى موطنها. فما هو واقع هذه الهجرة بالأرقام، وما الأسباب التي أدت ولا تزال تدفع بالأدمغة العربية الى الرحيل عن بلادها، ثم ما النتائج والتداعيات؟

تشير تقارير أصدرتها كل من الجامعة العربية ومؤسسة العمل العربية والأمم المتحدة (عبر تقارير التنمية الانسانية العربية)، الى وقائع وأرقام حول هجرة العقول العربية الى الخارج. تشدد هذه التقارير على كون المجتمعات العربية باتت بيئة طاردة للكفاءات العلمية. تشكل هجرة الكفاءات العربية 31 في المئة مما يصيب الدول النامية، كما ان هناك أكثر من مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا او الفنيين المهرة مهاجرون ويعملون في الدول المتقدمة، بحيث تضم أميركا وأوروبا 450 ألف عربي من حملة الشهادات العليا وفق تقرير مؤسسة العمل العربية. تؤكد هذه التقارير ان 5.4 في المئة فقط من الطلاب العرب الذين يدرسون في الخارج يعودون الى بلادهم فيما يستقر الآخرون في الخارج. ومن الأرقام الدالة ايضاً ان 34 في المئة من الاطباء الاكفاء في بريطانيا ينتمون الى الجاليات العربية، وأن مصر وحدها قدمت في السنوات الاخيرة 60 في المئة من العلماء العرب والمهندسين الى الولايات المتحدة، فيما كانت مساهمة كل من العراق ولبنان 15 في المئة. وشهد العراق ما بين 1991-1998 هجرة 7350 عالماً تركوا بلادهم بسبب الاحوال السياسية والأمنية ونتيجة الحصار الدولي الذي كان مفروضاً على العراق آنذاك. وتشير هذه التقارير الى عمل قسم واسع من العقول العربية في اختصاصات حساسة في بلاد الغرب:مثل الجراحات الدقيقة، الطب النووي، الهندسة الالكترونية والميكرو الكترونية، والهندسة النووية وعلوم الليزر، وعلوم الفضاء وغيرها من الاختصاص العالية التقنية.
تتعدد الأسباب التي تدفع الأدمغة العربية الى الهجرة، فمنها ما يتصل بعوامل داخلية، ومنها ما يعود لأسباب موضوعية تتعلق بالثورة التكنولوجية والتقدم العلمي الذي لا يزال الغرب حقله الفعلي. في العوامل الداخلية، يتصدر عدم توافر فرص العمل اللازمة للاختصاص المتحصّل. لا تبدو الدول العربية معنية بالافادة من الاختصاصات العلمية وتأمين مجالات عمل لأصحابها، فيجد الخريجون انفسهم ضحايا البطالة، مما يضطرهم الى تأمين لقمة عيشهم في اعمال لا تتناسب ومستوى تحصيلهم العلمي. يتولد عن هذا الوضع شعور واسع بالإحباط واليأس لدى هذه الكفاءات، ويصبح لقرار الهجرة مسوغاته الذاتية والموضوعية. تصيب كثيرين مرارة من الذين يصرون على البقاء في بلادهم عندما يلمسون مدى إهمال الدولة ومؤسساتها وكذلك القطاع الخاص، في حد كبير، لمؤهلاتهم العلمية وضرورة الافادة منها، او عندما يرون كيف تتم الاستعانة بخبراء أجانب لقضايا تتوافر فيها الكفاءات اللازمة محلياً. يفاقم ضعف وجود مراكز البحث العلمي من الازمة حيث يستحيل الافادة من الابحاث العلمية وتوظيفها في خدمة المجتمع، فتتحول الاختصاصات العلمية التطبيقية الى اختصاصات نظرية، تنعكس على العالم والباحث تراجعاً في مستواه العلمي او في امكان تطوير قدراته المعرفية. يتصل هذا الموضوع مباشرة بعدم وصول المجتمع العربي الى مرحلة يرتبط فيها النشاط العلمي والتكنولوجي بحاجات المجتمع.

يشكل الواقع السياسي عنصراً مهماً من عناصر هجرة الأدمغة الى الخارج. تعاني غالبية البلدان العربية من اضطرابات سياسية وحروب أهلية تطاول في ما تطاول أهل العلم والمعرفة. يتسبب عدم الاستقرار السياسي بنزيف أهل العلم والفكر المحتاج الى استقرار يمكنه من الانتاج. نجمت عن حالة الاضطراب خلال العقود الاخيرة موجات هائلة من نزوح الأدمغة بخاصة في بلدان مثل مصر والعراق والجزائر ولبنان، وهو نزيف سائر الى تصاعد بالنظر الى تواصل هذا الاضطراب. يضاف الى ذلك واقع حرية الرأي والتعبير التي تعاني تقييدات وقمعاً، وهي أمور ذات أهمية كبيرة يحتاج فيها الباحث الى الحرية في البحث والتحقيق وتعيين المعطيات واصدار النتائج. لا يزال العالم العربي يتعاطى مع الأرقام بصفتها معطيات سياسية ذات حساسية على موقع السلطة، وتشير تقارير عربية الى تدخل السلطة السياسية في أكثر من ميدان لمنع اصدار نتائج ابحاث أو دراسات، تكون الدولة تكبدت مبالغ لانجازها، وذلك خوفاً من أن تؤثر نتائج الدراسات في الوضع السياسي السائد. كما تشكل التقاليد والأعراف وتدخل المؤسسات الدينية أحياناً عوامل اعاقة في نجاح البحث العلمي واعلان نتائجه.
الى جانب هذه العوامل الداخلية، يشكل التطور العلمي والتكنولوجي وثورة الاتصالات التي تشهدها البلدان المتقدمة عنصراً جاذباً لأصحاب الاختصاصات في التكنولوجيا العالية، حيث تقدم المجتمعات الغربية، بخاصة مراكز أبحاثها، اغراءات مادية وحياتية لعلماء كثيرين برعوا في هذه المجالات، أو لأصحاب طموح وجدارة في تحصيل علمي متقدم في علوم يستحيل وجود مثيلها في بلده الأم. وهو ما يعني استحالة عودة هذه الكفاءات لاحقاً الى موطنها بعد تخرجها لمعرفتها وادراكها صعوبة الافادة مما حصلته من هذه العلوم.

يترتب على هجرة الأدمغة خسائر صافية تطاول المجتمعات العربية جملة وتفصيلاً. يشير أحد تقارير منظمة العمل العربية الى أن الدول العربية تتكبد خسائر سنوية لا تقل عن 200 بليون دولار بسبب هجرة العقول الى الخارج. تقـــــترن هذه الأرقام بخسائر نجمت عن تأهيل هذه العقول ودفع كلفة تعليمها داخل أوطانها، مما يطرح مفارقة قال بها بعض الباحثين ان الــــدول العربية ومعها ســــائر الدول النامية تقدم مساعدات الى البلدان المـــــتقدمة عبر تأهيـــــلها لهذه الكفاءات ثم تصديرها الى هذه البلدان المتقدمة لتفيد من خبراتها العلمية، وهو أمر يوجب على هذه الدول تعويضاً الزامياً للدول النامية.

المجال الثاني الذي يتأثر بهجرة العقول الى الخارج هو مجال «انتاج المعرفة» بجوانبه المتعددة، إذ تسببت هذه الهجرة ولا تزال في تخلف حقول المعرفة في العالم العربي وفي إضعاف الفكر العلمي والعقلاني وعجزه عن مجاراة الانتاج العلمي في أي ميدان من الميادين. لكن الخسارة الكبرى تتبدى في الأثر السلبي الذي تتركه هذه الهجرة على مستوى التقدم والتطور المطلوب في المجتمعات العربية في الميادين العلمية والفكرية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية، وهو أثر يطاول مشاريع التنمية والاصلاحات، مما يفاقم التخلف السائد أصلاً في هذه المجتمعات، وذلك بعدما بات مقياس التقدم متصلاً اتصالاً وثيقاً بمدى تقدم المعرفة وانتاجها.

تنسحب الخسائر أيضاً على الميدان السياسي وعلى الصراع ضد اسرائيل أو الهيمنة الغربية. لم يعد خافياً ان جزءاً أساسياً من هذه المعركة يدور في الميدان العلمي والحضاري والثقافي، وأن أحد عوامل النصر بات مرتبطاً بدخول العرب الى العصر ومواكبة الثورة العلمية.

يتساءل المواطن العربي بقلق عن امكان الحد من هجرة العقول العربية الى الخارج. يطرح السؤال بالحاح خصوصاً بعد احداث ايلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة واندلاع موجة التحريض العنصري ضد العرب في أميركا والعالم الغربي، وانعكاس ذلك على الأدمغة العربية.
يعبر كثيرون عن رغبتهم في ترك بلاد الغرب وسط المعاناة التي يعيشون، لكن المشكلة تكمن في الداخل العربي، سلطة سياسية وقطاعاً خاصاً ومجتمعاً مدنياً وأهلياً، لجهة تأمين الظروف الملائمة لعودة هذه العقول وتوظيف خبراتها في مصلحة بلادها. لا تبدو المعطيات السائدة مشجعة في هذا المجال. ستظل هذه الكفاءات في حال من اللااستقرار الى أن تتمكن المجتمعات العربية من الانخراط في مشروع نهضوي متكامل يسمح لهذه العقول بالعودة والانخراط في هذا المشروع المتنوع الميادين والأبعاد.

 


عوامل تعثر انتاج المعرفة في العالم العربي


تشكل صناعة الكتاب وانتاجه وما يرتبط به من حجم القراء وانتشار لدور النشر والمكتبات، احد مقاييس التقدم والتطور لأي بلد، كما تسلط هذه الصناعة الضؤ على السياسة الثقافية والاقتصادية ومدى تلبيتها لحاجة التنمية الاجتماعية، اضافة الى كونها عنصرا حاسما في الدلالة على تعثر انتاج المعرفة ام على تقدمها. في هذا السياق،  تقدم صناعة الكتاب في العالم العربي صورة مفزعة عن حجم االتأخر الذي تعانيه المجتمعات العربية الرازحة تحت اعباء الجهل على رغم التطورات الهائلة التي شهدها العالم ولا يزال منذ القرن الماضي.

تفضح الارقام التي تقدمها تقارير رسمية هذا الواقع، اذ  يورد تقرير الامم المتحدة للتنمية الانسانية الصادر عام 2003 تحت عنوان " نحو اقامة مجتمع المعرفة " ارقاما بالغة الدلالة، ذلك ان عدد  الكتب المنتجة في العالم العربي لا يتجاوز  اكثر من واحد في المائة من الانتاج العالمي على رغم ان العرب يشكلون نحو 5%من سكان العالم.  في العام 1991 مثلا صدرت البلدان العربية 6500 كتاب مقابل 102000 لاميركا الشمالية و42000 كتاب لاميركا اللاتينية. كما ورد في تقرير صادر عن معرض الشارقة الدولي للكتاب عام 2005 ان دور النشر العربية التي شاركت في المعرض وصل عددها الى 707 دور فيما لم تعرض اكثر من 2100 عنوان لكتب متنوعة الاتجاهات. لم يتجاوز عدد الكتب الفنية الصادرة سوى 1945 كتابا اي ما يمثل 0،8% من الانتاج العالمي.  يصل متوسط الكتب المترجمة الى حوالي 4،4 لكل مليون من السكان، اي اقل من كتاب واحد في السنة، فيما بلغت 19 كتابا في المجر و920 كتابا في اسبانيا لكل مليون من السكان. يقدر الاجمالي التراكمي للكتب المترجمة منذ عصر المأمون حتى الان بحوالي 10 آلاف كتاب وهو يوازي ما تترجمه اسبانيا في عام واحد. اما لجهة التوزيع، فان نجاح الكتاب في العالم العربي يكون عندما يصل توزيعه الى 5000 نسخة،  فيما تورد الصحافة الاجنبية ارقاما عن كتب يصل توزيعها الى مئات آلاف النسخ واحيانا اكثر من مليون نسخة.

مشكلات بنيوية

تقدم معارض الكتب السنوية صورة عن نوعية الانتاج المعرفي وما تقدمه دور النشر للجمهور العربي، تتصدرالكتب الدينية والتراثية واجهة الانتاج بحيث تصل الى حوالي 17% فيما لاتتجاوز النسبة اكثر من 5% في سائر انحاء العالم، اما الكتب الاكثر مبيعا،  فتبين ارقام المعارض اجتياحا للكتب الخاصة بالابراج والسحر والتنجيم  والطبخ، وهي ظاهرة غير منفصلة عن ازدياد انتاج الكتب الدينية والتراثية. في المقابل، اذا ما اخذنا الجانب الاقتصادي من هذه الصناعة، فان تقارير منظمات عربية رسمية اشارت الى ان مداولات سوق الكتاب العربية ،مبيعا وشراء، لا تتجاوز اربعة ملايين دولار، فيما يصل هذا الرقم في دول الاتحاد الاوروبي الى حدود 12 مليار دولار، تؤشر الارقام المشار اليها على دلالات سياسية واجتماعية وثقافية تتصل ببنية المجتمعات العربية ودرجة تطورها بعد مرور عقود على استقلالها وسعيها لتحقيق تنمية في مجتمعاتها. تعكس هذه الارقام الفشل العربي وعجزه عن مواكبة العصر وعن الافادة من حجم الثروات المتوفرة في الارض العربية. يعبر ضعف الانتاج المعرفي عن مشكلات بنيوية متعددة.

ــ يرتيط ضعف انتاج الكتاب بالمستوى التعليمي وطبيعة التعليم السائد في كل بلد. لا يقوم نظام التربية والتعليم في الغالبية الساحقة من البلدان العربية على الاستقصاء والبحث، بل ما يزال يعتمد التلقين اساسا لهذا التعليم، مما يجعل الكتاب غير ضروري كوسيلة للاطلاع والتفتيش عن المادة المطلوبة.  يتصل بهذا الجانب مسألة انخفاض المستوى الثقافي العام على جميع المستويات والعجز عن توظيف منجزات الثورة العلمية والتقنية في هذا المجال.

ــ تشكل الاوضاع الاقتصادية السائدة في المجتمعات العربية عنصرا معيقا لصناعة الكتاب. ما يزال مثلث الامية والفقر والبطالة يرمي بثقله على الشعوب العربية ويكبلها بحبال غليظة. ان عالما عربيا تصل فيه الامية الى حوالي 40% من سكانه ويتجاوز الاميون فيه ال70 مليون مواطن لا يحتاج الى كتب لن تجد من يقرأها. كما ان عالما عربيا يتجاوز فيه الفقراء ما نسبته 73% من سكانه،  ويعيش اغلبهم تحت خط الفقر، لن يشكل الكتاب هما من هموم سكانه في وقت يعجز الفرد فيه عن توفيرثمن هذا الكتاب. والامر نفسه ينطبق على العاطلين عن العمل الذي وصل حجمهم الى حوالي 25 مليونا وفق تقارير منظمة العمل العربية، حيث يحتاج هؤلاء الى تأمين لقمة العيش وفرصة العمل قبل ان يدخل في خلدهم شراء كتاب لا يملكون اصلا ثمنه .

ــ في عالم عربي لا يزال يتسم بالاستبداد السياسي وتسليط سيف الرقابة والقمع على الكلمة، يتعرض انتاج الكتاب الى ضغوط ناجمة عن معاناة مزدوجة للكاتب، الاولى من المؤسسات الامنية المقيدة لحرية التعبير والرأي، والثانية نتيجة قيود ذاتية يضعها على نفسه وعلى نتاجه خوفا من تعرضه لاضطهاد المؤسسات الامنية اوالدينية. كما تشكل هيمنة التقاليد والموروثات المتخلفة عنصر اعاقة امام تحفيز الكاتب على الانتاج.

ــ تحتاج صناعة الكتاب، كأي صناعة اخرى، الى توظيفات مالية في هذا القطاع، تبدأ من تحفيز الكاتب على الانتاج عبر تقديم تسهيلات مالية تؤمن له حدا من التفرغ، كما تتعلق بتوظيف رساميل في انشاء دور للنشر وتوفير المواد الخام بما يخفف من ارتفاع الكلفة وبما يسمح ببيعه بسعر معقول يساعد في تداوله، وتحتاج الصناعة ايضا الى انشاء مكتبات تمثل سوقا لتوزيع الكتاب وتسهيلا للاطلاع المجاني عليه من المواطن. كما يتطلب الكتاب ايضا حرية التداول في الاسواق داخل العالم العربي بعيدا عن الصعوبات الملقاة في وجهه من منع تداوله او مصادرته .

ـ تتصل صناعة الكتاب بشكل وثيق بحجم القراء في كل بلد. يعكس التوزيع هذا الحجم ويؤشر الى ضعف القراءة في العالم العربي، بل تعكس تراجعا متصاعدا في هذا المجال. في مراحل النهوض خلال الستينات والسبعينات، كان تنافس يدور بين النخب حول عدد الكتب التي قرأها كل واحد خلال شهر، فيما بات عاديا اليوم ان تسمع نخبا ومثقفين ومن حملة الشهادات العالية لا يخجلون من الاعتراف بأن شهورا مضت لم يقرأ الواحد منهم اي كتاب . لا ينفصل هذا التراجع عن الواقع السياسي الذي يسيطر عليه الاحباط واليأس نتيجة الهزائم التى منيت بها المجتمعات العربية وفشل برامج النهوض الاقتصادي والاجتماعي .

قد يحتاج التبصر في عوامل تأخر انتاج المعرفة الى نظرة اشمل تتناول مسائل بنيوية في العالم العربي. تزدهر الثقافة او تنحدر بالعلاقة مع مراحل النهوض او الانحسار للمجتمعات. كما ان مقاييس متعددة تطرح في تعيين مدى الازدهار والانحدار، وهو امر يتصل بنمط الثقافة الصاعدة في هذه المرحلة او تلك. في عالم عربي مر بمراحل متعددة من تطوره في القرن العشرين وشهد فيه مرحلة من النهوض المتعدد الاوجه، ليبراليا وقوميا ويساريا، انتجت ثقافة اتسمت على الغالب بالعقلانية والتعمق في المعضلات البنيوية للعالم العربي، فقد كانت ثقافة رحبة تتقبل النقد، وتتصدى لكل الموضوعات بدون وجل، مستفيدة من اجواء سياسية واجتماعية تتيح للكاتب حرية في التعبير. في تلك المرحلة المعتبرة ذهبية بحق بالنسبة لانتاج المعرفة، ظهر ما يعرف ب"المثقف العضوي" وفق تعريف الماركسي الايطالي غرامشيي، وازدهرت ترجمات وكتابات سارتر ولوكاش وغيرهم من المفكرين جنبا الى جنب مع مفكرين ليبراليين من شتى بلاد العالم. طرح انهيار المشاريع "التقدمية " وسائر المشاريع "التطورية" سؤالا ما يزال راهنا حول الحاجة الى هذا المثقف العضوي وغيره من مثقفي التحليل والدراسات المعمقة والنقدية للمجتمعات وللسلطات الحاكمة. فاقم الاحباط واليأس من التحول الى نمط آخر من اكتساب الثقافة والمعرفة ، اي الانتقال الى وسائل الاعلام المرئية حيث حلت الفضائيات مكان الكتاب، وباتت البرامج التلفزيونية مصدر الاطلاع، وهي برامج قابلة في الاصل الى جذب الجمهور وشده الى متابعتها، في وقت يئس فيه المواطن من السياسة والسياسيين في ظل الاخفاق المتواصل في جميع الميادين. هكذا فقد المثقف بالمعنى النهضوي جزءا اساسيا من دوره ووظيفته، وهو امر من الطبيعي ان يتسبب له في تراجع انتاجه طالما ان القرّاء باتوا نوادر وعديمي الاهتمام.

ترك هذا الانحسار في الثقافة الديمقراطية المجال لحلول ثقافة معاكسة اجمالا للسابقة، اي لثقافة ماضوية مستحضرة التراث العائد الى مئات السنين باساطيره ورمزياته، يموروثاته الدينية وفكره غير العقلاني. قدمت هذه الثقافة نفسها بديلا سياسيا وعقائديا لمشاريع قومية ويسارية وليبرالية فشلت في تحقيق آمال ومطالب الشعوب العربية. توفرت لهذه الثقافة الاصولية والسلفية كل وسائل النشر والاعلام بحيث بات بامكانها الوصول الى كل بيت، واستندت في اكتساحها الساحة الثقافية على يأس الجماهير من التغيير والخلاص الافضل. قدمت نفسها وسيلة انقاذ اعتمادا على الغيبيات واثارة الغرائز والمشاعر. هكذا تسود اليوم ثقافة لحمتها الغيبيات والعصبيات الطائفية والصراعات الاثنية، والرموز الدالة على تاريخ من الحروب المذهبية والطائفية، يقترن ذلك برفض للثقافة المخالفة ووضعها في خانة الارتداد وتكفير اصحابها. لا تكتفي هذه الثقافة بالارهاب الفكري ضد مخالفي رأيها بل تتوسل الارهاب المادي طريقا لقمع المخالف وبالتالي فرض منطقها. تتربع هذه الثقافة وتحشد الجماهير حولها في ظل تراجع هائل لنقيضها. لكن الاسوأ في هذا المجال هو انتقال قسم واسع من مثقفي المرحلة الماضية والانضواء تحت خيمة هذه الثقافات الاصولية الطائفية السلفية. يمثل هذا الانتقال الهزيمة الكبرى لثقافة الديمقراطية والتقدم في العالم العربي ووصمة عار في جبين تلك الفئات التي رأت فيها الناس مصدر معرفتها واملا في خلاصها .
بعد هزيمة حزيران عام 1967 قال احد قادة اسرائيل ما مضمونه :"ما دام العرب لا يقرأون، فما من خطر حقيقي يهدد الكيان الاسرائيلي، واذا قرأ العرب فلا يفهمون، واذا فهموا فلا يفعلون، وتاليا سنبقى نحن المسيطرين ". بصرف النظر عن صلافة وعنصرية هذا الرأي، الا انه وللاسف يعبر عن واحد من حقائق الوضع العربي المؤلمة. ان اعادة الاعتبار لاهمية التطور الثقافي والمعرفي يمثل واحدا من الحلقات المركزية في صراع الشعوب العربية مع المشروع الصهيوني .

 

 

 

 

القسم الرابع

مفردات من القاموس العربي



الاقامة العربية في الخوف



يحمل الانسان العربي ارثا من الخوف يعود الى زمن قديم ويتجسد في التراث العربي المتعدد الميادين. يخشى كوارث الطبيعة، ويخاف الاشباح والشياطين والجن، يرعبه الموت وما بعد الموت واحتمال ذهابه الى الجحيم. حتى الاله يتمثل له في صورة "طاغية"، فتقرع اذنيه آيات الترهيب من جهنم وبئس المصير اذا ما خالف التعاليم. تتجاوز قضايا الخوف هذه الانسان العربي لتطاول البشرية في كل مكان على رغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي يفترض انه ازال الكثير من مكونات الهلع عند تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية، لكن كشف المجهولات لم يؤد بعد الى الاطمئنان الكافي.

تبدلت موضوعات الخوف عند  الانسان العربي منذ عقود، لتشمل شؤونا اقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية، مما وضعه في درجة اعلى من الهوس والاضطراب على وجوده الراهن ومستقبله المقبل.

يقلق الانسان العربي اليوم على مصيره الشخصي، وهو قلق وجودي بكل معنى الكلمة. ترعبه الارقام التي يقرأها عن الاوضاع الاقتصادية في عالمه والتي تصدر في تقارير رسمية، محلية اكانت ام دولية. يقرأ ان عدد سكان العالم العربي يصل الى حوالي 312 مليون نسمة بينهم 113 مليون عامل لا يجد منهم 25 مليونا مجالا للعمل، مما يضع العرب في خانة البطالة الاعلى في العالم. ويرتجف خوفا عندما تخبره التقارير ان اكثر من نصف سكان العالم العربي يعيش تحت خط الفقر وبمعدل دخل فردي لا يتجاوز الدولارين في اليوم، في وقت يعلم جيدا ان العرب يملكون ثروات وموارد يمكنها ان تؤمن وضعا معيشيا جيدا لجميع السكان. لذا عليه ان يتحمل ذلك المنظر المحزن لمئات الالاف من الجياع ولحالات الوفاة الناجمة عن النقص في الغذاء.

يخاف الانسان العربي الجهل المتفشي في الاجيال العربية، ومن الارقام المذهلة عن حجم الامية داخلها، حيث تصل نسبة الامية الى حوالي 100 مليون، اي ما يعادل 45% من سكان العالم العربي، في زمن وصل التطور العلمي في العالم الى مستويات متقدمة جدا. ويزداد الخوف اكثر عندما يلمس يوميا ارتباط الفقر والبطالة والامية بالجريمة والعنف وبما يشكل ارضا خصبة تغرف منها حركات الارهاب والتطرف فتفاقم هذه المعضلات وتزيد من عوامل البؤس والقلق.

يخاف هذا الانسان من الاصابة بمرض ما، فلا يستطيع دفع فاتورة الطبيب او ثمن الدواء، ناهيك بمترتبات الاستشفاء اذا ما اضطر الى ذلك. يتطلع الى نظام الرعاية الصحية في معظم الاقطار العربية فيرى تخلفها وفقرها عن الحد الادنى المطلوب في هذا المجال، فلا يعود مستغربا لهذا الحجم الكبير من الوفيات في وقت يواصل الطب في العالم تقدمه ووضع حد للكثير من الامراض. يتأسف الانسان العربي على واقع عربي ما يزال يسجل اعلى النسب في وفيات الاطفال والشيوخ، فيما تسجل البلدان المتقدمة نسبا متطورة جدا في الشيخوخة العائدة الى حسن الرعاية الصحية.

يمتد الخوف على المصير الشخصي ويتضاعف بعد دخول العالم العربي مرحلة الحروب الاهلية والصراع على الموروثات والرمزيات المتجلية في ابشع مظاهرها عنفا وتطرفا وارهابا. تتراجع الاضطرابات ذات الطابع الاجتماعي السلمي الهادفة الى تحسين اوضاع معيشية وتعديل مسار سياسي وطني او قومي، وترتد الصراعات الى اواليات جرى الظن انها باتت من الماضي بعد قيام الدولة، ليرى انبعاثها صراعات طائفية ومذهبية وعرقية واثنية وقد غزت المجتمعات العربية كلها من دون استثناء. باتت الطائفة قاعدة الانتماء والهوية بديلا من الوطن، مما يقض مضجع المواطن ويتسبب له بمصائب عديدة، وهو الذي لم يكن له خيار فيها بما جعل اسمه وكنيته عنصرين محددين لمصيره، موتا او حياة، بعدما ارتفعت وتيرة الهوس في التطهير العرقي والمذهبي والطائفي.

وصارت المنطقة التي يسكنها مصدر خطر في ضوء تشكلها او فرزها الطائفي والمذهبي. يزيد في الرعب تصاعد نسب ميادين المقدس وشموله انواع واسعة من  الماديات والمدنسات في كل طائفة ومذهب . فالقائد مقدس والسلاح مقدس والمقاتل مقدس والزي الذي نرتديه دخل عالم القداسة باشكال مختلفة. وفي ظل سيادة التقديس هذه، لا يعود غريبا ارتفاع اصوات التكفير والتخوين ورفض الاخر، وان تتحول بالتالي الكلمات والخطب والشعارات الى رصاصات قاتلة تطال من يخالف المذهب وقادته. والاغرب من ذلك اصرار زعماء الطوائف والمذاهب على رفض الحروب الاهلية وهم الذين يصنعونها ويرفعون مداميكها يوميا. هكذا يصبح الدين اداة في الصراع السياسي، ووسيلة لتقسيم المجتمع ومفتاحا للحروب المذهبية، بعدما جرى حرفه عن وظيفته الاصلية في قيادة الانسان الى الحب والخير والتسامح والرحمة وعبادة الاله الواحد. ان ما يشهده العراق ولبنان على سبيل المثال لن يكون فريدا في بابه. فالخوف المشروع لدى الانسان العربي هو في امتداد ما يشهده هذان البلدان الى اقطار عربية اخرى تحمل في جوفها من عوامل الانفجار ما لا يقل صخبا عن الحالتين العراقية واللبنانية.

بالاضافة الى هذا الخوف الذي يتسبب به الانهيار المجتمعي، لا يزال الانسان العربي يقبع في خوف مزمن من السلطة السائدة واجهزة امنها ومخابراتها. عاش حلما مديدا خلال معركة التحرر من الاستعمار وبناء دولة الاستقلال بالحرية والديمقراطية والعيش الكريم، وبمستقبل لابنائه ينعمون فيه بالعلم والعمل، فاذا باحلامه وقد تبخرت ليجد نفسه في قبضة ديكتاتوريات وانظمة استبداد تتحكم في رقاب الشعب فتنهب ثرواته وتعيث به فسادا. هكذا بديلا من الحرية والكرامة والرأي الحر والتمسك بقيم العدالة والمساواة، يجد الانسان العربي نفسه مقيما في السجون يعاني التعذيب وانتهاك ابسط حقوقه في الحياة. والغير مقيم في السجن يرعبه ما يقرأه عن الحياة في السجون العربية او ما يسمعه من الذين اتيح لهم الاستمرار على قيد الحياة بعد الاقامة سنوات طويلة في سجون الاستبداد. هل يلام الانسان العربي من ان يتجلبب بالخوف عندما يقرأ رواية احد الخارجين من سجن عربي " كيف ادخل السجانون فأرا في فم سجين، او كيف امسك عسكريان السجين في يديه ورجليه ثم راحا يؤرجحانه بحركة بندولية متصاعدة وما ان ارتطم جسمه بالارض حتى امسكاه من جديد وكررا اللعبة ذاتها الى ان تحول السجين الى جثة هامدة" (خيارات اللغة والصمت لفرج بيرقدار).

كانت الوحدة العربية احد احلام الانسان العربي، لكن ما تحقق منها اتى خلافا لرغباته في الديمقراطية والتقدم والتحرر القومي والنهوض الاجتماعي. تحققت "الوحدة العربية" ماضيا وراهنا في  تسليط الاستبداد والقمع والقهر على الشعوب العربية ومن خلال ممارسة ابشع انواع الاذلال لها. انها وحدة الجلادين والمستبدين تتوطد كل يوم وتجد لها قنوات تواصل بين اجهزة التسلط والقمع. "وحدة" تجعل الانسان العربي يتمنى لو انه لم يخلق في هذه الارض او يعيش فيها.

لا يقتصر خوف الانسان العربي على حاضره، ذلك انه قد يكون اعتاد العيش في ظل هذه الاوضاع، و بات مقتنعا باستحالة تغييرها. لكن خوفه الاكبر من الزمن المقبل يؤرقه ان لا يرى بصيص نور في هذا النفق المظلم الذي دخله العالم العربي ولا افق مرئيا للخروج منه. تؤرقه اكثر رؤيته الانهيارات في السياسة والاقتصاد والثقافة والقيم، فكلما حاول تصورا لمستقبل افضل، صفعته صور الحاضر التي تنذر بانهيار اعمق .

قد يكون عنصر الخوف الاكبر لدى الانسان العربي ماثلا  في سيادة الغيبيات والخرافات على حساب العقلانية والمنطق وتحكمهما بمفاصل الحياة من دون استثناء. قد يبدو هذا الزحف كرأس جبل الجليد، لان هذه الغيبيات ترسخ جذورها عميقا في المجتمعات العربية محمية هذه المرة بقوة لا تقهر، انها قوة "الالهيات".




في بعض مكونات الذهنية العربية


ساعدت الثورة التكنولوجية ومعها ثورة الاتصالات في احداث تحولات في العالم طالت جميع ميادين الحياة العامة منها والخاصة. نجم عن هذه التطورات انتهاء ما كان يعرف بالمناطق المغلقة في هذا المجتمع او ذاك وبات العالم بحق "قرية صغيرة" يستطيع كل فرد في اي مكان وجد ان يصل الى اعماقها ويتجول في ارجائها. من الطبيعي ان تتأثر القيم المجتمعية في كل بلد بهذا الاختراق المتبادل، وان تتعرض لرضات منها ما هو سلبي رفضا للوافد الجديد من افكار ومثل وقيم، ومنها ما هو ايجابي يرى في الاحتكاك الحضاري نقلا للمجتمع الى مرحلة متقدمة في التطور والحداثة. لم ينج بلد او مجتمع من آثار هذه الثورة التكنولوجية على صعيد الافكار والعادات والتقاليد والقيم، كما لم ينج بلد من ردة الفعل عليها. لم يكن العالم العربي بعيدا عن التأثر بمنتجات هذه النقلة العالمية، كما واجهت ثقافته وما تزال الارتدادات التي تسبب بها الاحتكاك الحضاري بمجتمعات اخرى ردود فعل متعدد الاتجاهات، بحيث يطرح سؤال اليوم عن الثقافة العربية بشكل عام ، وعن الذهنية السائدة التي تحكم سلوك المواطن العربي. وهو تساؤل يذهب بعيدا حول التقدم والتخلف في المجتمعات العربية واسباب ديمومتها، وصولا الى التساؤل عن الحدود التي استطاع فيها العرب الدخول الى العصر، وتعيين المعوقات الثقافية التي تحجز العقلية العربية في اسار ماضوي متمترس عند مفاهيم ترفض التكيف مع التغيرات التي يشهدها العالم كل يوم.

اول المحددات في تكوين الذهنية العربية اليوم هو وسائل الاعلام المرئية، وعلى الاخص منها التلفزيون بمحطاته المحلية والفضائية بشكل ادق. اثبتت تقارير صادرة عن مؤسسات بحثية ان 90% من المكونات الثقافية للانسان العربي يحصلها من مشاهدة برامج التلفزيون. وهو امريطال جميع الاجيال من الاطفال الى الكهول من دون استثناء، مما يعني ان النظر في ما تبثه هذه الوسائل يشكل مادة تساعد في تحليل الذهنية السائدة وميادينها بسلبياتها وايجابياتها. تخضع وسائل الاعلام المواطن الى برامج تتحكم فيها المنفعة المادية التي ستجنيها هذه المحطة بصرف النظر عن انعكاسات مضمونها على الجمهور. تتمحور البرامج المحلية عادة على برامج ترفيهية او استعراضية وغنائية، ويذهب بعضها الى استحضار قضايا تاريخية او مشكلات اجتماعية، تستقطب البرامج الترفيهية معظم المشاهدين، كما تشكل مادة اعلانية جاذبة. تزاحم البرامج الاجنبية هذه البرامج المحلية وتطغى عليها بشكل كبير. من المعروف ان النتاج التلفزيوني الاجنبي غني في برامجه ومتنوع في موضوعاته ويملك قدرة لا مجال للمقارنة في جذبها للجمهور من البرامج المحلية. ينظر الباحثون الاجتماعيون الى التأثير الذي تتركه البرامج الاجنبية على الذهنية والثقافة والعقلية المحددة للمواطن. تثار في هذا الجانب قضية الاختراق الثقافي والمس بالقيم المحلية ولجوء المواطن العربي الى تقليد ما هو وارد من افكار ومفاهيم في هذه البرامج. تمارس البرامج الغربية وعلى الاخص منها الاميركية ما يطلق عليه اليوم نوع من "الغزو الثقافي" ، وهو غزو لا يقتصر على المجتمعات العربية بل يمتد الى سائر المجتمعات العالمية، حتى ان اوروبا تشكو من سيطرة البرامج الاميركية على جمهورها، ويناقش مفكروها الانعاكاسات السلبية لهذه الثقافة الواردة على القيم الثقافية الاوروبية السائدة والموروثة.

ليس من شك ان ماتطرحه الفضائيات يشكل واحدا من محددات الذهنية العربية، كما تثير التناقضات المتولدة عن هذا الاحتكاك والتحديات المطروحة على المجتمعات العربية في كيفية التعاطي مع آثارها سلبا ام ايجابا. لا معنى للحديث مطلقا عن اقفال الجمهور على مشاهدة هذه البرامج لاستحالة اتخاذ مثل هذا القرارسياسيا وماليا وبالنظر الى الهيمنة الاميركية العالمية التي تتجاوز السياسة الى كل شيء. كما يستحيل الاغلاق على هذا الوارد بسبب انتشار التكنولوجيا الرقمية والانترنت الذي يستحيل التحكم في حجز معلوماته عن اي انسان على وجه الارض. مما يرمي تحديات على مجتمعاتنا في التكيف مع الوافد الجديد والافادة مما يقدمه على صعيد التطور الثقافي والعلمي بدون عقد، ونقاش ما يمكن ان يحد من سلبيات فعلية يصعب الهروب من آثارها. يعني هذا ان الكرة مرمية في وجه المجتمعات العربية لانتاج ثقافة متناسبة مع العصر وتجاوز موروثات باتت من الماضي وعاجزة عن الوقوف امام المفاهيم الجديدة السائدة ، وهو موضوع نهضوي بامتياز يشكل ولوجه الجواب الممكن على ثقافة استهلاكية تغزو عالمنا العربي اسوة بسائر العوالم.

في المقابل، لا يجوز الاستهانة بالدور الهام الذي تلعبه وسائل الاعلام في تكوين الفكر السياسي العربي من جهة وفي التأثير على الحياة السياسية العربية. في الايجابي الذي يصعب تجاهله ان وسائل الاعلام هذه اتاحت للمواطن العربي حيزا من الاطلاع على الاوضاع السياسية واتاحت حدا من التعبير الحر عن آرائه، وساهمت ايضا في التأثير على كثير من الممارسات السياسية للسلطات القائمة وتعديل قراراتها. تحتل البرامج السياسية حيزا رئيسيا في هذه الوسائل وتستقطب جمهورا واسعا لا يقل عما تستقطبه برامج الترفيه والتسلية. هكذا ساعدت القنوات المحلية والفضائية في تكوين رأي عام بصرف النظر عن المادة السياسية التي يعتنقها كل واحد. وهو امر امكن انجازه على الرغم من القيود والممنوعات التي لا تزال تجد وسيلة للفعل والحد من التعبير الحر والصادق عن الحقائق.

لكن ما يؤخذ على هذه البرامج هو التغييب شبه الكامل للمشكلات البنيوية للمجتمعات العربية ولعوامل التخلف السائدة فيه ولسيادة العشائرية والطائفية والقبلية على حساب الدولة، اضافة الى الحيز القليل الذي يعطى لقضايا الديمقراطية والحريات السياسية. لذا تبدو هذه البرامج محكومة بقيود محددة لا يمكن تجاوزها الا في ما ندر. والاسوأ من ذلك ان البرامج السياسية والسجالات التي تدور في رحابها تتكشف كل يوم عن مستوى رهيب من التخلف من حيث اللغة السوقية  المستخدمة ورفض الاستماع الى الاخر ومنعه من التعبير عن رأيه، بما يحول هذه البرامج احيانا الى ما يشبه "السيرك". لا تساعد البرامج السياسية في تكوين ثقافة سياسية متنورة بمقدار ما تؤجج الصراعات وتعمق النزاعات وتشوش من الفكر اكثر مما توضح.
لا يستقيم الحديث عن التلفزيون من دون التطرق الى القنوات الدينية والدور الذي تلعبه في تكوين الذهنية العربية. انتشرت هذه القنوات خلال السنوات الاخيرة بحكم عوامل متعددة منه ما ساهمت فيه الانظمة السياسية السائدة طمعا في اخذ مشروعية لسلطتها من المؤسسات الدينية، ومنها ما اتى استجابة لانفلات الحركات الاصولية وتوظيف  "البترودولار" في ترويجها، ومنها استند الى تمويل القطاع الخاص انطلاقا من فوائد مالية ناجمة عن هذا التوظيف. تحفل هذه القنوات يوميا باستحضار رجال الدين الذين يطلقون الفتاوى العشوائية التي لا توفر شيئا من امور الحياة والدنيا سواء اتصل ذلك بالامور الدينية ام لم يتصل. بهذا المعنى، ليس مبالغة القول ان هذه القنوات تستولد ذهنية عربية اقل مافيها اعطاء الحيز الحقيقي للدين بما هو قيم روحية واخلاقية وهداية للانسان، بمقدار تركيزها على استخدام الدين في الصراعات السياسية، بكل ما يعنيه ذلك من اثارة للتحريض الطائفي واثارة الاحقاد ضد الطوائف والمذاهب وتكريس ذهنية رفض الاخر والاصرار على ان كل مذهب يمتلك الدين الحق فيما الاخرون متهمين بالكفر والالحاد مما يبرر سفك دمهم اورفض التعاطي معهم. ينطبق هذا الحكم على جميع وسائل الاعلام الدينية التي ترعى عقلية تزيد من مفاعيل تخلفنا.

اذا كانت وسائل الاعلام المرئية تشكل العامل الاهم في تكوين الذهنية العربية، الا ان طبيعة البرامج التعليمية السائدة لا تقل تأثيرا في سلبياتها. ما تزال البرامج التعليمية اسيرة التلقين والحفظ الغيبي، ولم تتطور الا في القليل منها نحو البحث والتحقيق بما يخلق شخصية منتجة وليست متلقنة. يضاف الى ذلك العجز عن الافادة من منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية في الارتفاع بمستوى التعليم. هذا في وقت تبدو هذه البرامج بعيدة عن حاجات المجتمع ومتطلباته وموجبات تقدمه، مما يعني تخريج دفعات كبيرة سنويا من عاطلين عن العمل. يترافق ذلك مع عجز الانظمة القائمة عن الحد من الامية السائدة في العالم العربي والتي تصل الى اعلى المستويات العالمية بحيث تقارب42% من سكانه. ليس غريبا ان تسود ثقافة تستولد التطرف والارهاب وتشكل تربة خصبة لنمو وازدهار الحركات الاصولية. فالامية المقترنة بالبطالة الواسعة من اهم  البؤر المستقطبة لذهنية الاستبداد من قبل السلطة الحاكمة، وللتطرف والعنف جوابا عن البؤس الاجتماعي. تزداد خطورة هذه الذهنية من جراء الغذاء االيومي الذي تقدمه لها القنوات الدينية العاملة في الوطن العربي.

لا يشكل العاملان المشاراليهما الجواب الكامل عن محددات الذهنية العربية، لان المقاربة الاوسع تتطلب التفتيش عن هذه المكونات في كل ميادين الحياة اليسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية.. لكن المظاهر التي تتبدى بها هذه الذهنية يمكن تبينها في كل ماتعبر عنه مظاهرحياة المواطن. ما يزال يغلب على هذه الذهنية الانشداد الى الماضي والتقوقع في امجاده والحنين الى العودة اليه ورميه في وجه الحاضر التائق الى الافادة من منجزات التقدم. يترافق هذا الانشداد مع هاجس الغزو الثقافي الاتي من الغرب واقتلاع الهوية، مما يستوجب الرد على الاقتلاع بالانغلاق على الذات، بما يعني عمليا ادامة التخلف. ينتج عن هذه "المواجهة" عقلية تغلب المنطق المؤامراتي التي ترى ان العرب يواجهون مؤامرة تهدف الى النيل من حضارتهم واقتلاع هويتهم والسيطرة على تاريخهم بما يجعلهم مقيمين في دوامة التخلف والبؤس ويمنع بالتالي تقدمهم. ما تزال الذهنية العربية عاجزة عن الانتقال من سؤال "لماذا فعلوا بنا ذلك" الى سؤال "لماذا حصل معنا ذلك"، لان الجواب لا بد ان يتجاوز عقلية تحميل الخارج مسؤولية تخلفنا من اجل رؤية العناصر البنيوية الداخلية لهذا التخلف.

ومن تجليات هذه الذهنية ايضا سيادة حالة من اليأس والاحباط والخوف عند المواطن العربي مما هو مسيطر من جهة، ومن الاحساس باستحالة التغيير نحو الافضل. تلائم حالات الاحباط التوجهات السياسية لانظمة الاستبداد  لانها تشكل مانعا من العمل على تغيير الاوضاع السائدة ، وتعزز الخطاب السلطوي الداعي الى الابقاء على الاوضاع الراهنة لان بديلها ويلات وكوارث على الشعب عامة.

في ظل هذه العقلية، تزدهر ثقافة الطوائف والقبائل والعشائر وتسود مفاهيمها وقيمها، خصوصا وقد تحولت الى سلطات فعلية يلجأ اليها المواطن طلبا للحماية الشخصية ووسيلة للارتقاء الاجتماعي وسبيلا الى تأمين موارد العيش. يتغذى هذا الموقع للطوائف من انتاج مثقفيها او من التحاق من كانوا خارجين عنها ودفعهم انهيار مشروع الحداثة والتقدم الى الارتداد عن مواقعهم والالتحاق ب"قبائلهم".
لا تبدوالصورة مشجعة في رؤية امكان الخروج من نفق الذهنية الخرافية والمتخلفة التي تحجز المجتمعات العربية حتى الان، انما تبقى مراهنة على ولادة قوى نهضوية تحفر بعناد من اجل تجاوز هذا الواقع

خرافة "المستبد العادل"


يشهد عدد من الدول العربية تصدعا في مؤسساته السياسية والمدنية يترافق مع انبعاث لعصبيات عشائرية وطوائفية تسعى الى الحلول مكان مؤسسات الدولة. يتجلى هذا التصدع في مواطن متعددة من خلال صراعات اهلية ونزاعات سياسية تمزق النسيج الاجتماعي لهذه الدول، ويقدم العراق وفلسطين ولبنان شواهد حية على هذا المآل وان تكن ليست الفريدة في بابها، حيث ان سائر البلدان العربية تحوي ما يشابهها، هذا اذا لم يكن يفوقها خطرا.

ترى نخب من السياسيين او من المثقفين ان هذا التدهور يعود في جوهره الى تقلص سلطة الدولة القائمة او الى توزعها، وهو تقلص يتحمل مسؤوليته "الخيار الديمقراطي" الذي بدأت بعض الدول العربية اعتماده، فتسبب مباشرة بحد واسع من تفتت المجتمعات وانقسامها وتصدع وحدتها. يستشهد معتمدو هذه النظرية بالحال التي اصابت دول المعسكر الاشتراكي سابقا حيث ادى اعتمادها الخيار الليبرالي الى انهيار مقوماتها وانغماسها تاليا في حروب اهلية ذات طبيعة اثنية وعرقية لا تزال تغرق عددا منها حتى اليوم. تجنبا لمآل مماثل، يقول بعض هذه النخب بحاجة المجتمعات العربية الى "مستبد عادل" بديلا من الحاكم العربي الممسك راهنا بكامل السلطات، وكذلك بديلا من "الاندفاع الديمقراطي" الغامض الاهداف وغير المضمون في نتائجه الايجابية.

تحتاج مقولة "المستبد العادل" الى نقاش تاريخي وراهني. ينسب هذا القول الى جمال الدين الافغاني، احد رواد النهضة في القرن التاسع عشر، والذي اطلقه جوابا "خلاصيا" عن التخلف العربي السائد آنذاك، وفي وصفه سبيلا للتقدم المتعدد الجانب. يعيده آخرون الى التاريخ العربي – الاسلامي الذي عرف حكاما اتسمت سياستهم بالاستبداد والعدل في الان نفسه، وعرفت الدول العربية- الاسلامية نهوضا وازدهارا خلال عهودهم.

لا يقدم التاريخ العربي، عند التدقيق الموضوعي في مجرياته، اي شواهد على وجود قائد سياسي، ملكا اكان ام رئيس دولة، اتصف بالاستبداد والعدالة في الوقت نفسه. يقدم التاريخ صورا لمستبدين وطغاة حكموا شعوبهم ودولهم بالسيف والمدفع، وتركوا اجهزتهم الامنية تفتك بالحريات وبحقوق المواطنين، فصادروا الدولة ومؤسساتها وداسوا القوانين واسكتوا الافواه وانتهكوا حرمات الناس. تكاد هذه الصورة تعكس واقع الحاكم العربي منذ قيام الدولة الاسلامية – العربية قبل اربعة عشر قرنا حتى عصرنا الراهن.

يستحضر القائلون بضرورة "المستبد العادل" اسبابا بنيوية يرون بموجبها ان المجتمعات العربية تشكل ابلغ دليل على صحة نظريتهم. يستعيدون "ابن خلدون" الذي سبق وقال في "مقدمته" بحاجة العرب الى وازع قوي نظرا الى "خلق التوحش الذي فيهم"، والى صعوبة انقياد بعضهم الى بعض، والى كون العرب يملكون طبيعة بشرية لا تعرف كيف تتمتع بالحرية، وهو امر يعني انهم لا يساسون الا بالقهر والقوة. يضاف الى ذلك طبيعة الواقع العربي المتسم بالتخلف وسيادة النزعات العصبية والقبلية وهيمنة الطوائف وغياب مجتمعات مدنية، وسيادة ذهنية مركبة على التعصب ضد الاخر، وهي امور تصب كلها لصالح وجوب "المستبد العادل".

تحتاج هذه المسوغات الى نقاش، فمن البداهة ان الاستبداد والعدل لا يأتلفان، بل يتناقضان في النظرية والممارسة، كما يلغي الواحد منهما الاخر. يمثل الاستبداد نقيضا لحق الانسان في الحرية والمساواة والعدالة والتفتح الفردي وحرية التعبير. يعمق الاستبداد تخلف المجتمع ويعوق تقدمه بالغائه المؤسسات الدستورية وتكريسه احتكار السلطة. منذ الخمسينات وما تلاها من مرحلة التحرر من الاستعمار وقيام انظمة الاستقلال، عرف العالم العربي قيادات تاريخية اعطتها شعوبها اوسع التأييد، وتوسمت فيها الجماهير العربية املا في قيادتها نحو التقدم والخلاص من البؤس والشقاء، ومنقذا قوميا ووطنيا، كما نالت هذه القيادات تفويضا غير محدود، شعبيا وسياسيا. اعتبرت الجماهير ان هذه القيادات ذات قدرة وسلطة واستعداد لتلبية طموحاتها، فتغاضت عن سلبياتها وغلّبت الايجابيات، وجرى وصف العديد من هؤلاء القادة ب"المستبد العادل".

لم يطل الامر بالشعوب العربية لتكتشف ان هولاء الحكام يتصفون بالاستبداد فقط، فيما يغيب العدل والعدالة من قاموسهم. رأوا بام العين كيف صادروا السلطة، والغوا تداولها، وبنوا اجهزة امنية وظيفتها التحكم برقاب المؤسسات والمواطنين معا. قدموا انفسهم صنّاعا للتاريخ والسياسة، ونصب بعضهم نفسه فيلسوفا ومفكرا ومصلحا، فسادت عبادة لفرد وتأليه الحاكم وشخصنة النظام. نشر هؤلاء الحكام سياسة الخوف وثقافته ورأوا فيها الوسيلة الانجع لاستمرار سلطتهم، كما وسعوا من حوارييهم ودمجوا النخب الثقافية في السلطة، واستخدموها في اصدار الفتاوى المشرعنة لسياساتهم وقراراتهم. تصرف الحكام مع الشأن العام في وصفه شأنهم الخاص فعاثوا في البلاد فسادا، ووصل بهم الامر في تمثل شعار ملك فرنسا لويس الرابع عشر:"انا الدولة والدولة انا".

في مقابل ذلك، يصعب تقبل التفسيرات التي تعيد الفوضى السائدة في بعض البلدان العربية الى اعتمادها "توجهات ديمقراطية" يعرف الكل انها ناقصة ومشوهة ولا تستجيب الحاجات الفعلية. لا يمكن انكار ما يعانيه بعض المجتمعات العربية راهنا من انبعاث لمقومات ما قبل الدولة وعلى حساب مؤسساتها، بما يهدد بحصول انفجارات قد تطيح ما حققته هذه المجتمعات من تحديث على امتداد عقود ماضية. لا تعود اسباب التصدع الى اعتماد "توجهات ديمقراطية" تحاول هذه المجتمعات تلمسها، بل يعود التصدع الى غياب الديمقراطية عن هذه المجتمعات لصالح الاستبداد والطغيان. فالسياسة القائمة على القمع والقهر الطائفي والعرقي واضطهاد الاقليات اسست لاحتضان سرعان ما عبر عن نفسه باشكال عنفية مختلفة. ان ما يشهده بعض الدول العربية من تفكك في بناه في اعقاب زوال الديكتاتورية فيها، مرشح لان يطاول دولا اخرى عندما تنزاح سلطة القمع عن كاهلها.

لا يسود في العالم العربي منطق الديمقراطية ومؤسساتها بمقدار ما يتسلط الاستبداد فيه. يحتاج هذا العالم اليوم الى تفكيك المؤسسة الديكتاتورية شرطا للخلاص من القهر وسبيلا لاعادة بناء المجتمعات ووضعها في ركاب التقدم. لا تنهض حجة على استعصاء العالم العربي على الديمقراطية وعلى الحداثة السياسية، فعلى رغم وجود عقبات تحول دون تحقق الديمقراطية سريعا، وهي عقبات تتصل بثقافة الديمقراطية ودرجة التطور الاجتماعي والاقتصادي، الا ان هذه المعوقات تتكسر تباعا كلما سادت دولة القانون والمؤسسات، وتحقق تداول السلطة، وساد الفصل بين السلطات، اضافة الى تكريس حقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير السياسي، والتعددية والاعتراف بالاخر وضمان حقوق الجماعات ومنع اضطهاد فئة لاخرى.

تتعلم المجتمعات ممارسة الديمقراطية بمقدار انخراطها في صراع مستديم للوصول اليها. ولا مجال لمواحهة عقبات تحققها وتجاوز صعوباتها الا بالمزيد من النضال في سبيلها.

نظرية المؤامرة في العقل السياسي العربي


لم تعرف اللغة السياسية العربية كلمة اكثر انتشارا وابتذالا من كلمة "مؤامرة ". لا يكاد سجال يخلو، مهما كانت نوعيته، من استخدام هذه الكلمة. مثلت المؤامرة في التاريخ العربي مشجبا علقت عليه الازمات، وما تزال تشحن الجمهور وتخترق الصراعات السياسية والايديولوجية وغيرها. وصف العرب سابقا بانهم "ظاهرة صوتية "، كما يمكن اضافة وصف آخر هو" الجنون المؤامراتي" المسيطر على عقولهم حكاما واحزابا وطوائف وعشائر وحتى مؤسسات اهلية.

يتمحور قسم كبير من قراءة التاريخ العربي، ماضيا وحاضرا، على تفسير للاحداث وتعليل للهزائم بوصفها نتيجة المؤامرات التي تعرض لها العرب والاطماع الاجنبية في السيطرة على الاراضي والموارد العربية. تحمل هذه الاحالة في تفسير التاريخ الى العوامل الخارجية اخطارا واخطاء فكرية وسياسية. لا يمكن بالتأكيد اغفال دور المؤامرات الخارجية في صنع الاحداث الداخلية او التأثير فيها، وهو امر يشهد عليه التاريخ. لكن هذه الاحالة في العقل السياسي العربي توظف في تغييب المسؤولية الذاتية وعدم تشخيص الاسباب الحقيقية للعجز التي تسمح للمؤامرة بالمرور والنجاح.

تستحضر المؤامرة في تبرير انهيار الامبراطورية العربية بعد التوسع والازدهار الذي عرفته في القرون الوسطى. فالحقد الغربي على العرب والاسلام كان وراء الحروب الصليبية التي ساهمت في تدمير هذه الحضارة.  يتجاهل العقل العربي ان الانهيار لم تقتصر عوامله على التدخلات الخارجية فقط، انما يعود في اسبابه الرئيسية الى التناقضات والصراعات الداخلية على السلطة مما ساعد في اضعاف السلطة المركزية وبالتالي انحلالها. هذا اضافة الى تراجع الموارد وتقلصها مما اثر سلبا على الاقتصاد، واقتران ذلك كله بانحطاط فكري وتخلف اجتماعي وسيادة الفساد والظلم والاضطهاد، وهي امور ادت الى "هرم الدولة " وفق تعبير ابن خلدون وبالتالي انهيارها.

للعقل المؤامراتي تفسيره الخاص للسيطرة الامبريالية على المنطقة العربية. لم يخف الاستعمار اهدافه التوسعية ماضيا وحاضرا، لجهة السيطرة على موارد المنطقة خاصة االنفط منها. كما ان هذا الاستعمار اقام دولة اسرائيل في اطار مشروعه للهيمنة على المنطقة واعاق عمليات توحيد عربية. لكن العقل العربي يغيب الاسباب التي مكنت الاستعمار من النجاح في تحقيق اهدافه. انها اسباب عربية تتصل بالبنى العربية التي شكلت دائما وما تزال الممرات اللازمة لاختراق السيطرة الامبريالية على المنطقة والقنوات الداخلية التي مكنتها من بسط نفوذها.

جوبهت العلاقة العربية مع الغرب منذ مطلع القرن الماضي وحتى اليوم بتهمة المؤامرة. طرح رواد النهضة اواخرالقرن التاسع عشر ضرورةالاستفادة من علوم الغرب وحضارته، وشدد سائر الرواد على امتداد القرن العشرين على اهمية الدخول الى العصر عبر الثورة العلمية والتكنولوجية كأحد شروط تجاوز تخلفنا. على رغم ان منجزات هذه الثورة باتت تخترق عوالمنا العامة منها والخاصة، الا ان اصواتا عربية واسعة ما تزال ترى في هذا التقدم العلمي مؤامرة لا وظيفة لها سوى تدمير ثقافتنا وقيمنا وحتى ديننا ، بل لا تتورع هذه الاصوات عن الاصرار على وجوب القطيعة مع الغرب.

ادت العولمة الى تعميق مأزق هذه الدعوات فجرى التعاطي مع هذا المفهوم على انه ذروة المؤامرة، لم يكلف بعض هذا العقل العربي نفسه قراءة العولمة موضوعيا بوصفها مرحلة متقدمة من التطور البشري تعبر ثورة الاتصالات والتكنولوجيا والاختراعات العلمية المتقدمة عن ابرز وجوهها. يسعى العالم كله اليوم للدخول في العولمة من دون ان يغفل الاثار السلبية التي تصاحب كل تطور وتقدم، ومن دون ان يتجاهل ايضا الاستغلال الاميركي لهذه العولمة في فرض سيطرته العسكرية والاقتصادية. بديلا من بحث عربي يتناول كيفية توظيف منتجات العولمة في نهضتنا وتطورنا،  نحا قسم غير قليل من العقل العربي الى رمي العولمة بتهمة الغاء الذات العربية والهوية الثقافية والدينية والحاقها بالثقافة الغربية، يبتعد هذا العقل عن تفسير هشاشة "ذاتنا العربية " الخائفة دائما من الاحتكاك بالاخر، كما يصعب عليه التجرؤ على نقاش سلبيات العولمة ليمكن تفاديها .

مع تكون النظام العربي في خمسينات القرن الماضي، اتخذت "المؤامرة " لها وظائف ايديولوجية وسياسية فباتت جزءا من عقيدة السلطة، صنفت هزائمنا المتتالية والمتنقلة على انها حصيلة مؤامرة استعمارية، فيما جرى تغييب العوامل الداخلية للهزائم، وبما ان هذه الهزائم فعل مؤامرة على النظام القائم وعلى حكامه، بات الاصرار على عدم المس بالنظام وقياداته والامتناع عن محاسبتهم افضل وسائل اجهاض هذه المؤامرة.

وجد النظام العربي ضالته في نظرية المؤامرة وسيلة لتكريس سلطة القمع والاستبداد ومنع اي تغيير. تحت حجة مجابهة المؤامرة الامبريالية الصهيونية باتت الدعوة الى الحرية والديمقراطية والمساواة مطالب مشبوهة تمس الامن القومي، لان هذه المطالب تحول الاهتمام عن تجنيد القوى الشعبية للتصدي لهذه المؤامرة. اما المظاهرات والتحركات الساعية الى تحسين الاوضاع الاجتماعية فليست سوى مؤامرة هدفها تقسيم الشعب وزعزعة الوحدة الوطنية مما يستوجب قمعها بشدة. وينسحب منطق المؤامرة على العمل السياسي وحق الاحزاب في الممارسة، فيجري وسمها بالخطر لانها تسمم افكار الشعب بالمبادئ الهدامة المستوردة من الخارج.

لم يقتصر استخدام ايدولوجيا المؤامرة على الانظمة العربية، بل كانت ايضا في صلب الخطاب السياسي للحركات الحزبية في العالم العربي. امتازت الحركات والاحزاب القومية واليسارية والدينية بقاسم مشترك في ما بينها الا وهو غياب االديمقراطية عن هويتها الفكرية وعن ممارساتها العملية. ادى هذا الغياب الى مسلكين يصبان في هدف واحد، يتناول الاول العلاقات الحزبية الداخلية حيث ينظر الى الاختلاف في الرأي او معارضة القرارات الحزبية بمثابة تمرد تقف وراءه مؤامرة تستهدف وحدة الحزب والحركة، فيما يتصل المسلك الاخر بنظرة الاحزاب الى بعضها البعض، وهي نظرة تضمر كل واحدة منها وجود مؤامرة تهدف تقليص الموقع او الاطاحة به. هكذا صنفت الاحزاب القومية الدعوة الى الديمقراطية شرطا لتحقيق الوحدة العربية على انها مؤامرة قطرية تهدف الى منع تحقيق الوحدة. كما باتت كل مطالبة بنقاش عقلاني للصراع العربي الاسرائيلي وتعيين اسباب هزائم العرب ومحاسبة الذات على انها مؤامرة صهيونية اميركية تهدف الى نشر اليأس والاحباط في نفوس الجماهير. وتحول كل نقد للمعسكر الاشتراكي قبل سقوطه الى مؤامرة امبريالية تستهدف النضال الاشتراكي والدعاية للرأسمالية. كما بات اي نقد للاحزاب اليسارية والاشتراكية مؤامرة يقودها اليمين والرجعية لمنع التغيير الثوري. اما الاحزاب والحركات الدينية والاصولية فلا تجد حرجا في وصم كل دعوة الى حرية الاعتقاد والتدين ومنع الاكراه فيهما مؤامرة ضد الدين ودعوة للعلمانية الملحدة. كما ترى هذه الحركات في سائر الاديان خطرا يستوجب المحاربة.

لم تنج الحركات الثقافية والادبية من  التراشق يتهمة التآمر. قدم المشهد العربي نقاشات بين مفكرين ذوي افكار متعارضة، فتحول النقاش بينهم تهجما وتجريحا واتهامات بالتآمر على بعضهم البعض. وعرفت الحركة الشعرية اتهامات التآمر عندما خرج بعضها عن المألوف التقليدي وكسر القوالب الكلاسيكية، فصنف هذا التجديد في خانة خيانة الاصول.

شكلت ايديولوجيا المؤامرة شماعة استخدمها العقل العربي في مستوياته المتعددة وسيلة لاعفاء نفسه من نقد الذات والبنى المتخلفة بوصفها العوامل الرئيسية لانحطاط العالم العربي وتدهور اوضاعه. ان القاء التهم على العدو الخارجي وعلى المؤامرة الاستعماريةالهادفة الى اعاقة تطورنا تشكل اكبر اهانة لهذا العقل العربي المتجمد والمتكلس العاجز عن اعمال سيف النقد  العقلاني ومواجهة المعضلات الداخلية وتعيين المسؤوليات الذاتية والموضوعية عن المآل الذي وصلت اليه المجتمعات العربية. هكذا تمتد المؤامرة الى مثلث التخويف والتخوين والتكفير الذي يعمل بشكل مترابط في اصدار الفتاوى والاحكام التي تبدأ بالنبذ لتصل الى تحليل القتل .

يستحيل على العالم العربي الخروج من تخلفه اذا لم يضع نظرية المؤامرة جانبا ويكافح لمنع اندراجها عائقا امام العقل النقدي في قراءة واقع المجتمعات العربية . ان الاعتراف بحق الاختلاف  واحترام الرأي الاخر واحلال العقلانية في النقد والتحليل والمحاسبة، قد تكون وسائل مساعدة للعقل العربي في تصويب اتجاهاته الرؤيوية.

 في غلبة المجتمع الاهلي على المدني في العالم العربي


يدور سجال في العالم العربي منذ سنوات حول سبل تحقق الديمقراطية وشروط الدخول في الحداثة. يجري استحضار العقبات التي تنتصب في وجه هذا المسار، لاسيما منها العقبات البنيوية الداخلية. يشكل ضعف المجتمع المدني او غيابه احيانا حلقة اساسية في هذا المجال، كما يمثل سيادة وطغيان المجتمع الاهلي عنصرا مقررا في هذا السجال، وهو امر يفتح على شروط تحقق المجتمع المدني والمعوقات التي تقف في وجه غلبته.

يفترض المجتمع المدني، اولا، الدولة كاطارسياسي تجد الامة تعبيرها من خلاله. يطرح اهتزاز الدولة في الوطن العربي وتصدعها الراهن اسئلة حول اسس نشوئها وطبيعة تكونها. من المعلوم ان الهزائم التي منيت بها بعض الانظمة وعجز غالبيتها عن تحقيق البرامج الاصلاحية الموعودة زعزعت مقومات الدولة العربية ، انظمة وكيانات، ووضعتها امام تحديات عسيرة كان اصعبها مدى قدرة الدولة على ان تبقى كيانا سياسيا مؤطرا لقوى المجتمع ولمؤسساته السياسية والمدنية والاهلية. ويجد هذا الامر تفسيره من خلال العجز عن بناء دولة بمعناها الحديث لحساب قيام سلطة مستندة الى الاجهزة الامنية او الى البنى التقليدية السائدة، مما يعني اعاقة لمسيرة تكون مجتمع مدني فاعل.

يشكل تجاوز المجتمع الاهلي المستند الى مكونات ما قبل الدولة مقياسا لدرجة تقدم المجتمع المدني وبالتالي مسيرة الديمقراطية. ينعكس التصدع في موقع الدولة العربية انتعاشا متجددا لعناصر المجتمع الاهلي. فقد ورث العالم العربي بنى اجتماعية شديدة التنوع تمثل الانتماءات العشائرية والقبلية والعرقية والطائفية اسس بنيانها السياسي والاجتماعي. تملك هذه البنى موروثات ثقافية وتقاليد تغرس جذورها عميقا في هذه البنى وتحدد اتجاهات الحياة السياسية والاجتماعية. تسببت مراوحة مشروع التحديث العربي وتراجعه في فوران هذه الموروثات وحلولها مقام الدولة في المهمات والقضايا العامة بحيث تحولت الملجأ البديل للمواطن العربي. نجم عن ذلك ارتداد المجتمع الى اشكال من السلطوية القائمة على هيمنة فئوية او فردية، والى تصاعد النبذ والتناحر بين هذه المكونات وغياب ثقافة التضامن والاعتراف بالاخر. وفي هذا الاطار انبعثت قضية الاقليات واتخذت حجما يؤشر الى اخطار كبيرة في المستقبل. من الطبيعي في هذا المناخ ان تتراجع المؤسسات المدنية لتخلي الساحة الى انتماء عضوي للفرد الى طائفته او عشيرته.

لم يكن غريبا في هذا السياق رؤية البنى الاهلية وهي تكتسح الاحزاب السياسية والنقابات المهنية والجمعيات التي تشكل الاسس التي ينهض عليها المجتمع المدني ويفعل من خلالها. تعاني هذه المؤسسات في الاصل معضلة حرية عملها والقيود المفروضة عليها، وهو امر مرتبط بحدود المساحة الديمقراطية المسموح بها في العالم العربي والمدى المتاح لها في تكوين حيز خاص لعمل هذه المؤسسات. تتجلى ابرز النتائج في ازدهار الاحزاب ذات الانتماءات الطائفية او العرقية، وحجم اختراق الانقسامات المذهبية للنقابات والاتحادات المهنية وسيطرة الجمعيات الاهلية ذات الصبغة الدينية او الاثنية على مجالات العمل الاجتماعي. تقدم الاوضاع السائدة في لبنان والعراق امثلة فاقعة على هذه الوجهة، مع الاشارة الى ان هذين البلدين ليسا فريدين في بابهما، لان الكثير من البلدان العربية تحوي نماذج مماثلة قابلة للانفجار عند اي تصدع في كياناتها او ازالة القبضة الديكتاتورية عنها.

تشكل المنظمات غير الحكومية ومعها المنظمات البيئية روافد مجتمع مدني قيد التكون. تواجه هذه المنظمات مشكلتين اساسيتين، الاولى في سعي السلطات القائمة الحد من استقلاليتها والعمل على التدخل في عملها او الحاقها بمؤسسات السلطة كليا او جزئيا، والثاني زحف البنى التقليدية للهيمنة عليها وتصنيفها فئويا. في كلا الحالتين يتسبب هذا التدخل في تقليص الحيز الخاص لهذه المنظمات وبالتالي تهميش دورها كمؤسسات مدنية.

يمثل الاعلام واحدا من عناصر القوة المفترضة والدافعة الى تكون المجتمع المدني. كسرت ثورة المعلومات منطق الرقابة وتجهيل الشعوب بحقائق الممارسات السلطوية، وحصرت وسائل اعلام الدولة في مجال ضيق. تسبب اختراق الاعلام للحياة العامة والخاصة الى كسر الكثير من حواجز الهيمنة وساهم في ادخال الوعي السياسي الى اوسع الفئات الشعبية، كما ساهم الى حد واسع في تفاعل قوى المجتمع العربي والتعرف الى المشكلات القائمة فيه. على رغم هذا الهامش من الحرية المفروضة، ما زال في مكنة السلطة القائمة الحد من حرية هذا الاعلام ووضع قيود على تعبيره وفرض رقابة ما تزال ذات فاعلية على برامجه المخالفة للسياسات العامة. يطال هذا التدخل ما هو مسموح وممنوع بثه في وسائل الاعلام المرئية والمكتوبة. وعلى رغم ان الانترنت بات يشكل وسيلة تملك حرية اكبر في استقبال المواد او بثها ويتيح تواصلا اكبر بين الجمهور العربي، الا ان السلطات تبتكر من الوسائل الرادعة دوما في اطار تحديد ما يجب معرفته من المواطن العربي. لكن الاعلام نفسه يلعب احيانا كثيرة دورا معيقا لتكون المجتمع المدني من خلال البرامج المكرسة لاعادة انتاج الثقافات التقليدية التي تستحضر العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية، وكذلك البرامج المحرضة على العنف والكراهية ورفض الاعتراف بالاخر.

تحتل درجة التطور الاقتصادي اهمية كبيرة في نشوء المجتمع المدني وتقدمه. يشكل الفقر مادة معيقة لهذا النمو، لان الفقر ارض تزدهر فيها عوامل العنف والتطرف، كما يشكل موئلا لثقافات سياسية واجتماعية بعيدة عن منطق العقلانية. يشكل اقتران انبعاث موروثات ما قبل الدولة بارتفاع منسوب الفقروالامية في العالم العربي اخطارا تهدد بنيان الدولة وكيانها في كل قطر، فانهيار الدولة يشكل الخطر الاكبر على وجود وفاعلية المجتمع المدني ويضع مقدرات البلد المعني في قبضة البنى التقليدية.

تبدو العلاقة شديدة الترابط اكثر من اي وقت مضى بين ثلاثة مكونات: الدولة والديمقراطية والمجتمع المدني. يشكل العداء للدولة عنصر اعاقة لامكان تحقيق الديمقراطية ونشوء مجتمع مدني. كما يؤدي اهتزاز الدولة او انحلالها الى سيادة سلطات اهلية وميليشيات تتسبب حكما في الغاء الديمقراطية والهيمنة على مؤسسات المجتمع المدني . وعندما يسود العنف في المجتمع وتهتز بنى الدولة يصبح عسيرا كل امل في تكون مجتمع مدني يتجاوز الموروثات الاهلية ويساهم في تحقيق الديمقراطية.

عن تعثر الاصلاح في العالم العربي


منذ السبعينات من القرن الماضي يشهد العالم العربي تصدعا وانهيارا غالبا في مشروع التحديث الذي قامت عليه انظمة الاستقلال منذ الخمسينات. تمثل هذا المشروع في شعارات اقتصادية ترمي الى نقل المجتمعات العربية من التخلف  الى التقدم، وشعارات اجتماعية تهدف الى تطوير بنى المجتمعات العربية ووضعها في سياق العصر الحديث، وشعارات سياسية تهدف الى بناء دولة القانون وتحقيق المساواة السياسية وتأمين الديمقراطية وسيلة للحكم والمشاركة السياسية لاوسع قطاعات شعبية، واخيرا شعارات وطنية وقومية تهدف الى استكمال التحرير الوطني من الاستعمار باشكاله القديمة والحديثة، اضافة الى انجاز مهمة استعادة الارض الفلسطسنية من العدو الصهيوني.

خضع هذا المشروع الى الاختبار العملي داخليا وعلى الصعيد القومي، فحصد من الفشل والعجز عن تحقيق المهمات اكثر مما امكن له النجاح. تكرس شبه العجز خصوصا في ميدان استعادة الحقوق القومية العربية فجنت المنطقة العربية هزائم وخسارة لمزيد من الاراضي العربية. ترافقت هذه المراوحة العربية مع تطورات دولية ذات طابع سياسي واقتصادي كان ابرزها اجتياح العولمة الاقتصادية لجميع مناطق العالم والحاقها لمجمل اقتصادات العالم بمنطق سياسة السوق المفتوحة والقائمة على هيمنة الشركات العابرة للقارات وفرضها نماذج اقتصادية محددة في العالم. هكذا وجد العالم العربي في مكوناته الاساسية امام معضلة فشل مشاريع التحديث وتحديات اقتصادية عالمية، وهو ما جعل مسألة الاصلاح مطروحة عليه بحكم الاضطرار وليس الخيار، وهو ما يفسر الوجهة التي اتجهها هذا الاصلاح والحدود التي نجمت عنه.

يشهد العالم العربي منذ سنوات لغة سياسية جديدة تنطلق هذه المرة على لسان الحكومات القائمة وتتمحور حول ضرورة الاصلاح. تحول هذا التعبير الى ما يشبه "الايديولوجيا" يردده الحكام في خطبهم السياسية، وترفعه القوى والاحزاب المعارضة منها والموالية، بحيث اوقعت المواطن العادي في حيرة من امره. لكن الكلام الكبير على الاصلاح تكشف في النهاية عن جملة خطوات طالت الميدان الاقتصادي وتمحورت حول قضاياه وتركت جانبا قضايا اساسية تحتاج الى تغيير جذري في نهج التعاطي معها.

استندت غالبية برامج الاصلاح الاقتصادي على اقتراحات مقدمة من المؤسسات الدولية: البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، منظمة التجارة العالمية. تقوم شروط الاصلاح المطلوبة من هذه المؤسسات على اعادة هيكلة اقتصادات الدول عبر الغاء القطاع العام او تقليصه الى الحدالادنى، وتخصيص المؤسسات العامة، واطلاق حرية السوق، وتقليص النفقات الاجتماعية. يعبر هذا البرنامج عن الحد الاقصى من الليبرالية البعيد عن اي توجه اجتماعي يجيب عن الحاجات الفعلية لمجمل الشعب في اي بلد. نجم عن اعتماد عدد من الدول العربية لهذه "الاصلاحات" دخولها في دوامة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي المتزايد، فتفاقمت المديونية بحيث باتت غالبية موارد الدولة مسخرة لتسديد الدين العام او خدمة هذا الدين، كما تزايدت مشكلات الفقر والتفاوت الاجتماعي بين الطبقات الفقيرة والغنية، ووصلت البطالة الى اعلى مستوياتها، وتفاقمت مشكلات التعليم وحافظت الامية على مستوى مرتفع بين صفوف الشعب العربي... هكذا انتجت هذه البرامج "اصلاحات" فاشلة زاد من وطأتها عجز الدول العربية عن مواجهة التحديات الخارجية وعن حل المعضلات الوطنية.

تكمن مشكلة فشل برامج الاصلاح العربية التي انطلقت من اعتماد مقولة "الانفتاح" في كونها احادية الجانب. يصعب تركيز التوجهات الاصلاحية في جانب محدد واغفال الجوانب الاخرى المرتبطة به حكما. حقق عدد من الدول العربية اصلاحات اقتصادية يمكن وصفها بالمحدودة الفعالية، لكن هذه الاصلاحات الاقتصادية لم تترافق مع "انفتاح سياسي" يمكن له ان يسيج القرارات الاقتصادية. ترافق الانفتاح الاقتصادي مع تشديد القبضة الاستبدادية في كل مكان، وازداد الحجر على الحريات السياسية وعلى الحق في التعبير والعمل السياسي وعلى وسائل الاعلام، كما انتهكت حقوق الانسان واقتيدت المعارضة الى السجون او النفي وصولا الى التصفيات الجسدية. هكذا بديلا من ان تكون برامج الاصلاح مناسبة لوضع البلدان العربية على سكة الديمقراطية والتعددية وتطلق القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير، تحول الاصلاح الى كابوس يرخي بوطأته على البلدان السائرة نحوه.

هل يعني ذلك تراجعا عن مطلب الاصلاح من قبل القوى السياسية وبالتالي ترك الامور الى السلطات الحاكمة؟ بالتأكيد لن يكون هذا شعار تحمله اي قوى سياسية. لكن مطلب الاصلاح لا بد ان يكون شاملا بحيث يكون مفتاحه الافراج عن الحياة الديقراطية وتكريس قيمها في التعددية والمساواة امام القانون والرقابة السياسية على انفاق الموارد وعلى المساءلة المستديمة للحاكم. تثبت سياسات التنمية في كل مكان في العالم ان شرط نجاحها هو في اقصى المشاركة الشعبية في تنفيذ المشاريع وهي مشاركة يصعب ان تتحقق في ظل الحظر على الحياة السياسية.

بعد عقود من سياسات الاصلاح والتعثر الذي واجهته في كل مكان في العالم العربي، تبدو الدعوة الى اصلاحات شاملة اكثر من ضرورية. تاتي الحاجة الى الدعوة هذه من خلال رؤية الاثار الخطيرة التي تعيشها المجتمعات العربية تحت وطأة انهيار مشروع التحديث الذي قامت الانظمة على اساسه. تتجلى خطورة هذا الانهيار من خلال تصدع بنى الدولة القومية وانفجار المجتمعات العربية الى مقوماتها الاصلية ذات البنى القبلية والعشائرية والطائفية مما يعني ارتداد الانسان العربي الى هذه الاصول والانتماء اليها دفاعا عن نفسه ووسيلة لتأمين نمط معيشته. ان الارتداد الى ما دون الدولة يشكل ابرز معالم الفشل العربي في تحقيق الاصلاح وعودة الى نقطة الصفر في بناء الدولة والمجتمع. اما النتيجة السلبية الاخرى ذات الخطورة فهي الناجمة عن صعود الحركات الاسلاموية المتطرفة التي تقدم نفسها بديلا عن البرنامج القومي التحديثي . تئن مجمل البلدان العربية اليوم من وطأة هذا الانفلات الاصولي، لكن قراءة هذا التطرف يجب ان تأتي فعلا بصفتها نتيجة لفشل المشروع التحديثي. لا يعني ان البرنامج الاصولي يشكل الجواب، بل على العكس ان هذا البرنامج هو في الحقيقة واحد من ابرز تعبيرات ازمة الاصلاح والتغيير، وهو يبرهن في كل مكان يتاح له عن تدمير ممنهج للدولة والمجتمع وعن العجز المطلق عن الاستجابة لمطالب الناس.

من اجل ان يدخل العالم العربي في العصر ويواكب التطور الذي تفرضه الحاجة في كل مكان، ومن اجل اعادة بناء الدولة العربية على حساب العصبيات والطوائفيات، وفي مواجهة التطرف الاصولي وتدميره لمقومات المجتمعات العربية، يبدو الاصلاح الشامل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي حاجة ملحة لكون هذا الاصلاح هو الوجه الاخر لمشروع نهضوي شامل يحتاجه العالم العربي بشدة.









القسم الخامس

أميركا والعرب والتسوية الممتنعة



أميركا وإعادة هيكلة المنطقة العربية


يتسم العالم العربي في مرحلته الراهنة باهتزاز استقراره واضطراب مقومات مجتمعاته وانفتاح دواخله على احتمالات قلاقل داخلية. يقع هذا الوضع في سياق هجمة "غربية جديدة" تقودها الولايات المتحدة، تتخذ أشكالاً تقليدية عبر الاحتلال العسكري المباشر، أو غير المباشر من طريق إخضاع الأنظمة السياسية العربية لشروط خطته.

أدى انهيار المعسكر الاشتراكي في تسعينات القرن الماضي إلى انقلاب في موازين القوى الدولية. اعتبرت الولايات المتحدة أن هذا الانهيار انتصار أميركي في السياسة والأيديولوجيا. كان إعلان ولادة "النظام الدولي الجديد" على لسان جورج بوش الأب الثمرة الأولى لهذا التحول. حدد هذا النظام توجهاته الإستراتيجية بحق التدخل الأميركي المباشر عسكرياً في أي مكان من العالم تجد الولايات المتحدة أن السياسة المتبعة فيه يمكن لها أن تهدد أمنها. طاولت هذه الإستراتيجية الادعاء الأميركي بالدفاع عن حقوق الإنسان وضبط الفوضى التي قد تهدد السلام العالمي. رأت أن كل ما يعوق حرية الأسواق وحركة انتقال رؤوس الأموال أو التجارة الحرة، هو من الأمور التي تهدد الاقتصاد العالمي. نصّبت نفسها حامية للديموقراطية في العالم وشرّعت التدخل العسكري وقلب الأنظمة لإحلال هذه الديموقراطية وعينت أخيراً موارد النفط العنصر الأخطر الذي تواجهه، ما يحتم نقل القوات الأميركية إلى منابع النفط والاستيلاء المباشر عليها.

شكلت اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 محرضاً لهذه الإستراتيجية وباعثاً لهجوميتها، وشكل موضوع مكافحة الإرهاب مظلة سياسية تتيح تنفيذ التوجهات الأميركية. هكذا يشهد العالم منذ عقد ونصف العقد هجمة أميركية شاملة تستند إلى ايديولوجيا محافظة تدعى أن إنقاذ العالم مهمة أميركية رسوليه.

على امتداد السنوات الماضية وجدت هذه الإستراتيجية ترجمتها في أكثر من مكان في العالم العربي. كان العراق مختبرها الأول. شكل الاجتياح العراقي للكويت عام 1990، الذي لم يكن بعيداً من خط التوريط الأميركي، أولى الخطوات العملية في سياسة الانفراد في قيادة "النظام الدولي الجديد". عادت هذه السياسة إلى التطبيق عام 2003 بإسقاط النظام العراقي بذريعة امتلاكه أسلحة الدمار الشامل! هكذا باسم التصدي للإرهاب وحماية الأمن القومي الأميركي جرى غزو العراق. أما في فلسطين فتقوم الإستراتيجية الأميركية على الدعم الكامل لإسرائيل ومنع الفلسطينيين من بناء الحد الأدنى من مقومات دولتهم، و "اقتراح" الحرب الأهلية عليهم بحجة منع الإرهاب.

أما السياسة الأميركية تجاه سورية ولبنان، فإن ما هو جارٍ تحت عنوان التدويل يهدف إلى أدراج  الموقعين، في إطار الخطة الأميركية العامة للمنطقة مع ما تحمله من خيارات لا تتناسب بالضرورة مع مصالح شعبيهما.

منذ سنوات، تجني المنطقة العربية ثمار هذه الإستراتيجية الأميركية ونتائجها، احتلالاً، وتخطيطاً لوضع اليد على الموارد الطبيعية. في كتابه في عنوان "يا هذا، أين وطني" يفند المخرج السينمائي الأميركي مايكل مور الأكاذيب التي سعى بوش من ورائها إلى إعلان الحرب على العراق، فيشير إلى نقطة وحيدة لم يكذب بوش في قولها وهي القائلة بأن القوات الأميركية موجودة في العراق ودول الخليج لحماية حقول النفط وموارده بصفته مادة إستراتيجية تمس اقتصاد الولايات المتحدة وأمنها القومي. يؤمن نهب الثروات النفطية العربية عنصر قوة للولايات المتحدة في صراعها مع القوى الاقتصادية العالمية لاسيما في أوروبا واليابان، وهو صراع تسعى الولايات المتحدة من خلاله إلى المحافظة على تفوقها الاقتصادي وعلى فرض شروطها على مجمل الوضع العالمي.

ولا يقتصر النهب على النفط، فالخطة الأميركية، كما بدا منذ غزو الكويت حتى احتلال العراق، تعمد إلى تدمير المؤسسات والبنى التحتية، وتفرض إعادة بنائها من قبل الشركات الأميركية. وتؤكد التقارير التي سبق وأصدرتها مؤسسات أبحاث إستراتيجية أميركية منذ التسعينات وخلال عهد بيل كلينتون، إن سياسة بوش الراهنة لم تكن جواباً عما تعرضت له الولايات المتحدة من إرهاب، بل تستند إلى تخطيط بعيد المدى تجاه المنطقة العربية.

أما ثاني نتائج الخطة الأميركية وأخطرها فهو العمل على هز استقرار الدول العربية، مما يعرضها لانبعاث مقومات تركيبتها الأصلية، ويجعلها عرضة لشتى الأخطار. يتطلب نهب موارد المنطقة في سياق العولمة الأميركية الحالية النيل من سيادة الدولة ومقومات السلطة فيها. سبق للتقارير الأميركية الإستراتيجية أن ركزت على قضية الكيانات والمجتمعات العربية. لم يكن خافياً عليها إن هذه المجتمعات مكونة من عرقيات واثنيات وطوائف وقبائل وعشائر، وإن الدول التي تأسست خلال القرن العشرين اعتمدت على التأليف بين هذه المكونات.

خلافاً لسياسة أميركية جرى اعتمادها فترة الحرب الباردة، إذ كانت هذه السياسة تقوم على دعم وجود دولة عربية قوية عسكرية واستبدادية موظفة في الحرب ضد المعسكر السوفياتي، فإن الخطة الأميركية الراهنة تجنح نحو إضعاف هذه الكيانات وإدخالها في نزاعات داخلية أهلية. ترى هذه الخطة أن ما يسمى "الفوضى البناءة" أفضل السبل لإدامة سيطرتها وتحقيق أهدافها في المنطقة. إن تحول النزاع إلى صراع بين الطوائف يتضمن احتمال لجوء كل طائفة إلى الاستعانة بالقوى الخارجية من أجل تأمين الغلبة لموقعها. وما يشهده العراق حالياً، وما شهده لبنان، أحد النماذج التي قد تعتمد في المنطقة العربية في السنوات المقبلة. وما أعلنه رئيس وزراء العراق من الحاجة العراقية للقوات الأميركية من أجل حماية العراق من جيرانه، هو النموذج الذي تريد السياسة الأميركية تكريسه في المنطقة، أي أن تحمي القوات الأميركية الأنظمة من حروبها "البينية".

إن نهب ثروات المنطقة وإدخالها في حروب أهلية عناصر حاسمة في إعاقة تطورها وإبقائها عالقة في مستنقع التخلف. لا تفيد الشعوب العربية سوى من القليل من ثرواتها التي تذهب في معظمها إلى الاحتلال وإلى القوى السياسية الممسكة بالسلطة، والخاضعة لإرادته. كما أن الحروب الأهلية تدمر المؤسسات الصناعية والتعليمية والبنية التحتية وجل مقومات البنية الاقتصادية. إن ما شهدته الكويت، وما يشهده العراق حالياً، وما سبق وعرفه لبنان، يظهر الثمن الهائل المطلوب لإعادة البناء، وحجم الأموال المطلوبة لإعمار ما دمرته الحرب الأميركية والحروب الأهلية. إن إدامة التخلف العربي عنصر مهم من عناصر استمرار السيطرة الامبريالية على المنطقة العربية، بل عامل مساعد في استدعاء المستعمر ودعوته إلى البقاء.

تثير الخطة الأميركية الجاري تنفيذها أسئلة حول نجاحاتها وإخفاقاتها والمستقبل الذي يواجهها التصدي لها. ومما لا شك فيه أن الخطة سجلت ولا تزال نجاحات فعلية، نجحت في تفكيك العراق وأدخلته في متاهات حروب أهلية تدمر كل يوم مقومات مجتمعه واقتصاده في حرب استنزاق لا أفق مرئياً لنهايتها. ويعني تفكيك العراق اختفاء إحدى أقوى الدول في المنطقة العربية. وإذا كانت الخطة الأميركية تتلقى ضربات فعلية في العراق، فإن المقارنة بين ما تكسبه وما تخسره لا يزال يزن لمصلحة الربح غير المحدود سواء في العراق أو في العلاقة مع سائر الدول العربية. كما أن السياسة الأميركية في فلسطين، ومعها خطة التدويل في لبنان وسورية، تسجل المزيد من التقدم لمصلحة إسرائيل أو لمصلحة القبض على الموقعين اللبناني والسوري مستقبلاً.

لم يكن النجاح الأميركي وليد القوة السياسية والعسكرية فقط. وهذا النجاح ما كان له أن يمر لولا أن الممرات العربية الداخلية أمنت له سبل العبور. إن فشل المشروع النهضوي العربي خلال العقود السابقة في تحقيق أهدافه في الاستقلال عن الاستعمار القديم والحديث، وتحقيق التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي والديموقراطية والتحرر القومي ومواجهة العدو الصهيوني، عنصر أساس في النجاح الأميركي. إذ عجزت أنظمة الاستبداد العربي عن بناء دولة تؤمن تجانساً اجتماعياً بين مكونات المجتمعات العربية، بل اعتمدت سياسة قمع وإرهاب وتفرقة داخلية. كما قامت سياساتها القومية على التدخل في شؤون الأقطار الأخرى عبر مشاريع "وحدوية" قسرية أو غزو مباشر. وأدت هذه السياسات المقرونة بالفشل في تحقيق حاجت الشعوب العربية إلى إفراغ الدولة العربية من مقومات قوتها وانفكاك شعوبها عنها واستفحال عناصر التجزئة داخلها. إن المأساة العربية تجلّت ولا تزال في هذا الاستدعاء الخارجي وسيلة للخلاص من أنظمة الاستبداد هذه. انه عجز المجتمعات العربية المريع عن تحقيق حريتها بقواها الداخلية.

لا تزال الخطة الأميركية في حال اندفاع،  والحد من هذه الهجمة مشروط بعاملين أساسين: الأول – عربي – داخلي يقوم على إعادة استنهاض قوى الاعتراض العربي بصفتها المؤهلة لمناهضة الاستعمار الجديد بكل أشكاله ومعه أنظمة الاستبداد العربي الدائرة في فلكه. أما العنصر الثاني فهو المتعلق بالمجتمع الأميركي وما سيصيبه من تحولات ضد الخطة الأميركية، وذلك تحت وطأة الخسائر البشرية المتزايدة التي يتكبدها في المناطق التي تحتلها أميركا. لا يزال هذان الشرطان بعيدين عن التحقق، مما يعني إطالة رحلة الآلام العربية.




انسداد آفاق التسوية مصدر دائم للاضطراب في المنطقة العربية

                                                  

أعادت الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان تسليط الضوء على المفاعيل التي ما يزال يولدها الصراع العربي - الاسرائيلي والمخاطر التي يفرزها. مثلت هذه الحرب محطة من محطات الحروب التي خاضتها الدولة العبرية منذ تأسيسها. سقطت على واقع عربي يتسم بالعجز وانعدام القدرة على التأثير في مجرياتها. طرحت سؤالاً تكرر منذ العام 1982: هل يمكن القول ان هذه الحرب هي آخر الحروب الاسرائيلية - العربية أم هي إحدى جولات هذه الحروب؟ وما الذي يوحي باستحالة الجزم بعدم تجدد القتال؟

مما لا شك فيه ان الصراع العربي - الاسرائيلي ما يزال مفتوحاً بأشكال مختلفة، منها الساخنة في الأراضي الفلسطينية ولبنان، ومنها الباردة في سائر الأقطار العربية المحيطة بفلسطين المحتلة. منذ العام 1967 وصدور القرار 242، مارست اسرائيل ومعها الولايات المتحدة سياسة اغفال كل أشكال التسوية الممكنة والعادلة ولو نسبياً. أصرت على سياسة قائمة على فرض السيطرة الكاملة وإخضاع شعوب المنطقة وفقاً لأهداف المشروع الصهيوني في الهيمنة. وضعت اسرائيل تعريفاً للسلام يقوم على الاستسلام لشروطها ومطالبها. لم تشذ الاتفاقات التي وقعتها مع مصر والأردن عن هذا السياق.

أدى انسداد شرايين تسوية الصراع العربي - الاسرائيلي الى تفاعلات داخل المجتمعات العربية، كان صعود ألوان متعددة من المقاومة المسلحة أحد نتائجها. برزت تنظيمات مسلحة ذات أبعاد ايديولوجية دينية اتصفت أعمالها أحياناً باللاعقلانية بمقياس حساب الكلفة التي يدفعها الشعب من حياته واقتصاده ومجتمعه. تشكل الأراضي الفلسطينية اليوم ميداناً رئيسياً لهذه الوجهة. على رغم قبول القيادة الفلسطينية منطق التسوية وتوقيع اتفاقات اوسلو 1993 وما تلاها، إلا أن الخطة الاسرائيلية - الأميركية امعنت في منع قيام تسوية تضمن الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وإقامة دولته المستقلة. سلطت السياسة الاسرائيلية حمى القتل اليومي والتدمير المنهجي لمقومات وارادة الشعب الفلسطيني. شكلت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000 أحد الأجوبة عن امتناع اسرائيل عن تحقيق هذه التسوية.
أدت هذه السياسة الاسرائيلية الى قيام التنظيمات الاسلامية المقاومة في فلسطين ولبنان كما تغذى صعود هذه التنظيمات من فشل البرنامج القومي لأنظمة الاستقلال العربية منذ الخمسينات وعجزه عن تحقيق مهمات التحرر القومي وعلى الأخص استعادة الأراضي الفلسطينية المحتلة. ملأت هذه التنظيمات الفراغ الناشئ بأيديولوجيا ما فوق قومية، وقدمت برنامجاً أساسه تحرير كامل التراب الفلسطيني ورفض مشاريع التسوية، مقترنة بتقديم أشكال من العنف المسلح المتضمن عمليات انتحارية بصفتها الوسيلة الأنسب لضرب اسرائيل. كما أفادت هذه التنظيمات من العجز العربي الرسمي الذي سعت ايران هذه المرة لملئه مقدمة نفسها كراعية ومحتضنة وداعمة لهذه التنظيمات، فربطت بين توجهات الجمهورية الاسلامية الايرانية وبين شعارات وأهداف التنظيمات الاسلامية المقاومة.
ما تزال سجالات تدور حول لاعقلانية العمل المسلح المقاوم في فلسطين ولبنان خلال السنوات الأخيرة. يبدو التساؤل مشروعاً بمقياس حسابات المصالح وموازين القوى عندما يتسبب أسر جندي في اسرائيل وجنديين في لبنان بهذا الحجم من الردود الاسرائيلية التدميرية وتكليف الشعبين الفلسطيني واللبناني خسائر رهيبة في البشر والحجر. لكن التساؤل عن لاعقلانية أشكال مقاومة هذه التنظيمات يجب أن يسلط الضوء على لاعقلانية السياستين الاسرائيلية والأميركية تجاه الشعب الفلسطيني في الأساس وسائر الشعوب العربية على العموم. ان لاعقلانية المقاومة ضد اسرائيل هي الابنة الشرعية للسياسة اللاعقلانية لاسرائيل والولايات المتحدة في اصرارهما على إخضاع المنطقة والهيمنة على مقدراتها وسحق شعوبها وتأييد تخلفها. اضافة الى ذلك، تسبب عدم الوصول الى تسوية ونمط الممارسات الإسرائيلية والأميركية تجاه العالم العربي في نتائج سلبية تجلى في حجز تطور المجتمعات العربية وانسداد أفق نمو وتطور القوى الديموقراطية والعقلانية، وانفلات الفكر الاصولي بتطرفه ولاعقلانيته من كل قيود. أتت المطالبات الشعبية العربية بدعوة المقاومة اللبنانية لإكمال حربها، ولو وحيدة، نحو تحرير فلسطين نموذجاً لهذه اللاعقلانية العربية ايضاً، عبر تقديمها لحلمها ورغباتها من دون الأخذ في الاعتبار ما يستطيع أن يتحمله لبنان وحده في حرب مفتوحة.
طرحت الحرب الإسرائيلية في تموز2006 على لبنان والمنطقة سؤالين: الأول يتصل بختام الحروب الإسرائيلية - العربية، وهو أمر يستحيل تصور تحققه بالنظر لاستحالة التسوية والسلام حتى الآن ولانعدام وجود حلول سهلة في هذا المجال مما قد يرشح المنطقة لجولات إسرائيلية أخرى من الحروب.
أما السؤال الثاني فيتصل بما أفرزته حرب إسرائيل على لبنان وما قدمته من معطيات جديدة في ميدان الصراع. خاضت إسرائيل في لبنان حرباً من نوع مختلف عن حروبها السابقة مع الدول العربية. تكبدت في هذه الحرب خسائر بشرية ومادية ونفسية لم تألفها سابقاً، وهو أمر ستأخذه في الاعتبار في حروبها المقبلة. ان صمود المقاومة في لبنان وتسجيلها مكاسب فعلية في مواجهة اسرائيل وإلحاقها هذا الأذى بالكيان الاسرائيلي سيلقي بثقله على وجهة الصراع المقبل ويحدد بعض مساراته.

في المقابل، يحدو الأمل أن يكون لصمود المقاومة في لبنان أثر على المجتمعات العربية وشعوبها، في إمكان توليد قوى معارضة تسعى الى التأثير على أنظمة العالم العربي نحو تجاوز سياسة العجز والاستسلام السائدة في مواجهة السياستين الاسرائيلية والأميركية.
ان الأواصر الوثيقة التي تشد المشروعين الصهيوني والأميركي تجاه المنطقة العربية وسعيهما المستمر للهيمنة، ستظل تؤسس لحروب مستمرة. وحده الاقتناع بالوصول الى تسوية عادلة تضمن الحد الأدنى من الحقوق العربية يمكن أن يوقف نزيف الدم والآلام في المنطقة.

لا تزال الأسئلة المتعلقة بالتنوير والتقدم وتجديد الخطاب الديني وحقوق الإنسان تستثير تحفظات قوى سياسية وفكرية متعددة المشارب في العالم العربي. يركز بعض الاعتراضات على مصدر هذه المقولات، أي الغرب. فيما ترى اعتراضات أخرى عدم ملاءمة هذه الأفكار لواقع مجتمعاتنا وتقاليدها وثقافتها، وبالتالي هويتها.
تعود معضلة العلاقة بين العالم العربي والغرب إلى أكثر من قرن. منذ نهاية القرن التاسع عشر، طرح رواد النهضة هذه العلاقة وعالجوا جوانبها الإيجابية والسلبية. يفرض تخلف العالم العربي مجدداً نقاش هذه العلاقة بصفتها واحدة من الضرورات التي تدخل العرب إلى العلم والتقدم والنهضة.
يتسم نقاش هذه العلاقة بوجهتين غالبتين تحمل كل منهما أخطاء في تعيين البوصلة والهدف. تنحو وجهة أولى إلى تحميل الغرب مسؤولية التخلف في العالم العربي من خلال غزوه الاستعماري ونهبه ثروات المنطقة، ومساندته أنظمة استبدادية، وتركيبه أنظمة وسلطات قبلية وعشائرية وطوائفية. أدى هذا المسلك إلى تشويه للثقافة العربية وحضارتها وساهم في طمس الهوية. يشدد أصحاب هذه الوجهة على أن الغرب مستمر في ممارسته السابقة وبشكل أكثر فظاظة ووحشية مما سبق، ويتخذ حجة محاربة الإرهاب لإعادة الاحتلال العسكري إلى المنطقة. تحمل هذه النظرة قوى ذات تأثير وفاعلية، تتمتع بشعبية واسعة. تعبر الحركات الأصولية المتطرفة وبعض القوى السياسية التقليدية عن هذه الوجهة.
في مقابل هذه الرؤية، ترى قوى أخرى أن العالم العربي سيظل محكوماً بالتأخر إذا ما ظل أسير انكفائه وعزلته. يرتبط خلاصه وتقدمه بالاندماج بالغرب، علماً وفكراً وثقافة وقيماً. يستحيل تحقيق المشروع النهضوي العربي من دون مكتسبات الثورة العلمية والتكنولوجية واستقدامها. ولا يتورع أصحاب هذه النظرة عن تسويغ التدخل الغربي بما فيه إسقاط الأنظمة تحت عنوان إدخال الديموقراطية وتحقيق التقدم وسيادة حقوق الإنسان. لذا تؤيد المعركة المفتوحة ضد الإرهاب والحركات الأصولية التي تمثل ارتداداً على عمليات التحديث التي كان العرب قد حققوا بعضاً من منجزاتها خلال القرن الماضي.
لا تنطلق وجهتا النظر المشار إليهما من فراغ.  تحمل النظرة المتحفظة عن الغرب مبررات ذات أساس تاريخي وراهني أيضاً، كما يكتسب القول بحاجتنا إلى الغرب، بصفته عنصراً مهماً في تقدمنا، شيئاً من الحقيقة. إن إقامة علاقة مركبة مع الغرب تميز بين ما هو مفيد لنا فنسعى إلى استقدامه، وما هو غير مفيد فنتصدى لمواجهته، قد تسمح بالوصول إلى علاقة موضوعية، بعيدة من العقد والأوهام، تصب في النهاية في مصلحة العرب ومشروعهم النهضوي.
بداية، لا بد من الاعتراف بأن القضايا التي تواجهنا في شأن الديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان ومواجهة الاستبداد وتحقيق الإصلاح الديني ومكافحة الأمية والفقر والبطالة وإدخال العلم والتكنولوجيا، وسيادة العقلانية في التفكير، ومحاربة الفكر الإرهابي والتكفيري، هي قضايا راهنية وملحة وتطرح على العرب تحديات في الوصول إليها وتحققها. لا ينال من ذاتنا الاعتراف بتخلفنا وعجزنا عن مواجهة هذه المعضلات، والقول تالياً إن انكفاءنا على ذاتنا واستحضار ما لدينا من علوم وفكر وتراث ودين يكفيان لإخراجنا من عنق الزجاجة الذي نقبع داخله. ويشكل الإقرار بتأخرنا ودراسة أسبابه التاريخية، والإقرار أيضاً بضرورة التفاعل مع الحضارات والثقافات الأخرى واحداً من عناصر الخلاص الضرورية. عاشت أوروبا منذ خمسة قرون حالة مشابهة لما يعيشه العرب اليوم، إن لم تكن حالة أكثر تخلفاً ووحشية. ولم تجد أوروبا آنذاك ضيراً في أن تنهل من مكتسبات الحضارة العربية – الإسلامية التي كانت تعيش أوج ازدهارها، فانكب الأوروبيون على المؤلفات الفلسفية والعلمية وترجموها إلى لغاتهم، مما ترك أثراً لا يزال واضحاً في النهضة الأوروبية وفي تطور الحداثة في القرون اللاحقة.
يحتاج العالم العربي اليوم مكتسبات الحداثة الغربية، أميركية اكانت أم أوروبية أم يابانية... يحتاج إلى التكنولوجيا وثورة الاتصالات والتطور الصناعي، كما يحتاج أيضاً إلى ثقافة الغرب وفكره وحريته وديموقراطيته، إلى الإنسان المواطن الفرد، إلى العقلانية وحرية الرأي في مواجهة الخرافات. يفيد العرب في هذا المجال التمثل باليابان التي خضعت لاحتلال أميركي بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنعها من استعادة قواها عبر توظيف علوم الغرب إلى أقصى حد، بما جعلها اليوم إحدى القوى الرئيسية المنافسة للولايات المتحدة وأوروبا. لا يستطيع العالم العربي ممارسة هذا الانفتاح إذا ظل محكوماً بـ "عصاب الهوية" والخوف على ثقافته من التهميش والزوال، كما يحتاج العالم العربي إلى ممارسة حد واسع من النقد والنقد الذاتي لمشروعه النهضوي المنتكس، وقراءة علمية للتراث الموروث لتعيين ما بقي منه حياً وصالحاً فيوظف في النهضة، والتخلي عما تجاوزه الزمن وبات يشكل عائقاً أمام التقدم.
تكتسب مواجهة الغرب بما هو هجمة استعمارية بالتحديد الأهمية نفسها التي تتطلبها ضرورة اللقاء والتواصل معه. عانى العالم العربي على امتداد القرن العشرين وطأة الحملات الاستعمارية والسيطرة على بلدانه، وتركت السيطرة الإمبرالية على المنطقة العربية آثاراً سلبية وعميقة. استولت على معظم الثروات وبخاصة النفط، وركبت انظمة وكيانات سياسية تقوم وظيفتها في حماية المصالح الاستعمارية. مثل تحقيق المشروع الصهيوني وإقامة دولة إسرائيل أخطر مراحل هذه السيطرة. تسببت إسرائيل في حروب خارجية وداخلية في العالم العربي، وكانت ولا تزال من أسباب إدامة التخلف ومنع تحقيق التقدم في المجتمعات العربية. وستظل سياستها العدوانية وعدم اعترافها بالحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، إضافة إلى ممارسة إرهاب الدولة، مصدراً لانعدام الاستقرار في المنطقة وعنصراً أساسياً في انبعاث الإرهاب وازدهار العنف والتطرف.
منذ عقدين من الزمن، عادت المنطقة العربية لتشكل هدفاً استعمارياً يحمل من المخاطر أكثر بكثير مما حمله المشروع الاستعماري في القرن السابق. يشكل احتلال العراق وعودة الاستعمار الأميركي المباشر إلى المنطقة منذ حرب الخليج 1991، أكثر المظاهر الاستعمارية فظاظة، خلافاً لادعاءات الحرية وإدخال الديموقراطية وحقوق الإنسان، تواجه المنطقة العربية هجوماً متجدداً يستهدف ثرواتها الطبيعية والسيطرة على كياناتها، متوسلاً وسائل متعددة تبدأ بالاحتلال المباشر للأرض، وتمتد إلى تفتيت المنطقة وتقسيمها وإدارة حروب أهلية طائفية وإثنية وعشائرية بين مكوناتها ومجتمعاتها، ما يعني أن موجبات المقاومة العربية ضخمة جداً. بمقدار ما تحتاج هذه المقاومة إلى وجود قوى عسكرية، إلا أن الأساسي في المواجهة الراهنة والمقبلة قد يكون في استنهاض مشروع عربي حضاري يطاول جميع الميادين العلمية والسياسية والفكرية والاقتصادية، وذلك كشرط لمواجهة هذه الهجمة.
في ظل هذه الوضع المعقد والمركب، يظل السؤال مطروحاً وبحدة عن إمكان العرب في خوض معركة مزدوجة قوامها الإفادة من الغرب ومكتسباته إلى أقصى حد، ومواجهة حملته الاستعمارية في الوقت نفسه تحت عنوان معركة الاستقلال والسيادة. يحتاج العرب إلى التخلي عن ميل دائم لديهم بكونها ضحايا لمؤامرات محاكة دائماً ضدهم، وأن يتجاوزوا بشكل نهائي قول جمال الدين الأفغاني: "الغرب غرب والشرق شرق، ولا يلتقيان". وهو قول لا يزال يمسك بتلابيب الحاضر العربي على رغم مرور أكثر من قرن على إعلانه.
يشهد العالم العربي تزايداً في تقلص دور الدولة السياسي والاقتصادي والاجتماعي لصالح الجماعات الخاصة، طائفية كانت أم اثنية أم قبلية أو عائلية. يترابط هذا التحول في العلاقة بين الدولة والمجتمع مع الانهيار الذي طال مشروع التحديث القومي العربي الذي مثلته أنظمة الاستقلال الوطني منذ منتصف القرن الماضي. شكل نشوء الدولة القطرية آنذاك أحد مؤشرات انتساب العالم العربي الى الحداثة والتمدين عبر السعي لإقامة علاقة مباشرة بين الفرد والدولة ومن دون وسائط، مما يساعد في تأسيس علاقة ديموقراطية وتكوين مواطنية فعلية. تقدم لنا مجريات الأحداث في لبنان والعراق ومصر صورة عن مسار انحداري في هذا المجال.
يمثل لبنان الوجه الأبرز في غلبة الطوائف ومؤسساتها على الدولة وأجهزتها. يطل المشهد اللبناني اليوم على درجة عليا من الاصطفاف الطائفي بما يفرض توسط الطائفة في العلاقة بين الفرد والدولة، واعتبارها ممر الولاء الوطني. ارتبط تنسيب اللبناني الى طائفته بتكوّن النظام السياسي منذ مطلع القرن العشرين. كرّس الدستور والمواثيق اللاحقة هذا الربط بالطائفة، مما جعل استحالة تكوّن مواطنية ينظمها القانون العام بكل مفاعيله وعلى الأخص منها مسألة المساواة في الحقوق والواجبات. فاللبناني بهذا المعنى محكوم ان يولد ويعيش ويموت طائفياً. على امتداد عقود، شكل الانتماء الطائفي شرطاً للانتماء الى مؤسسات الدولة، كما شكلت الطائفة قناة توزيع الدخل الأهلي. خاض المجتمع اللبناني، في مراحل معينة، صراعاً من أجل غلبة الدولة على حساب الطوائف، لكن الحروب الأهلية المتتالية، الساخنة منها والباردة، أدت الى مزيد من هيمنة الطوائف على الدولة. ليس مبالغة تشبيه الحالة اللبنانية راهناً بـ «المحميات» المسيّجة بجدران عالية، تقبع كل طائفة داخل سياجها وتمنع التواصل مع سائر الطوائف. سابقاً، انقسم البلد بشكل اجمالي بين مسيحي ومسلم، لكنه اليوم وصل الى حالة من التذرر بحيث تحول الى انقسام مذهبي داخل كل طائفة، ليصبح اللبناني محكوماً بتعريف نفسه عبر المذهب الذي ينتسب اليه أكثر مما هو عبر الطائفة. لذا لا يعود غريباً أن يتحول اللبناني الى طائفته أو مذهبه سبيلاً لحمايته وتأمين رعايته وتحقيق مصالحه، ناهيك عن اعتبار الولاء الطائفي مصدر تسلم مواقع ادارية أو سياسية ووسيلة الارتقاء في ميدان الادارة والسياسة.
يذكر المشهد العراقي الراهن بمثيله اللبناني خلال سنوات الحرب الأهلية. تكشف انهيار نظام صدام حسين عن انفلات مكبوتات وغرائز طوائفية لم تلبث ان انفجرت عنفاً رهيباً. استعاد الصراع الشيعي - السني رمزيات وموروثات الصراع على الخلافة قبل أربعة عشر قرناً، فانحكم الصراع السياسي بالماضي. «تلبنن» المجتمع العراقي في حياته اليومية، فبات على العراقي ان يحدد انتماءه وفقاً لطائفته ومذهبه واثنيته. يؤشر «نهر الدم» المتدفق يومياً، وما يتبعه من قتل على الهوية واضطرار المواطن العراقي الى تغيير اسمه الى مرحلة جديدة وخطرة تمس وحدة العراق وتشرع تقسيمه على اساس طائفي واثني. مقابل ذلك يسير الوضع العراقي حثيثاً في تحول الولاء من الدولة لصالح الطائفة والعشيرة التي باتت ممراً اجبارياً للحصول على مكاسب ومصالح سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية.
مما لا شك فيه ان الاحتلال الاميركي يتحمل مسؤولية اساسية في انهيار الدولة العراقية. لكن هذا الانبعاث للموروثات الطائفية يضرب جذوره عميقاً في المجتمع العراقي، ساعد النظام الاستبدادي في مفاقمتها عبر سياسة طائفية غلبت طوائف معينة وهمشت أخرى. يتحمل هذا الاستبداد مسؤولية اساسية عن ظهور هذه الصراعات حالياً، وكذلك عن اعادة المجتمع العراقي الى مكونات ما قبل الدولة، العصبية منها والعشائرية والمذهبية. يطرح الواقع الراهن سؤالاً عن مدى تحقق وحدة كيانية عراقية سابقاً، وما إذا كانت هذه الوحدة أتت نتيجة توافق سياسي واندماج اجتماعي، ام انها وحدة قامت على القسر والضبط الاجباري. ان غياب أو تغييب الدولة الموحدة في العراق سيعمق الانقسام الاجمالي بين الشيعة والسنة، كما سيكون مفتوحاً على انقسامات وصراعات مذهبية بين ابناء الطائفة نفسها. لا يؤشر المشهد العراقي الى تجاوز قريب لهذه الانقسامات أو لعودة الدولة، مما يعني ان العراق سائر بوتيرة متسارعة نحو سيادة المؤسسات الطوائفية بديلاً عن مؤسسات الدولة واجهزتها. وهو أمر سيجعل العراق أرضاً مفتوحة لحروب أهلية لا قعر مرئياً لها.
تميزت مصر عن سائر الكيانات العربية بأنها الكيان الأكثر تماسكاً وامتلاكاً لمقومات الوطن - الدولة، وهو أمر له جذوره التاريخية في تكون الدولة المصرية وترسخ مؤسساتها البيروقراطية والمركزية. منذ هزيمة حزيران (يونيو) 1967، تسارع المسار الانحداري للمشروع القومي العربي بقيادته الناصرية، ليخلي الساحة تباعاً لصعود الاسلام السياسي بأفكاره الأصولية والسلفية. ترك هذا المسار آثاراً سلبية عميقة طالت بنية المجتمع المصري والعلاقة بين مكوناته الأصلية، نجمت عنها علاقة متوترة بين المسلمين والأقباط. تشهد مصر منذ سنوات احتكاكاً مباشراً، ساخناً وبارداً، مع الأقلية المسيحية القبطية، تحول نزاعاً مسلحاً في بعض المناطق، مغلفاً بدرجة عليا من التحريض الطائفي.
في الأحداث التي شهدتها مصر منذ أشهر، بدا واضحاً الموقع الذي تحتله الكنيسة المصرية في احتضان الطائفة وادارة شؤونها الدينية والسياسية والاجتماعية. بدا الأخطر في هذا المجال تشديد المؤسسة الكنسية على أن تكون المفاوض عن الطائفة، وأن تعتمدها الدولة المصرية مرجعاً في حل الخلافات وتحقيق المطالب. كما لا يمكن اعفاء النظام المصري من مسؤولية هذا الاحتقان والنتائج المترتبة عليه.
ليست النماذج الثلاثة المشار اليها فريدة في بابها في العالم العربي. وتتحمل الأنظمة السائدة مسؤولية أساسية عن احتدام التناقضات، كما يشكل غياب الديموقراطية وتعاطي الأكثريات مع الأقليات بشكل فوقي قائم على الغبن في حقوق هذه الأقليات، عوامل انفجار راهنة ومحتملة. فاقم صعود الأصوليات بالفكر التمييزي الذي تحمله من زيادة التوتر وتصاعد الخلافات. يؤدي استبدال الهوية القومية والوطنية بالهوية الطائفية الى مفاقمة الصراعات المذهبية، كما يشكل أقصر الطرق الى سيطرة الاستبداد في كل قطر عربي أو ادامته.
يقدم المشهد العربي الراهن صورة سوداء للواقع الذي تعيشه المجتمعات العربية من المحيط الى الخليج. تتميز هذه الصورة باندلاع حروب اهلية مذهبية وطائفية تمعن تقسيما وشرذمة في بنى هذه المجتمعات. تتشابه لوحة الاحداث في العراق ولبنان واليمن والسودان والجزائر وغيرها من البلدان التي تعيش حروبا اهلية باردة احيانا وساخنة في اغلب الاوقات. يسود تبسيط في تعيين المسؤولية عن الانحدار فتلصق التهمة بالتدخلات الاجنبية التي تزكي نار الفتن خدمة لمصالحها الخاصة، فيما يسدل ستار من التعتيم على الاسباب البنيوية الداخلية التي يعود اليها بشكل رئيسي مسار التدهور والعنف. يصعب بالتأكيد تبرئة العوامل الخارجية من تأجيج الصراعات العربية الداخلية، لكن فعل الخارج هذا يظل محدود الاثر اذا افتقد الممرات الداخلية التي تسهل فعله هذا.يحتاج العرب الى التبصر مليا بالعوامل الموضوعية المسؤولة  عن التصدع الحالي بوصفها حصيلة لجملة تطورات عاشتها المنطقة العربية مدا وجزرا وانتهت الى اخطر النتائج في تطورها الا وهو اهتزاز بنى الدولة في العالم العربي وتصدع مكوناتها.
طرحت حركة التحرر العربية مشروعا تحديثيا منذ الخمسينات في اعقاب معركة التحرر من الاستعمار . تركز البرنامج على قضايا التحرر الكامل من الموروثات الاستعمارية وبناء انظمة استقلالية، وعلى استكمال المعركة القومية باستعادة فلسطين الى احضان العالم العربي، وعلى برنامج اجتماعي لتحسين الاوضاع الاقتصادية والمعيشية ومنع استغلال الطبقات الفقيرة وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، وانجاز اصلاح سياسي يتيح لاوسع الجماهير المشاركة في السلطة وتقرير مصير البلاد، على ان يتوج هذا البرنامج بتحقيق حلم العرب بالوحدة التي تشكل شرطا لاستعادة موقعهم القوي، بما يضمن استخدام الثروة العربية، البشرية منها والمادية، في مواجهة التحديات المنتصبة في وجه حركة الشعوب العربية الساعية الى الحرية والاستقلال. اذا كانت الناصرية شكلت طليعة هذا البرنامج واطلقته منذ الخمسينات من القرن الماضي، الا ان بنوده تحولت شعارات واهداف الحركات الوطنية والتحررية في كل قطر من العالم العربي.
كان واضحا منذ البداية ان مشروع حركة التحرر القومي هذا لا يستقيم من دون بناء دولة حديثة في كل قطر من الاقطار العربية. تثبت تجارب التاريخ الحديث ان نشوء الدولة وثباتها يمثل اهم درجة في تطور هذا البلد او ذاك ودخوله مدار الحداثة. تحقق الدولة الاندماج الاجتماعي عبر قوانين تتيح للمواطن الانتماء الى مؤسسات الدولة وتسمح بمساواة بين ابناء البلد بعيدا عن التصنيفات الدينية او الطائفية او العرقية او القبلية...لم يكن الامر بسيطا على انظمة الاستقلال الناشئة ان تتوصل الى ترسيخ مقومات الدولة بالمعنى الحداثي خصوصا في مجتمعات عربية ما تزال مقومات ما قبل الدولة سائدة فيها. في مجتمعات تعتبر فيها العناصر المتصلة بالعشيرة والقبيلة والطائفة والاثنية، عوامل مقررة في الانتماء الى الوطن وفي تعاطي هذه المكونات  مع المؤسسات الوليدة للدولة، واعتبارها ممرا لهذه الدولة بالذات، لم يكن من السهل الوصول الى دولة عربية تقف فيها مؤسساتها فوق مكونات ماقبل الدولة  وتحقق بالتالي وحدة مجتمعية، وقيام مؤسسات تسود على المجتمع بكامله.
لم يتحقق مشروع حركة التحررالعربية وفق الاهداف التي حددها، وعندما وضع على محك التطبيق، برزت المفارقة بين الادعاءات النظرية وبين الممارسة العملية للسلطات التي تولت الحكم. بديلا عن استكمال مهمات التحرر الوطني خسرت الامة العربية مزيدا من الاراضي في مصر وسوريا وفلسطين امام العدو الاسرائيلي ومساعدة الدول الاستعمارية له. وبديلا من الاصلاحات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وجد العالم العربي نفسه اما انظمة ديكتاتورية وقمع للقوى التي لا تقول مقال السلطة، واطباق على الحريات السياسية.اما في الجانب الاقتصادي والاجتماعي فلم تشكل الثروات المادية الهائلة التي يملكها العالم العربي مصدر تحسين حقيقي لاوضاع الانسان العربي. ظل تحقيق الوحدة العربية حلما بعيدا زاد من صعوبة الوصول اليها ما تحقق من وحدات بين بعض الاقطار. ثبت ان الفكر القابع وراء منطق الوحدة العربية لا يرى سوى عمليات الحاق قسري من هذا القطر الى الاخر، او سعيا للهيمنة بالقوة على جار او آخر، وغاب عن الفكر الوحدوي ان الديمقراطية شرط الوصول اليها وبالتالي استمرارها، فيما يشكل الاخضاع اقصر الطرق للانفكاك وتحول العلاقة بين البلدين والشعبين الى علاقة عدائية.
هكذا سلكت السلطات القائمة عملية قسرية في توحيد مجتمعاتها او في تحقيق اندماجها. بدا تكون الدولة مفصولا عن الواقع الفعلي، واستخدمت القوة القمعية في طمس المكونات الاصلية لهذه المجتمعات، وفرضت وحدة قسرية على البنى الداخلية لها بما سمح بالقول ان المنطقة العربية تجاوزت مكونات ما قبل الدولة لصالح الدولة الحديثة. كان يمكن لهذه التجربة ان تسود وتتثبت لو ان الانظمة التي استولت على السلطة تمكنت من تحقيق البرنامج الطموح الذي سبق وطرحته. لكن الهزائم المتتالية التي اصابتها خارجيا وداخليا وعجزها عن حل المعضلات التي تعيشها مجتمعاتها سمح للعناصر الاصلية لهذه البنى بان تطفو على السطح مجددا متحدية هذه المرة منطق الدولة بوصفها القوة الموحدة للمجتمع، وان تطرح نفسها بديلا هذه المرة عن الدولة، اي السعي الدؤوب لانتقال مهمات الدولة الى الجماعات الطائفية او العشائرية والقبلية.
 في المثال العراقي،تكشف انهيار نظام البعث عن انفلات مكبوتات وغرائز طوائفية انفجرت عنفا رهيبا يدمر اليوم العراق بشرا وحجرا. استعاد الصراع الشيعي –السني رمزيات وموروثات الصراع على الخلافة قبل اربعة عشر قرنا ، فانحكم الصراع السياسي بهذا الماضي و"تلبنن" المجتمع العراقي في حياته اليومية، فبات على العراقي ان يحدد انتماءه وفقا لطائفته ومذهبه واثنيته. يسير العراق اليوم حثيثا نحو تقسيمه على اساس طائفي واثني. كما يتحول الولاء فيه من الدولة لصالح العشيرة والطائفة والقبيلة التي صارت جميعها ممرا اجباريا للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية واجتماعية، اضافة الى كونها الضمان للامن والحياة الشخصية
نموذج آخر فاقع في تجسيده لتصدع بنى الولة لصالح البنى الاهلية، هو الحال اللبنانية. يمثل لبنان الوجه الابرز في غلبة الطوائف ومؤسساستها على الدولة واجهزتها. يطل المشهد اللبناني اليوم على درجة عليا من الاصطفاف الطائفي بما يفرض توسط الطائفة في العلاقة بين الفرد والدولة، واعتبارها ممر الولاء الوطني. على امتداد عقود، شكل الانتماء الطائفي شرطا للانتماء الى مؤسسات الدولة، كما شكلت الطائفة قناة توزيع الدخل الاهلي. خاض المجتمع اللبناني في مراحل معينة صراعا من جل غلبة الدولة على حساب الطوائف، لكن الحروب الاهلية المتتالية، الساخنة منها والباردة، ادت الى مزيد من هيمنة الطوائف على الدولة. ليس مبالغة تشبيه الحالة اللبنانية راهنا ب"المحميات"المسيجة بجدران عالية، تقبع كل طائفة داخل سياجها وتمنع التواصل مع سائر الطوائف. لذا لم يعد من الغرابة في شيء ان يتحول اللبناني الى طائفته او مذهبه سبيلا لحمايته وتأمين رعايته وتحقيق مصالحه، ناهيك عن اعتبار الولاءالطائفي مصدر الوصول الى مواقع ادارية او سياسية في الدولة.
اذا ما تجاوزنا الكيانات الضعيفة التكوين وانتقلنا الى قراءة الحالة المصرية، ستواجهنا معضلة ستكون لها نتائج خطيرة على مستقبل الدولة المصرية. تميزت مصر عن سائر الكيانات العربية بانها الكيان الاكثر تماسكا وامتلاكا لمقومات الوطن-الدولة، وهو امر له جذوره التاريخية في تكون الدولة المصرية وترسخ مؤسساتها البيروقراطية والمركزية. منذ هزيمة حزيران 1967، تسارع المسار الانحداري للمشروع القومي العربي بقيادته الناصرية، ليخلي الساحة تباعا لصعود الاسلام السياسي بافكاره الاصولية والسلفية. ترك هذا المسار آثارا سلبية عميقة طالت بنية المجتمع المصري والعلاقة بين مكوناته الاصلية، نجمت عنها علاقة متوترة بين المسلمين والاقباط. في الاحداث التي شهدتها مصر منذ عدة اشهر بين الاقباط والمسلمين، ظهر واضحا الموقع الذي تحتله الكنيسة المصرية في احتضان الطائفة وادارة شؤونها السياسية والاجتماعية ناهيك بالدينية. بد الاخطر في هذا المجال تشديد المؤسسة الكنسية على ان تكون المفاوض باسم الطائفة ومطالبتها الدولة المصرية في اعتبارها، اي الكنيسة، المرجع الرسمي في حل النزاعات والنطق بمصالح الطائفة.
لا تشكل النماذج الثلاثة المشار اليها سوى عينات عما تزخر به المجتمعات العربية من الغام قابلة لان تفجر بناها في اي منعطف من تطورها التاريخي. لعل السبب الرئيسي، وليس الوحيد، هو العجز عن الدخول في الحداثة واستعصاء المجتمعات العربية عليها. اظهرت التطورات التي شهدها العالم العربي ان ما عرفه في مرحلة التحديث لم يكن سوى قشرة حداثية بالمعنى الشامل لمفهوم الحداثة عنوانا للتطور والتقدم الاجتماعي والثقافي والسياسي. تشكل الدولة ابرز معالم دخول هذا المجتمع او ذاك في رحاب الحداثة، مما يعني ان النظر الى درجة تكون الدولة يشكل مقياسا لمدى تجاوز هذا المجتمع العناصر البنيوية ذات الاصل الطائفي او العشائري. في هذا المجال لا تظلم الطبقات التي امسكت بالسلطة منذ تحقيق الاستقلالات بالقول انها عجزت عن بناء دولة تسود فيها روح القانون وتغلب المصالح العامة على المصالح الفئوية وتطلق مسار التطور الاجتماعي.فشلت الانظمة في بناء دولة، لكنها نجحت نجاحا باهرا في بناء سلطات واجهزة امنية سخرتها في خدمة انظمتها وسلطتها على الشعب تنكيلا واضطهادا وقمعا وقتلا وتشريدا واسكاتا للرأي. كان يمكن لهذه الانظمة ان تظل ممسكة برقاب المجتمع موحدة اياه بالسوط  والمسدس لو انها استطاعت ان تحقق له حيزا من الانتصارات على الصعيد الوطني او القومي، او ان ترفع من شأنه الاقتصادي والاجتماعي. ان سلطات قائمة لم تقدم الى شعوبها سوى الهزائم ستجد نفسها امام انفكاك في هيبتها وبالتالي تصدعا في بناها، وبالتالي عودة المجتمع الى مقومات ماقبل الدولة وسيلة للحماية والرعاية.
سادت في  حركة التحرر العربية بعض النظريات التي وضعت في صلب اهدافها محاربة الدولة وصولا الى تحطيمها، صدر منها عن اساس نظري قالت به الماركسية وبعض النظريات الفوضوية من اعتبار الدولة اداة في يد الطبقة الحاكمةتستخدمها في قمع الطبقة العاملة وسائر الجماهير الشعبية، مما يعني ان شرط تحرير هذه الجماهير يمر عبر تحطيم بنى هذه الدولة وادواتها، وهو امر اثبت التاريخ عدم صحته، فيما خلط آخرون بين الدولة ككيان وارض وشعب ومؤسسات، وبين السلطة او الحكم السائد في فترة محددة.

ان فشل مشروع الدولة في العالم العربي يمثل اكبر نكوص عن المشروع الحداثوي،ومن المؤسف ان الدولة عادت لتشكل "مقولة" او في احسن الاحوال "فكرة" من اجل المستقبل. واسوأما في الامر ان الوصول الى تحقيقها بات حلما لايعرف المواطن العربي متى يتحقق وباي طريقة. 

القسم السادس

سهولة الحرية واستعصاء الديموقراطية اللبنانية

يطل المشهد اللبناني راهنا على اعلى ذرى عرفها اصطفافه الطائفي منذ تأسيس كيانه. وادى هذا الاصطفاف الى فرز اللبنانيين طوائف ومذاهب، فبات من الصعب التعرف الى اللبناني خارج هذا الاطار. يهدد الاحتقان الحالي بالتحول حراكا ساخنا في ظل تفاقم الانقسامات الاهلية المتصاعدة. لكن هذا الحراك الطائفي لم يسقط من سماء صافية، فهو وليد بنية مجتمعية وصيغ دستورية تفاعلت ولا تزال منذ عقود بعدما اسست التسويات المتتالية منذ قيام لبنان عام 1920 لصيغة نظام طائفي نابع من طبيعة التركيبة السياسية والاجتماعية السائدة اصلا.
ارتضى اللبنانيون تباعا الطائفية صيغة لنظامهم وقاعدة للعلاقة بين الدولة والمواطن، لكنها تعرضت لانفجارات متتالية كانت تهز البلد في فترات زمنية لا تتجاوز عقدا او عقدين. نجمت الانفجارات عن اختلالات في التوازنات الطائفية الداخلية، وعن اختلال آخر في علاقات لبنان مع محيطه الخارجي، وعبّرت عن نفسها بحروب اهلية اتسمت بالطابع الطائفي، كانت تطيح في كل فترة ما تكون التسوية قد سمحت به من تحديث وتقدم وتطور في البلاد، وترتد بالدولة والمجتمع عقودا الى الوراء.
من حق اللبناني ان يتساءل هل الحروب الاهلية الناجمة عن الاختلالات المتتالية في التسويات الطائفية ستظل هي القانون الذي يحكم المستقبل كما حكمه في الماضي. ومن حقه ايضا ان يتساءل هل يبقى اسير قولبة طائفية ومذهبية متصاعدة دوما، ترتد به الى عصبيات عشائرية وقبلية وعائلية. واذا كان هذا النظام الطائفي المسبب الرئيسي لمآسي اللبنانيين وحروبهم الاهلية، فهل في الامكان البحث عن وسائل تجاوزه نحو نظام يشعر فيه اللبنانيون بأنهم اصحاب مستقبل مستقر؟ لم تعدم البلاد اجوبة راوحت بين الاصرار على تجديد النظام الطائفي وتحسين شروط فعله، او على الغاء الطائفية السياسية سبيلا للخلاص.
مقابل ذلك، تشير وقائع التاريخ وطبيعة تركيب النظام الى ما يشبه الجزم بأن هذا النظام الطائفي سيكرر انفجاراته كل فترة زمنية نتيجة احتدام تناقضاته وعجزه عن حلها سلميا، مما يعني انه ليس نظاما للمستقبل. في هذا المجال تبدو العلمانية السياسية بديلا ديموقراطيا من هذا النظام، قابلا ادخال لبنان في مدار الحداثة، ومعيدا الى اللبناني حريته وحقه في ان يكون مواطنا. ستبدو هذه الدعوة الى العلمانية الديموقراطية سرابا اليوم في ظل هذا الهيجان الطائفي المسيطر على العقول والنفوس، لكنها ستظل الامل الذي ينقل اللبناني من كهوف العصبية الطائفية الى رحاب التقدم بما يتيح للبناني طريقا للخلاص، وبما لا يبقي الحرب الاهلية قانونا يؤطر حياة اللبنانيين ويتحكم بمصيرهم.
في الصيغة الطائفية
يتميز الدستور اللبناني بتناقض كبير بين نصوصه وممارستها في الواقع. نظريا، يصنف الدستور النظام السياسي في خانة النظم الديموقراطية، اذ تحفل الكثير من مواده بهذه الوجهة ومنها ان "لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية تقوم على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمايز او تفضيل. الشعب مصدر السلطات وصاحب السيادة يمارسها عبر المؤسسات الدستورية. النظام قائم على مبدأ فصل السلطات وتوازنها وتعاونها. حرية الاعتقاد مطلقة، والدولة تحترم جميع الاديان والمذاهب وتكفل حرية اقامة الشعائر الدينية".
مقابل هذه المواد ذات التوجه الديموقراطي، يحمل الدستور مواد تقول: "حرية الاعتقاد مطلقة. وهي تضمن للأهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الاحوال الشخصية والمصالح الدينية. حرية التعليم مكفولة ما لم يخل بالنظام العام او ينافي الآداب او يتعرض لكرامة احد الاديان او المذاهب. ولا يمكن ان تمس بحقوق الطوائف من جهة انشاء مدارسها الخاصة". تتوج المادة 95 هذه النصوص بالجزم أن قاعدة التمثيل الطائفي هي السائدة في مؤسسات الحكم السياسية والادارية.
تحيل "الصيغة الطائفية" الامور الاساسية في البلاد على الطوائف، وهي تمثل في هذا المعنى جوهر النظام السياسي اللبناني في مدارات الحكم والحياة المدنية والمجتمع الاهلي، وكانت في اساس التسويات التي حكمت الكيان اللبناني منذ تسوية عام 1864 ونظام المتصرفية. تحولت هذه الصيغة دستورا حقيقيا للبنان، فمثلت كل تسوية اعادة صوغ لأوزان التمثيل الطائفي، اضافة الى اعادة بلورة الخلفية التي تنطلق منها وتنقلها من الاعراف والتقاليد الى نصوص قانونية ودستورية. يصف ادمون رباط في مقدمته للدستور اللبناني المعدل عام 1990 صيغة تعايش اللبنانيين بالقول: "ان اللبنانيين سيبقون خاضعين، وكل منهم في اطار طائفته، لقوانينها وشرائعها، في حياتهم العائلية والروحية العامة، باعتبار ان لا بد لكل مواطن لبناني من ان يكون منتميا الى طائفة معينة، في ولادته وزواجه ووفاته، وبالتالي في حياته العامة، الامر الذي يجعل الروح الطائفية ملتصقة بشخصه واسرته، ويجعل كل عمل سياسي يقوم به، كالانتخاب والمنافسة في اقتناص الوظائف العامة والوزارات مستمرا، طبيعيا، في خضوعه لروح طائفته وميولها ومصالحها وتياراتها، وذلك كله لأنه سيبقى عضواً حيا لطائفته الاصلية".
الطائفية نظام حياة الشعب اللبناني بكامله وتمسك بتلابيبه من المهد الى اللحد، وهي تخترق البنية الاجتماعية للبلاد وتدخل في تركيبها الاقتصادي وحياتها السياسية ومؤسساتها كافة. واذا كانت وقائع التاريخ اللبناني قد اثبتت ان هذا القيد الطائفي سيظل يحجز التطور الديموقراطي للنظام ويمنع استقرار كيانه، فان هناك في المقابل قوى واسعة ترى ان هذا النظام الطائفي علة وجود لبنان، وان الدعوة الى تجاوزه تعني الغاء هذا الكيان. يضع هذا التباين قضية العلمانية الديموقراطية بديلا من النظام الطائفي في مدار الخلاف الجوهري. فالعلمانية مشروع سياسي وثقافي واجتماعي متكامل يهدف الى نقل لبنان من صيغة الى اخرى.
في تعيين سمات العلمانية الديموقراطية
لم يشهد مفهوم سياسي معارضة حادة قادتها مكوّنات النظام الطائفي اللبناني كما شهده مفهوم العلمانية. توحدت المؤسسات الدينية والروحية، المسيحية منها والاسلامية وسائر الفاعليات السياسية من ابناء النظام ضد هذا الشعار، منذ ان طرح عام 1975 عبر مشروع الحركة الوطنية للتغيير، وصولا الى السنوات الاخيرة. رأت فيه هذه القوى خطرا يتهدد مصالحها وينقل البلد الى اطار سياسي مختلف، فاتخذت الحملة ضد العلمانية طابعا سياسيا دينيا ايديولوجيا، فوسمت بالالحاد والسعي الى الغاء الاديان والقضاء على الطوائف، ووصل الامر الى وصف العلمانية بأنها اداة تدمير مقومات الكيان والنظام والأسس التي قام عليها لبنان.
ليس غريبا ان تحظى العلمانية بهذه الموجة من التحريض والهجوم، فهي ابنة الحداثة وتتويج لمسار متقدم حصلته البشرية في المدارات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وقد تحققت بعد صراع متواصل قام على نقد الفكر السائد والموروث، وعلى نقد الاساطير والمقدسات والعادات والتقاليد. كما شكل تصديها للدور السياسي الذي اضطلعت به المؤسسة الدينية حيزا كبيرا من تكونها. وتقرأ العلمانية على انها جملة التحولات التاريخية والسياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية والايديولوجية. ليست شعارات، انها منظومة من القيم والمفاهيم السياسية قاعدتها الحرية والعدالة والمساواة.
تمثل العلمانية "احد المكتسبات الاساسية للروح البشرية"، وخطوة مركزية في تحرير العقل البشري وحلا لمسألة الغيبيات. انها مسألة سياسية اولا وقبل كل شيء، وليست دينية، والاقدر على اعطاء البعد الروحي والديني للانسان كل مفاعيله وموجباته. ان التحديد السياسي للعلمانية يجعلها تحلّ مفهوم الفرد والمواطن محل مفهوم الرعية والطوائفية، كما تجعل الشعب منبع السلطات وليس اي قوى غيبية اخرى. تبتعد العلمانية عن التكفير، وتحترم الحرية الدينية وتعترف بالتعددية وحرية الاعتقاد، بل والحق في تغيير الدين، وتضمن في الآن نفسه استقلال ارادة الانسان وحريته الفردية.
تتصل العلمانية بالديموقراطية بشكل وثيق، فيستحيل تحقق العلمانية خارج اطار الديموقراطية، بل يؤدي القسر في فرضها الى نتائج عكسية لما تهدف اليه. كما انه لا يمكن تصور تحقيق الديموقراطية من دون ان تكون علمانية. فمقولة الديموقراطية الطائفية، مثلا، لا وجود لها عمليا، فلا تستقيم البنية الطائفية وقوانينها مع حرية الفرد واستقلاليته كمواطن.
انطلاقا من هذه الأسس والمبادىء التي تقول بها العلمانية، يمكن مقاربة القضايا الرئيسية للبلاد في رؤية بديلة من النظام الطائفي، تمتد هذه القضايا على مساحة تطاول مسألة فصل الدين عن الدولة وشروط تكوّن الدولة الحديثة والوحدة اللبنانية والاستقلال والهوية والثقافة.
فصل الدين عن الدولة
يشكّل فصل الدين عن الدولة حلقة مركزية في تحقيق العلمانية، ويمثل هذا الموضوع مادة رئيسية في الهجوم الذي تتعرض له العلمانية في لبنان. هناك حاجة الى التمييز الواضح بين الدين والطائفة، لأن الدمج الحاصل بينهما هو اساس الخلافات المندلعة. يمثل الدين مجموعة عقائد ومفاهيم وتعاليم ورؤى روحية تهدف الى الارتقاء بالانسان وتغليب عناصر الخير والسمو في ذاته، ويؤكد تاريخ الاديان القواسم المشتركة التي تجمع الاديان التوحيدية الثلاثة، اليهودية والمسيحية والاسلام، لجهة الايمان بإله واحد والعلاقة مع الله والنظرة الى الحياة في الآخرة.
شهدت الاديان جميعها انقسامات الى طوائف ومذاهب، تكوّنت في اطار الصراعات الاجتماعية والسياسية وخصوصاً مسألة الصراع على السلطة. دمجت كل طائفة الديني بالسياسي واستخدمت النص بما يتناسب وتأويلاتها ويخدم موقعها في الصراع والتنافس، لاسباغ المشروعية الدينية والقدسية على الطائفة وفكرها وممارستها. ينطبق هذا المسار على المسيحية والاسلام، اذ نجم عن تكوّن الطوائف وانقسامها مذاهب، تحولها تنظيمات اجتماعية تتحدد على اساسها هوية المجموعات وولاؤها، وكرست لها قوانين خاصة، واعتمدت لنفسها طقوسها وشعائرها التي تميزها عن سائر الطوائف والمجموعات الدينية. واستكملت الطوائف تنظيمها بتأسيس احزابها الخاصة بما يساعدها في تعزيز موقعها الاجتماعي.
تحمل الطوائف والمذاهب معتقدات تنظر كل واحدة بموجبها الى نفسها على انها حاملة الحقيقة المطلقة، وتالياً الدين الصحيح. نجم عن ذلك الغاء التمييز بين الدين والطوائف، فشكل هذا الخلط الاساس الذي قامت عليه نظريات وحدة الدين والدولة، او وجوب خضوع الدولة للدين. لم يعرف التاريخ، المسيحي منه او الاسلامي، قيام دولة دينية. ما يرويه التاريخ هو تسلّط الكنيسة على السلطة السياسية في المجتمعات المسيحية استناداً الى نظرية الحق الالهي حيث يمثل البابا سلطة الله على الارض. لم تستند ممارسة هذه السلطة الى القيم التي كانت المسيحية تدعو اليها لاسيما الحق في الحرية وسياسة التسامح، بل مارست ابشع انواع القهر والاستبداد على المسيحيين، وتسببت بحروب دينية ومذابح اتسمت بالوحشية والهمجية وراح ضحيتها مئات الالوف من البشر. لم يشذ التاريخ الاسلامي عن مثيله المسيحي. فباستثناء الفترة التي عاش فيها الرسول حيث كان عليه ان يجمع بين المهمتين الدينية والزمنية في نشر الرسالة ومواجهة المعضلات الناشئة عنها وتقديم اجوبة عملية حولها، اتسم التاريخ الاسلامي على امتداد قرون بخضوع المؤسسة الدينية الى السلطة السياسية. عملت المؤسسة الدينية على تسويغ قرارات السلطة السياسية واعطائها الشرعية، غالباً بالتراضي واحياناً بالاكراه.
يقطع التاريخان الاسلامي والمسيحي بعدم صحة النظريات القائلة بوحدة الدين والدولة، او الدين والدنيا. تترجم هذه الوحدة لبنانياً بخضوع الحياة السياسية والاجتماعية لسلطة الطائفة. وتكتسب الدعوة العلمانية الى فصل الدين عن الدولة شرعيتها باعادة الاعتبار الى منطق الدعوة الدينية نفسها والاهداف التي تسعى اليها. يمثل الفصل بين ما هو روحي وزمني في الحياة الاجتماعية الحجر الاساس الذي تقوم عليه الحداثة.
لا يعني التشديد على الفصل بين الدين والدولة دعوة الى الغاء الدين او الطوائف كما يشيع خصوم العلمانية. تقوم حجة هؤلاء على ما جرى تطبيقه من علمانية قسرية حاولت الغاء الدين من الحياة الشخصية والاجتماعية، على غرار ما حصل في الدول الشيوعية سابقاً فاعتمدت الالحاد بديلاً من الدين، او من خلال النموذج التركي الذي جهد في طمس تقاليد وموروثات ومعتقدات تتصل بالحياة الاجتماعية والدينية. لا يتصل النموذجان الشيوعي والتركي بالمفهوم العلماني الديموقراطي، بل يمكن القول بتعارض هذين النموذجين مع العلمانية، وذلك بسبب سيطرتهما على الدين واخضاعه لقرارات السلطة السياسية، فيما يشكل فصل الدين عن الدولة جوهراً رئيسياً في العلمانية، بما يعني اعطاء كل واحد حيزه الخاص، الحر والمستقل.
تعيد العلمانية الاعتبار الى موقع الدين الحقيقي وتضعه في موقعه الحقيقي كقيم ورؤى تقرّب الانسان من الله. تستند هذه الاستعادة الى تسويات متتالية بين العام اي الدولة ومؤسساتها، والخاص اي الدين. تبدو هذه التسويات ضرورية وحاسمة في اعطاء "ما لله لله وما لقيصر لقيصر"، وذلك بالنظر الى استحالة الفصل القطعي والمباشر الناجم عن التداخل المديد تاريخياً بين السياسي والديني. تتيح هذه التسويات ان يمارس الدين دوره الاجتماعي من خلال رسالته التبشيرية ويدعو الى التزام القيم الانسانية والاخلاقية.
تواجه هذا الفصل صعوبات غير مبسطة نتيجة تحول الدين مؤسسات ذات مصالح وامتيازات خاصة ترتبط بالنظام السائد. وأدى هذا التطور الى نشوء "طبقات" من رجال الدين ترى في العلمانية تقليصاً لدورها وموقعها وسلطتها على البشر، بما يتجاوز الدولة وقوانينها المدنية. لا يعني ذلك ان العلمانية حرب على رجال الدين، بل سعي لان يمثل رجل الدين موقعه الفعلي في الوعظ والهداية وخدمة الرعية.
عززت الصيغة الطائفية في لبنان تضخم المؤسسات الدينية بما اعطى رجال الدين فيها مواقع وسلطات لا تتوافق مع جوهر المهمة المفترض اناطتهم بها، ويشكل هذا الواقع احد العناصر الموضوعية في الاعتراض على العلمانية في لبنان.
العلمانية شرط قيام الدولية اللبنانية الحديثة
على امتداد عقود من التسويات الطائفية المتتالية، فشلت صيغة النظام الطائفي الى حد كبير في تكوين دولة حديثة. هذا لا يحول دون الاقرار بما تحقق من تحديث نسبي في مجالات متعددة، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، كان يجري تبديده الى حد بعيد عند كل اختلال في الصيغة وانفجارها عنفاً مسلحاً. تشكل المواطنية الحرة والمستقلة احدى قواعد العلمانية الديموقراطية وهدفها الاخير. تكتسب هذه المسألة اهمية كبيرة في لبنان لأن النظام الطائفي السائد يشكل العائق الاكبر امام تكوّن هذه المواطنية. فقد كرّست الصيغة نظاماً للاحوال الشخصية نزع عن اللبناني حقه في أن يكون مواطناً، اذ اعطى كل طائفة حريتها المطلقة في سن قوانينها الخاصة، وتشكيل المحاكم الناظرة في تطبيق هذه القوانين، مما جعل كل طائفة دويلة مستقلة. بات الولاء للوطن ممره الطائفة، واصبحت الحرية الشخصية للبناني مقيدة بحدود ما تسمح به قوانين الطائفة، فترتب على هذه القوانين تناقض صارخ بين ما تستوجبه حقوق الانسان والمواطن، وما تفرضه حقوق الطوائف سياسياً. فحقوق اللبناني غير معترف بها الا من خلال انتمائها القانوني لطائفة من الطوائف التي يكرس القانون العام وجودها.
تهدف العلمانية الى تحقيق المواطنية المتساوية حقوقياً، وتبغي من خلال ذلك الى وضع المدماك الاول في وجود الدولة الحديثة في لبنان. لا تأتلف سيادة الأمة وحرية الفرد مع الولاء للطائفة، مما يعني ان انتقال اللبناني الى عصبية التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين لا بد ان يمر على مجسم الموروثات والعصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية الضيقة. لذا تسعى العلمانية الى ان يتحول اللبنانيون، الذين هم الآن طوائف، الى لبنانيين حقاً وفعلاً.
منذ قيام الكيان اللبناني، فشل النظام الطائفي في تحقيق وحدة مجتمعية تنقل لبنان من صيغة فيديرالية الطوائف الى صيغة الوطن الواحد. ظل كياناً معوقاً، وحدته معلقة، يحكمه قانون الانقسام الاهلي الذي يخفي تحت جبته حرباً اهلية مستترة، مما يعني ان تحقق هذه الوحدة مرهون، كما تحقق المواطنية، بتجاوز هذه الصيغة. يؤمّن اعتماد العلمانية الرحبة ولادة مجتمع مدني مستقل يتجاوز العصبيات الطائفية، ويحافظ على التنوع والتعدد والخصوصيات في اطار الحرية والديموقراطية.
ينبع هذا التصور من المآل الذي يضع فيه النظام الطائفي ابناءه اللبنانيين في المأزق. فقد غزا الانقسام الطوائفي والمذهبي كل مرافق الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية للبنانيين، وجرت المأسسة على قاعدة المحاصصة الطائفية والمذهبية من فوق الى تحت ومن دون استثناء، وتمت قولبة المجتمع الاهلي وما تبقّى من المجتمع المدني (احزاباً ونقابات ومؤسسات مهنية) على القواعد المذهبية، فبات كل اتفاق لبناني محكوماً بأن يكون اتفاقاً بين طوائف ومذاهب. ادى "التبلّر الطوائفي" المتصاعد الى تفرع مذهبي، من شأنه ان يفضي الى وصول الطائفية الى طرق مسدودة، مما يوحي ان الدولة مهددة كل آن بالانفراط بين يدي الطوائف وممثليها.
لا يستقيم قيام الدولة الحديثة في لبنان من دون دولة القانون والمؤسسات. تشترط العلمانية الديموقراطية فرزاً بين العام والخاص. يتشكل العام من سلطات الدولة وقوانينها ومؤسساتها واجهزتها، فيما يتشكل الخاص من المجتمع المدني بأفراده وهيئاته ومؤسساته، اضافة الى بقايا المجتمع الاهلي وسائر العصبيات وخصوصا الطوائف منها. اكتسحت المحاصصة الطائفية والمذهبية هذا "العام" وتسلطت على دولة القانون والمؤسسات فبات الخاص الطائفي قاعدة مؤسسات الدولة وقوانينها وادارة وممارستها.
نجم عن هذا الاكتساح تعطل العلاقات الديموقراطية التي ترتبط وثيقا بسيادة دولة القانون والمؤسسات، كما ان الديموقراطية وسيادة الطائفية نقيضان يستحيل اجتماعهما. تحتاج الديموقراطية الى مؤسسات لتتمكن من الفعل، فيما تبدو هذه المؤسسات مصادرة من الخاص الطائفي والعشائري. سيترتب على ذلك قول باستحالة ازالة الطائفية من النفوس طالما بقيت هذه الطائفية قاعدة قيام المؤسسات الاجتماعية والسياسية والقانونية، لذا يشكل فصل الطوائف عن هذه البنى شرطا اساسيا لتجاوز هذه الطائفية من النفوس.
يؤدي تعثر قيام دولة القانون والمؤسسات الى سيادة الهيمنة الطائفية التي ينجم عنها توليد نقائضها القابلة دوما لتهديد التوازنات القائمة، وبما لا يمنع احيانا كثيرة اخطار انفجارها حروبا اهلية. لا تتميز هيمنة طائفية عن أخرى بمقياس العجز عن حماية انجازات البلد، فهي تتساوى جميعا في خلق حال من اللااستقرار ووضع البلاد في ازمات صعبة الحلول.
عجز النظام الطائفي عن تحصين الكيان اللبناني والمحافظة على استقلاله. ولم تظهر الطوائف وحدة وطنية تغلّب المصلحة العامة، اذ كشفت التطورات منذ قيام الكيان ان لا طائفة عصية على الخارج وعلى استدعائه لدعمها في صراعها مع الطوائف الاخرى. اعتمد التدخل الخارجي في الشؤون اللبنانية دوما على ممرات داخلية، وارتبط نجاحه بوجود قوى اهلية مستقبلة له وذات مواقع جغرافية وسياسية يستند اليها.
ينبع العجز عن تحصين الاستقلال اللبناني من عجز اصلي ناجم عن هشاشة الوحدة اللبنانية وغياب هوية وطنية جامعة. لا تمثل الطائفة هوية يتوحد على اساسها اللبنانيون، بل على العكس ستظل الطائفية مصدر انقسام طالما بقيت قوانينها سائدة. لقد عانى الداخل اللبناني من اجتياح العروبة الخارجية، الفلسطينية منها والسورية، على امتداد سنوات حربه الاهلية، فتسبب هذا الاجتياح في انقسام حول الهوية. يستحيل ان تؤسس العروبة الاجتياحية لعلاقة ديموقراطية مع البلد الذي تقتحمه. في المقابل لم تكن اللبنانية المسلوخة عن عروبتها سوى طوائفية صافية تقوم وظيفتها على تعميق الصراع الطائفي والمذهبي وتمنع تكوّن اللبناني مواطنا.
اذا كانت العقود الماضية اظهرت ان انحلال رابطة العروبة بما هي رابطة وطنية داخلية قد ادى الى سيادة الايديولوجيا الطائفية في لبنان، فان هذا المآل الطائفي المذهبي المنفلت من عقاله يعود ليطرح بالحاح اهمية بناء اللبنانيين لعروبتهم الداخلية بما هي عروبة علمانية ديموقراطية كشرط لوحدتهم. فالوقائع والتطورات تجعل المستقبل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبنان، اضافة الى موجبات حداثته ونهضته ومشاركته في مواجهة الاخطار الزاحفة على المنطقة، كلها مرهونة بأن يتعرف لبنان الى نفسه من خلال هذا المحيط العربي وبالعلاقة معه. تشكل الهوية اللبنانية القائمة على عروبة علمانية مساهمة مهمة في النضال الديموقراطي العربي.
تبدو ضرورة العلمانية حاسمة، ردا على الثقافة التي تنتجها الطوائف. في سياق بناء الطوائف لمؤسساتها المتنوعة المستويات، كان عليها انتاج ثقافتها الخاصة وفكرها المتميز. غابت الثقافة الديموقراطية الجامعة وحلت محلها منوعات من الفكر الماروني، الشيعي، السني، الدرزي. نجحت الطوائف في ان تدمج في صفوفها الغالبية الساحقة من مثقفيها الذين قام على عاتقهم انتاج هذا الفكر والتبشير به ونشره، فتراجع البحث في التاريخ اللبناني العام ليحل مكانه تاريخ الطوائف. باتت كل طائفة تقرأ لبنان من خلال موقعها وتاريخها ونمط تطورها. تحفل المكتبة اللبنانية بمنوعات من تواريخ الطوائف المليئة بالأساطير والبطولات عن نضالها. لا تساهم الايديولوجيا الخاصة بكل طائفة في قيام فكر لبناني مشترك بمقدار ما تتحول الى مادة ملتهبة في الصراع السياسي بين الطوائف والمذاهب، وبالتالي وقودا لعنف متواصل.
يعزز التعليم الديني القائم على الاصطفاء الطائفي واعتبار كل طائفة ان فكرها ومعتقداتها تمثل الدين الصحيح والحقائق المطلقة، نشوء ثقافة تفرز التعصب والحقد وكره الآخر غير المنتمي الى الطائفة. لذلك لا يعود مستغرباً ان يساهم التعليم والثقافة في نشر الفكر الاصولي واختراقه جميع الطوائف من دون استثناء.

تكمن اهمية العلمانية في انها تشكل وجهة حاسمة في نقد الفكر السائد والموروث من عادات واعراف واساطير، ودعوة الى القراءة العقلانية المتنورة لها. يحمل المجتمع اللبناني موروثات تشد به كثيرا الى الوراء، لأن سلطتها اقوى احيانا كثيرة من القوانين السائدة، مما يعني ان معركة العلمانية مع ثقافة الغيبيات والطوائفيات تتسم بصعوبات هائلة.
في شروط تحقق العلمانية في لبنان
تطرح قوى سياسية شعار الغاء الطائفية السياسية حلا لتجاوز النظام الطائفي. طرح هذا الشعار مطلع الحرب الأهلية في سياق دعوات التغيير. استند الطرح آنذاك الى وضع لبناني تحقق فيه حد من الاندماج الاجتماعي على حاملة حركة شعبية تجاوزت نسبياً الطوائف. على رغم اهمية الشعار وما يرمز اليه من تقدم وتحديث، الا انه كان يحمل الكثير من الالتباسات الطائفية. في مشهد لبناني راهن يسوده الانغلاق الطوائفي، وتصادر فيه الطوائف المساحات المدنية والسياسية، يتحول شعار الغاء الطائفية السياسية الى وسيلة استبدال هيمنة طائفية بهيمنة طائفية اخرى، متسلحة هذه المرة بقاعدة العدد، ومستفيدة من التحولات الديموغرافية التي عرفها البلد على امتداد ثلاثة عقود.
في المقابل، لا تفرض العلمانية بقرارات سياسية تتخذها السلطات الحاكمة فتتجاوز الاعراف والتقاليد والثقافة السائدة، اي بما يتجاوز المكونات الرمزية السائدة. فالقرارات تتسبب في انبعاث ردود فعل ولو بعد زمن طويل، فتشكل ردة وتمردا على كل ما يمكن ان تكون العلمانية قد حققته من انجازات تحديثية. تمثل النماذج في البلدان الشيوعية والعربية وتركيا ادلة على عقم فرض العلمانية بقرارات قسرية. ليس من المبالغة القول ان بعض القرارات العلمانية التي فرضتها الانظمة العربية المسماة "تقديمة" مسؤولة الى حد بعيد عن انتشار الاصولية في العالم العربي وازدهارها. لذلك يبدو الشرط الاول والرئيسي لتحقيق العلمانية ان تكون خيارا ديموقراطيا يتوافق عليه اللبنانيون.
يساعد تحقق العلمانية في اوروبا في فهم الشروط التي ساهمت في هذا النجاح. اتت العلمانية في اوروبا حصيلة تطور وتقدم طاول مجتمعاتها في ميادين الثقافة والسياسة والاقتصاد والعلوم، فلم تقتصر على الفصل بين الدين والدولة، بل الاهم من ذلك انها كانت انفصالا اكثر جذرية بين الدولة والمجتمع المدني. سمح هذا التشكل للمجتمع المدني بقواه ومؤسساته واحزابه ونقاباته، بنقل الدين من الحيز السياسي للدولة الى حيز المجتمع المدني، وهو ما ادى الى ان يستعيد الدين فاعليته في المجتمع. من اجل ذلك ارتبطت العلمانية، اضافة الى قيمها العقلانية والعلمية، بقيم الحرية والتعددية ورفض المقدسات والمحرمات.
في لبنان، وبالنظر الى تركيبه الاجتماعي وسيادة الطائفية فيه، يستحيل تحقق العلمانية عبر قرارات سياسية تتجاوز هذا التركيب، كما يستحيل ايضا تحققها دفعة واحدة. يحتاج الوصول الى العلمانية المرور بتسويات متتالية تحقق فيها العلمانية انجازات جزئية يؤدي تراكمها الى خلق مناخ يسمح ببناء مقومات الانتقال الى وضع سياسي وقانوني آخر.
يفترض تحقق العلمانية في لبنان بديلا من النظام  الطائفي،  قيام مشروع نهضوي متكامل سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا، يستند الى اصلاحات والى نقد السائد في جميع المجالات، كما يتطلب اصلاحا دينيا تلعب فيه المؤسسة الدينية دورا رئيسيا. لكن تحقيق العلمانية سيظل مرهونا بتحقق شرط ضروري واساسي لا معنى للحديث عن العلمانية من دون توافره. انه شرط تكون القوى اللازمة لحمل هذا المشروع. يحتاج لبنان الى حركة علمانية اجتماعية وسياسية لبنانية شاملة تتكون بموجبها قوى منضوية في احزاب ونقابات ومجتمع مدني ومؤسسات تؤمن بالعلمانية سبيلا للخلاص. وهنا تكمن الصعوبة الكبرى، من دون تحقيق هذا الشرط ستبقى العلمانية شعارا ايديولوجيا او حقوقيا وشماعة تعلق عليها الاحزاب مواقفها.

لا يبدو الوصول الى العلمانية قريب المنال في لبنان، فالطوائف تسحق تباعاً قواها الحية وتحيلها هوامش. وسيظل التاريخ يؤكد للبنانيين انه اذا كان تحقيق العلمانية ينطوي على صعوبات يبدو من العسير تذليلها، فان نظامهم الطائفي سيظل عنصرا مولدا لأزمات وحروب ستطيح ما انجزه. تستحق الموازنة بين كلفة بقاء النظام الطائفي واثمان تجاوزه الدراسة والتأمل من جانب اللبنانيين .
منذ قيام لبنان الكبير مطلع القرن الماضي، ظلت الوحدة الوطنية اللبنانية اشكالية لم يستطع اللبنانيون حلها أو تعيين وسائل بنائها وتطويرها. نشأ الكيان اللبناني يحمل في جوفه قضايا خلافية متعددة، وتحقق استقلاله عام 1943 من دون حسم القضايا المعلقة كافة. لا يتفق اللبنانيون جميعاً حول هوية البلد وعلاقاته الاقليمية، ولا على نظامه السياسي وطبيعة اقتصاده، وكيفية بناء الدولة، كما يختلفون في النظر إلى موقع الطوائف ودورها. ليس غريباً أن يحمل كيان ناشئ مثل هذه الخلافات وهو ليس فريداً في بابه، فالوحدة في البلدان الناشئة وحتى المتكونة منها تقوم على البحث الصريح في الخلافات والوصول تباعاً إلى تسويات تؤسس لتكون وحدة وطنية جامعة وفق ما يكون قد تم الاتفاق عليه.
عانى تكوّن الوحدة الوطنية في لبنان من اعاقات على امتداد القرن الماضي. تسببت الخلافات اللبنانية وتبدل التوازنات بين الطوائف في كل مرحلة من مراحل تاريخه بتوترات ونزاعات كان أسوأها الانفجارات الأهلية في الخمسينات والسبعينات وصولاً إلى أوائل التسعينات من القرن الماضي، بحيث يمكن القول إن الحرب الأهلية التي نجمت عن هذه الانقسامات ظلت قانوناً يقطر المجتمع اللبناني على امتداد تاريخه الحديث بشكل بارد وساخن.
مرت على لبنان لحظتان تاريخيتان كان يمكن أن تشكلا محطة مفصلية في تكوّن الوحدة الوطنية وترسيخ الاستقلال اللبناني، تمثلت الأولى بزوال الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 من دون اضطرار البلد لدفع كلفة سياسيةوالثانية تتعلق بالانسحاب السوري عام 2005 تحت ضغط دولي وداخلي في أعقاب اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أدى نقص الأهلية اللبنانية إلى تفويت فرصة توظيف هاتين الحالتين في تأسيس الوحدة اللبنانية على قاعدة جديدة، بما يسمح بإعادة تعيين نقاط الخلاف والاتفاق والوصول الى قواسم مشتركة في بناء الوطن. يعيد كثيرون عدم النجاح لأسباب تتصل بالعوامل الخارجية المؤثرة والناجمة عن ارتباط الأزمة اللبنانية بالأوضاع الاقليمية والدولية. يظل العنصر المقرر والقادر على الحد من التدخل الخارجي السلبي.
يشهد لبنان منذ صيف العام 2006 أعلى درجات التصدع في وحدته الوطنية ليس مبالغة وصفها بأنها وصلت حافة الهاوية. راكمت التوترات التي شهدها البلد منذ اغتيال الرئيس الحريري، وما تلاها من انسحاب سوري تبعه مسلسل الاغتيالات والانفجارات التي طالت فئة محددة، من حدة هذه الانقسامات. دفع العدوان الإسرائيلي في تموز (يوليو) 2006 الأزمة إلى أعلى ذروتها من خلال النتائج التي خلقها على صعيد الاجتماع اللبناني. وصلت خطوات التصعيد إلى مرحلة متقدمة مع الأزمة الحكومية التي تسببت في استقالة وزراء ومطالبة المعارضة بتشكيل حكومة اتحاد وطني، وعرقلة مرور المحكمة الدولية في المؤسسات الدستورية.
لا يحجب هذا التوصيف السلبي تلك اللحظة العارضة التي عرفتها الوحدة الوطنية اللبنانية خلال العدوان الإسرائيلي صيف العام الماضي. لم يكن اللبنانيون بغالبيتهم متوافقين مع القرار الذي اتخذه «حزب الله» آنذاك بخطف جنديين إسرائيليين مما تسبب في قيام الحرب. تعاطى اللبنانيون يومها وفق منطق يرفض اعتبار الحرب استهدافاً لـ «حزب الله» فقط، إنما هي استهداف للبنان كياناً ونظاماً واقتصاداً وبشراً، فوضعوا جانباً الاعتراض على قرار الخطف، وتحولوا الى احتضان كامل للمقاومة ورفض للعدوان، وعملوا على استيعاب نتائج العدوان خاصة على صعيد التماسك الوطني وفتح البيوت والمؤسسات للنازحين. كان القرار اللبناني في جوهره نابعاً من إدراك حجم المخاطر الأهلية إذا ما اندفع اللبنانيون في ظل الحرب الإسرائيلية الى تغليب الخلاف مع «حزب الله»، مما كان سيؤدي إلى انقسام أهلي لبناني حاد.
كان على اللبنانيين بعد انتهاء العدوان مواجهة نتائجه المادية وإعادة إعمار ما تهدم، ومناقشة موقع لبنان في الصراع العربي - الإسرائيلي، وما إذا كان سيبقى ساحة وحيدة مفتوحة، مما يعني نقاش مسألة المقاومة ودورها واندماجها في الحياة السياسية اللبنانية في ظل المعطيات الجديدة المترتبة على القرار 1701. وكان على لبنان أيضاً أن يواجه استحقاق مشروع المحكمة الدولية الناظرة في الاغتيالات. هكذا بديلاً من الاحتكام إلى تسوية جديدة، اندفع الوضع اللبناني ومعه الوحدة الوطنية إلى مرحلة عليا من التصدع بدأ باستقالة عدد من الوزراء إثر البحث في مشروع المحكمة انتهى بمطلب للمعارضة يتلخص في منع تمرير المحكمة، وبالتالي تسلم السلطة فعلياً.
وابتداء من شهر كانون الأول (ديسمبر) ا2006 دخلت البلاد مرحلة تصعيد بنزول المعارضة إلى الشارع، وتنفيذها اعتصاماً مفتوحاً وسط بيروت، قابلته الموالاة بتنظيم مهرجانات في المناطق اللبنانية. تؤشر الأوضاع السائدة إلى مرحلة جديدة في الصراع تقسم بمظاهر متعددة:
أولاً، لم يسبق للبلد أن شهد في تاريخه مثيلاً لهذا الاصطفاف الطائفي - المذهبي والانقسام الحاد في اجتماعه الأهلي. إذا كان الصراع في طبيعته سياسياً، إلا أن وسائل تحقيق أهدافه هذه المرة تقوم على التجييش الطائفي المذهبي، مما يهدد النسيج اللبناني أكثر من أي وقت مضى، وينقل التناحر المذهبي إلى البيت الواحد والشارع الواحد والبناية الواحدة، لكأن البلد يقف فعلاً على بركان بارود مهدد بالاشتعال كل لحظة.
ثانياً، بالنظر إلى هذا الاستقطاب الطائفي الحاد، تحول مطلب اسقاط الحكومة وما رافقه من محاصرة للسرايا إلى هدف يراد منه غلبة فئة طائفية على أخرى. استنفار النزول إلى الشارع والتهديد باقتحام السرايا ردة فعل طائفية مقابلة دفعت بها الى اعتبار اسقاط الحكومة في الشارع خطاً أحمر سيتسبب في اشعال فتنة طائفية ومذهبية في البلد. هكذا تحول رئيس الحكومة رمزاً يؤدي المس به إلى اصابة الطائفة بمجملها.
ثالثاً، أدت عرقلة إقرار مشروع المحكمة الدولية داخل المؤسسات اللبنانية إلى زيادة حدة الاستنفار الطائفي والمذهبي. أتى إقرار المحكمة في مجلس الأمن بداية للتحقيق في اغتيال الرئيس الحريري الذي كان تحول قائداً لطائفته، مما يعني أن اجهاض المحكمة يصب عملياً في منطق غلبة هذه الطائفة. من جهة أخرى، باتت المحكمة رمزاً لكشف مدبري ومنفذي الاغتيالات اللاحقة منعاً لتكرار مثيلاتها، فتحولت إلى قضية في صميم الاستقلال اللبناني وعنصراً مقرراً في علاقات سورية - لبنانية سليمة.
رابعاً، رافق الاعتصام في بيروت والمهرجانات المقابلة في المناطق خطاب سياسي غير مألوف في الحياة السياسية اللبنانية. اتسم الخطاب على مستوى القيادات السياسية والطائفية بنبرة عدائية تجاه الأطراف بعضها بعضاً، وباستخدام لغة التخوين والعمالة واللاوطنية والتكفير، مما لم تعرفه اللغة السياسية خلال مراحل الصراع السابق. لكن الأسوأ ما تشهده «القاعدة الشعبية» من استخدام «لغة سوقية» وشتائم بذيئة تطال القيادات السياسية والدينية على السواء. من سخرية القدر أن «الوحدة اللبنانية» تحققت هذه المرة «من فوق» ومن «تحت» على قاعدة اللغة المستخدمة في التعبير عن الخلافات السياسية.
بعد أن وصلت صراعاتها إلى هذه الذروة، لا تبدو القوى اللبنانية قادرة على ايجاد تسوية داخلية، خصوصاً أن كل طرف يرى تنازله هزيمة له. مما يعني ارتباطاً للأزمة اللبنانية بحبال الخارج.

يعيش اللبناني منذ فترة طويلة في ظل الخوف الذي يكاد يطبع كل مظاهر حياته اليومية، ويتدخل في تقرير مصيره المستقبلي . انّى اتجه المواطن، هناك سؤال واحد تقريبا ينطق به امام من له علاقة بالساسة او بالسياسة، الا وهو هل ستنفجر الحرب مجددا؟ هل ستندلع معارك بين السنة والشيعة او بين المسيحيين بعضهم مع بعض؟ هل ستعود الحرب بين لبنان واسرائيل، ام ستندلع حرب اقليمية اميركية اسرائيلية ضد ايران  وسوريا؟ وصولا الى السؤال الكبير:هل من امل في ان يبقى لبنان ام اننا سائرون الى الخراب المستديم؟ يتفنن اللبناني في ابتكار "افلام رعب " قادمة على البلد وعلى احداث آتية حتما، فيصدق كل خبرية حتى ولو كانت اشاعة ويرتب عليها مواقف عملية في شخصه وفي عائلته .
لا ينبع تساؤل اللبناني وهواجسه من فراغ او من هلوسات نفسية، فكل ما يجري في البلد يؤكد له بالملموس هذه التخوفات . فاذا بدا بقياس الامور من الفترة الزمنية الراهنة ،فكل معطياتها تبشر"بالويل والثبور وعظائم الامور" . يعيش البلد اليوم استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية، في ظل اعلى درجات الانقسام الاهلي، فالتهديد المتبادل باجراء الانتخابات او عدم اجرائها يقض مضجع المواطن لمعرفته بان اللعبة الديمقراطية في لبنان تتخذ طابعا لا ديمقراطيا بالمطلق، وهي في رأيه ستتحول الى مبارزة بالسلاح والفوضى من هذه الجهة او تلك تحقيقا لمطلبه في ان يكون الرئيس المقبل تابعا له ومن داخل معسكره. اذا كانت انتخابات الرئاسة تشكل ذروة الهواجس بالنسبة الى اللبناني، الا ان مقدماتها وعوامل تكونها هي التي ترخي بثقلها وتجعل الخوف حقيقيا من احداث آتية عليه بالتأكيد.  يستحضر اللبناني العوامل والعناصر التي تضعه في رحاب الخوف فيجد انها ماتزال اياها منذ زمن يعود به الى سنوات الحرب الاهلية قيل ثلاثين عاما.
يخاف اللبناني من هذا الانقسام المذهبي والطائفي المتسارع كل يوم والذي ينعكس على مجمل مظاهر حياته. بستحضر هذا الخلاف موروثات من الصراع القديم على السلطة تعود الى الف وخمسماية سنة، وكأن الاوان قد حان لتصفية هذا الصراع واستعادة حقوق جرى استلابها منذ ذلك الوقت . هكذا استحضرت رمزيات الصراع السني الشيعي وبتنا في مشهد يتصارع فيه الامام علي من جهة ومعاوية من جهة اخرى، اوبين الحسين بن علي ويزيد بن معاوية. ليس اسهل من حقن المذهبين بموروثات هذا الصراع واستحضاره في التحريض اليومي في الخطاب السياسي لكل طرف من دون استثناء. هكذا دمر هذا الاستحضار المذهبي النسيج الاجتماعي في اكثر من منطقة، وطال العلاقات العائلية فبات البلد يعرف انفصالا بين العائلات بسبب المذهب، ولاول مرة  في تاريخ لبنان تشهد المحاكم الشرعية، السنية منها والجعفرية، حالات من الطلاق بين الزوج والزوجة على قاعدة الانتماء المذهبي. وبات من الصعوبة بمكان ان تسود علاقات طبيعية داخل مكان العمل بين ابناء المذاهب، والامر نفسه انعكس على العلاقات الاجتماعية وعلى صداقات تفككت وتحول بعضها الى عداء .
يخاف اللبناني منذ زمن، ويزداد خوفه اكثر هذه الايام، من ظهور المعممين في الاعلام وكلامهم الى الجمهور الذي ندر ان خلا من التهديد المتعدد المظاهر. ويخاف اللبناني ايضا من البرامج السياسية التي تحفل بها وسائل الاعلام كل يوم، وهي برامج تبشره بانعدام الفرج  وبتواصل المأزق السياسي. لكن اكثر ما يرتعب منه اللبناني هو الكلام التخويني والتكفيري الذي يستسهل كل طرف اطلاقه دون "رفة جفن" من نتائجه . يمثل كل معسكر نصف الشعب اللبناني تقريبا، فيتهم هذا المعسكر خصمه بالعمالة والخيانة والولاء للاجنبي، ولا يقتصر الاتهام على رجال السياسة بل يطال كل من يؤيد هذا المعسكر اوذاك من الشعب اللبناني، مما يعني ان مجمل هذا الشعب يقبع في قفص الاتهام والخيانة وغيرها من الاوصاف، وهو امر ندر وجوده في اي بلد في العالم بما فيها البلدان المتخلفة جدا. يعرف المواطن العادي ان الاتهامات المتبادلة ليست كلمات فقط، بل هي في حقيقة امرها رصاصات يطلقها هذا الطرف على خصمه طالما ان الفتوى قد صدرت بتخوينه بما يعني اهدار دمه .
لا يقتصر الخوف على ابناء المذاهب الاسلامبة من الكلام المشرّع للقتل. فالمسيحي كما المسلم يعيش خوفا ورعبا من تجدد القتال، خصوصا وان اخبار التسلح والتدريب العسكري في مناطقه تتوالى عليه، ويعرف ان قسما كبير منها يتسم بالحقيقة . لا تزال ذاكرة هذا المواطن طرية في استحضار الصراع المسيحي – المسحي في الثمانينات والتسعينات بكل ما عرفه من وحشية وعنف لا صلة لها مطلقا بالحضارة اللبنانبة والاخلاق الحسنة والتسامح وغيرها من الصفات الحميدة التي يتغرغر بها اللبناني في خطابه فيما يمارس عكسها على ارض الواقع . وكيف لا يخاف هذا المواطن وهو يعرف ان مآل الخطاب السياسي هنا وهناك تجدد لحروب الغاء او هيمنة ستحصد مزيدا من الضحايا والقتلى الذبن لم تجف دماؤهم بعد، ومزيدا من الدمار الذي ما يزال شاهدا على تلك الفترة من الصراع. وقد يكون مصدر الخوف الاشد لدى اللبناني في كل المناطق ومن كل الطوائف هو المعرفة والوعي الذي يتمتع به في ادراك النتائج المترتبة على هذا التحريض والتهديد، وهو الذي خبر الحرب الاهلية وبات يدرك قوانينها ومساربها اكثر بكثير من المتحكمين بالحياة السياسية في المعسكرين المتخاصمين .
يعرف اللبناني ان الاصل في المشكلة هو العجز عن الوصول الى تسوية سياسية للازمة اللبنانية المندلعة منذ عقود، وهذه المعرفة تزيده خوفا ورعبا. فالعجز عن احقاق تسوية يعني تفاقم الخلافات واتخاذها اشكالا تتجاوز" البلاغات الخطابية " الرنانة التي يتحفنا بها كل يوم اقطاب الصراع . ويعرف اللبناني ان العجز عن الوصول الى تسوية وحل الخلافات بالوسائل السلمية وما يرافقها من لغة سياسية متوترة وازدياد الاحتقان الاهلي، كل ذلك هو الحرب الاهلية بعينها. يستغرب اللبناني هذا الكلام التهديدي بدخول البلاد حربا اهلية فيما يدرك اكثر من قادته انه يقبع في صميم هذه الحرب التي تبدأ بالكلام وتتدرج الى مراحل اعلى لتصل الى لغة السلاح .
ويتطور خوف اللبناني ويتزايد عندما يرى ان مقاليد امور بلده لم تعد في يد ابنائه بمقدار ما باتت اسيرة الصراعات الاقليمية والدولية على البلد. ولان اللبناني بخبرته التاريخية يعرف ان الخارج مهما كانت قوته ونفوذه يظل عاجزا عن اختراق الداخل ما لم تؤمن القوى المحلية الممرات الضرورية لتدخله، لذلك يزداد خوفه اليوم اكثر من اي فترة مضت من هذا الارتهان الكبير لقوى الخارج في الوصول الى حل ما لازمته الداخلية، وهو يدرك ايضا ان هذا الخارج معني بتأمين مصالحه اولا ولوكانت هذه المصالح على حساب استقلال لبنان وسيادته .
بزداد خوف اللبناني من عجز اللبنانيين عن الوصول الى تسوية ووفاق حول القضايا الخلافية، ويدرك بحسه وخبرته ان هذا العجز تعبير عن نقص في اهليتهم لادارة وطنهم وتحمل المسؤولية عن قضاياه. كما يعرف اللبناني ان تعثر التوافق على حل الخلافات بالطرق السلمية وعبر الحوار والتنازلات المتبادلة هو اقصر الطرق لانتقال الخلاف الى حالة من العنف في شتى اشكاله . لاتنقص اللبناني ضعف ذاكرة ما تزال طرية حول مسلسل الاغتيالات منذ العام 2005 وما تلاه، كما ان احداث كانون الثاني عام 2006 في يوم الاضراب الشهير واحراق الدواليب وما تلاه من احداث الجامعة العربية، وهي جميعها تعبيرات صارخة عن عجز اللبنانيين عن ادارة  خلافاتهم بالحوار. لا يستغرب اللبناني ان تستعاد على الارض الاحداث الامنية نفسها وبشكل اكبر واعنف هذه المرة بالنظر الى وصول الاحتقان السياسي الى اعلى ذراه، في ظل خطاب تزداد نبرته التهديدية كل يوم غير عابئ بآثاره السلبية على الوطن والمواطن.
يستحضرهذا المشهد السوريالي لدى المواطن اللبناني  هواجس انهيار متجدد لمؤسسات الدولة كما حصل منذ سنوات غبر بعيدة، ويستحضر ايضا معه الخوف من عودة حكم الميليشيات، وهو الذي خبر هذه السلطات بكل بشاعتها وصلفها. يرصد حاليا هذه العودة المستترة في كل مكان ومن سائر اطراف الصراع فيزداد هوله ورعبه من القادم عليه .
ويكتمل خوف اللبناني عندما يرى بام عينه المآل الاقتصادي الذي يسير البلد نحوه في ظل الدين العام المتراكم تباعا، وفي ظل تعطل الكثير من المؤسسات، وتعثر الدورة الاقتصادية بسبب الاوضاع السياسية والامنية المضطربة. يتحسس اللبناني هذه الازمة كل يوم من خلال انعكاسها على اوضاعه الاجتماعية التي تزداد تدهورا يوما بعد يوم، وفي حجم البطالة المتزايدة، وتصاعد مستويات الفقر والبؤس. يجري ذلك كله من دون ان تتوقف دورة نهب المال العام من جميع اطراف الصراع الذين يضعون خلافاتهم جانبا عندما يتعلق الامر بممارسة شتى انواع الفساد وبشكل مكشوف. يقترن الخوف لدى اللبناني من حصول انهيار اقتصادي مترافق مع انهيار او تعثر في عمل مؤسسات الدولة، وهو امر يفقده الامل بالانقاذ القريب .
يجمع علماء النفس والاجتماع ان أصعب الحالات التي يعيشها انسان هي اقامته في الخوف. بالنسبة الى اللبناني تتوفر لديه كل المقومات للعيش وسط هذا الخوف. اما تعبيراته فتتوزع من القلق الى الاضطراب الى الهيستيريا وصولا الى الهذيان. يعالج اللبناني خوفه بالمهدئات، لذلك تشير احصاءات شركات الادوية ان لبنان من اكثر بلدان العالم استيرادا للادوية المهدئة وتناولها قياسا الى عدد سكانه. وينعكس الخوف اضطرابا في الحياة العائلية فتزداد مشكلاتها، هذا فضلا عن الانعكاسات السلبية على مجمل الحياة الاجتماعية .
هل يلام اللبناني بعد كل هذا اذا ما كفر بوطنه واختار وطنا آخر ؟ بالتأكيد لا. ليس بمقدور جميع اللبنانيين اتخاذ خيار مغادرة بلادهم، مما يعني انهم محكومون بالعيش مع الخوف والتكيف مع موجباته .
اللبنانيون راسخون في حربهم الأهلية
لا يفتأ خطاب معسكري الصراع السياسي في لبنان، ومعهم أقطاب الطوائف وممثلوها عن الترداد شبه اليومي لمقولة رفض الانجرار إلى الفتنة أو اندفاع البلد نحو الحرب الأهلية، ويتحدث كل واحد عن هذا الطريق بصفته خطاً أحمر، ولا يتورعون عن إصدار الفتاوى والتحريمات المتوالية من الانزلاق إلى هذه الهاوية.

 لا يتوافق الخطاب مع الممارسة الجارية على الأرض حيث تُعبد الطريق لتصعيد النزاع الأهلي وانتشار الفتنة وهي الموجودة بقوة على الأرض. في الحديث عن رفض الحرب الأهلية تجب استعادة السؤال من مدخله الصحيح ورميه في وجه القوى السياسية والطائفية: هل خرج اللبنانيون أصلاً وحقاً من حربهم الأهلية منذ اتفاق الطائف أم أنهم لا يزالون يقيمون فيها، وما يجري ليس إلا إعادة تظهيرها بصور مختلفة ومتعددة؟
 تتحدد الحرب الأهلية بأنها حصيلة عناصر يجمع بينها الانقسام الأهلي بين قوى المجتمع، ووصول الاصطفافات والاستقطابات السياسية إلى ذروة تناحرها، وإلى عجز البنية عن مقاومة التفكك والانهيار تحت وطأة الانقسامات، مما يوصل تالياً إلى إنسداد آفاق التسوية السياسية بين القوى المتناحرة، وبما يتسبب كله في اختناق في الحياة السياسية يتم تصريفه بأشكال متعددة تبدأ باردة ولا تلبث أن تتحول ساخنة.
 فأين لبنان من هذه المعطيات اليوم؟ ألا يدل المشهد السياسي اللبناني حقاً عن رسوخ الحرب الأهلية في البلد وانغماس اللبنانيين في وحولها وتعرجاتها ومطباتها؟
 يؤرخ رسمياً اتفاق الطائف 1989 لنهاية الحرب الأهلية. وأول علائم عدم الخروج منها أن معظم الأطراف التي خاضت الحرب وأقامت فيها بين عامي 1975-1989 لم يجرِ مراجعة نقدية لها، ولم يتوقف أمام أسباب اندلاعها وعوامله وموقفه منها، خاصة أنها حرب انخرط فيها الشعب اللبناني بغالبيته الساحقة وكل من موقعه المحدد.
 تشكل المراجعة النقدية لهذه الحرب أول الشروط الضرورية للخروج منها وتجاوز عناصرها. ويقدم الخطاب السياسي السائد حالياً أكبر أدلة على عمق انشداد القوى السياسية من كل المعسكرين إلى هذه الحرب الأهلية، وهو ما يجري التعبير عنه يومياً باستحضار الوسائل والأساليب والمفردات والمسلك التي عرفها اللبنانيون في حربهم الأهلية الساخنة.
 من الأدلة الأخرى على إقامة اللبنانيين المستمرة في الحرب الأهلية تلك التي تتصل باتفاق الطائف، بكيفية الوصول إليه وبعملية تطبيقه على الأرض خلال خمسة عشر عاماً. كرست الهيمنة السورية المتحكمة بالبلد منذ اتفاق الطائف حتى العام 2005 ومعها القوى اللبنانية المتولية زمام الحكم، الانقسام الأهلي بشكل واضح. قام اتفاق الطائف في الأصل على تكريس صيغة غالب ومغلوب، وهو إسفين أساسي يعمل لمصلحة الانقسام الأهلي. تعمّق الانقسام في تطبيق الاتفاق الذي منع الوصول إلى وفاق وطني ومارس سياسة متحيزة لفريق لبناني على حساب أخرى بما يُخل بمعادلة العلاقات بين الطوائف. حقنت هذه الممارسات البلد باحتقان مديد وكرست معها الانقسامات التي كانت تتفاعل حرباً أهلية باردة داخل المجتمع.
 فاقم اغتيال الرئيس رفيق الحريري هذا الاحتقان وعمق شرخ الانقسامات الأهلية وأوصل الاستقطابات إلى ذروة عليا. انقسم البلد حول الهيمنة السورية والانسحاب السوري من لبنان وحول السلطة القائمة، وشكل الشارع بجماهيره الحاشدة من كلا معسكري آذار تعبيراً بليغاً عن حجم الاحتقان والانقسام. وشحنت الاغتيالات اللاحقة هذا الانقسام، وهددت الاستقطابات الداخلية المتصلة برباط قوي بالعوامل الإقليمية والخارجية، بانفكاك الكيان اللبناني تحت وطأة العجز عن التوافق على لبنان المقبل، مما كان ينقل الحرب الأهلية شيئاً فشيئاً من البرودة إلى الحماوة.
 في ظل اندلاع الأزمة السياسية، خاصة بعد العدوان الإسرائيلي وما ولده من نتائج داخلية وخارحية، وفي ظل الصراع على السلطة والسعي إلى منع قيام المحكمة ذات الطابع الدولي، انتقلت الحرب الأهلية إلى درجة أعلى في اقتحامها مجمل البنية اللبنانية ومعها الاجتماع اللبناني. انتقل الخطاب السياسي إلى مستوى مروّع من الشحن الطائفي والمذهبي الذي لم يسبق أن عرفه لبنان منذ إعلان كيانه مطلع القرن العشرين. سادت لغة من إنكار متبادل وتخوين وعمالة واستخدم كل طرف الألفاظ والتعابير نفسها في وصف الآخر، لكأن "الوحدة اللبنانية" تحققت للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث عبر هذا الخطاب السياسي التخويني على المستويات القيادية والسوقية المبتذلة بين الجماهير المحتشدة في التظاهرات والمهرجانات والاعتصامات، وعبر وسائل الإعلام المرئية منها والمكتوبة.
 ولإعطاء هذا الشحن بُعداً أوسع، جرى استحضار موروثات ورمزيات من الصراع المذهبي المندلع منذ مئات السنين فحُقنت "الجماهير" بلغة غوغائية لا يحتاج حاملها إلى قرار ليتحول غضبه وتعبئته ناراً ضد الآخر. لذا لم يكن غريباً ولا مستهجناً أن يعرف البلد هذه الانفجارات العنفية. ولا يهم التدقيق في ما إذا كانت صادرة بقرار متعمّد أم بمبادرة خاصة، فهذه المقدمات تولد هذه النتائج. كما لن يكون مستهجناً أيضاً أن يتخذ هذا المسار منحى أكثر تصعيداً في المقبل من الأيام طالما أن آفاق التسوية لا تزال مقفلة، وخطاب الشحن الطائفي مستمر في الزعيق.
 بعيداً عن ادعاءات أقطاب السياسة والطوائف عن تجنب الحرب الأهلية، يعيش المواطن اللبناني هذه الحرب ويتلمّس مظاهرها على الأرض في كل مكان، وهو الذي خبرها ويعرف جوهرها أكثر بكثير من ممثليه السياسيين. يستحضر المواطن اليوم ويرى بأم عينه عودة المظاهر إياها من خطف على الهوية ونصب المتاريس بين الشوارع وداخل البنايات نفسها بعدما أوصل الانقسام المهذبي الحرب إلى داخل المنزل الواحد والعائلة الواحدة.
بات الاسم الذي يُحمل والكنية التي يُنتسب إليها والمنطقة التي يقام فيها ولون الثوب الذي يُلبس علامات وإشارات قد تتسبب في مصير المواطن سلماً أم موتاً.
وعاد الشباب اللبناني ليشكل وقوداً للحرب، فتحوّلت الجامعات معاهد لتخريج المقاتلين بدل حملة الشهادات العلمية. وبعد كل ذلك هل هناك من يقنع اللبنانيين بأنهم بعيدون حقاً عن حربهم الأهلية؟
لن يمكن اجتناب الذهاب إلى الهاوية التي يسير البلد حثيثاً نحوها من دون العودة إلى منطق الحوار والتوافق على تسوية سياسية بين قوى الصراع. لم يعد يفيد اللبنانيين ذلك النوع من التكاذب المشترك حول الوحدة الوطنية وأخاء أبناء البلد، فالانقسامات المذهبية والطائفية والسياسية تمعن في تهشيم هذا البلد شرقاً وغرباً وفي الطول والعرض.

في بعض  خصائص الاستقلالية اللبنانية

                                                       
شهد لبنان منذ  ثلاث سنوات احداثا دراماتيكية  بدأت باغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005، واعقبها    انسحاب للجيش السوري بعد تواجد امتد لثلاثة عقود. سبق الانسحاب  نزول جماهير غفيرة في 14 آذار مطالبة بهذا الانسحاب وجوابا عن مظاهرة نظمها مناصرو سوريا في 8 آذار تحت عنوان "الوفاء لسوريا". شكل تاريخ 14 آذار عنوانا يرمزمن قبل منظميه  الى تكون "حركة استقلالية" استقطبت قوى سياسية متنوعة الانتماءات السياسية والطوائفية خصوصا. لاح للكثير من اللبنانيين ان 14 آذاريمثل  مرحلة جديدة في حياة اللبنانيين عنوانها الرئيسي استعادة الاستقلال اللبناني وتأسيس حكم جديد بعيد عن الوصاية السورية، بعد ان استعاد لبنان ارضه المحتلة في  الجنوب اللبناني من الاحتلال الاسرائيلي عام 2000 . يطرح اللبنانيون اليوم سؤالا عن هذا الحلم مصحوبا بالشكوك الكبيرة عن امكان الوصول اليه في ظل الانحدار الذي ينزلق اليه الوضع اللبناني يوما بعد يوم. يستعيد المآل الذي اصاب حلم 14 آذار اسئلة سبق واثيرت عما اذا كان هذا الحلم يستند الى معطيات واقعية تتعلق بطبيعة القوى الحاملة له متصلة بالتناقضات الداخلية وبفعل القوى الخارجية، ام انه حلم بمعنى الكلمة الحقيقي وطموح يقع خارج الامكانات اللبنانية الحقيقية؟ تسمية 14 آذار بالحلم هي تسمية واقعية، لكن السؤال والنقاش حوله يفترض استعادةالمقدمات والوقائع معطوفة على  الصعوبات والمعطيات التي شكلت وما تزال سدودا في تحقيق هذا الحلم الاستقلالي
.
 مقدمات ووقائع 14 آذار 2005
 يصعب فهم االتطورات التي عرفها لبنان في الربع الاول من العام 2005 من دون العودة الى احداث جرت خريف العام 2004 تاريخ صدور القرار الدولي رقم 1559.  جاء القرار عشية اصرار النظام السوري التمديد لرئيس الجمهورية اميل لحود ونص على اجراء انتخابات دستورية وديمقراطية للرئيس، لكن الاهم من ذلك هو الدعوة لانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد مرور ثلاثين عاما على وجوده. لم يأت القرار 1559 من فراغ، فقد فرضته الولايات المتحدة في سياق سياسة جديدة في المنطقة العربية بدأتها بعد هجمات الحادي عشر من  ايلول عام 2001 وقضت بالتدخل الاميركي المباشر في المنطقة وقيادة عمليات التصدي للارهاب مباشرة، وهو ما وجد ترجمته في حربي افغانستان والعراق. كان القرار يعلن صراحة نزع الوكالة السورية عن السيطرة على لبنان بعد توكيل اميركي في الاساس متعدد المرات بدأ عام 1976 وتجدد عام 1989 . في المقابل، رأت سوريا في القرار وسيلة للحد من دورها الاقليمي القائم على التدخل في قضايا المنطقة ومساً بنظامها الذي ربطت مصيره  بوجودها في لبنان والهيمنة على مقدراته.
 هكذا كان لبنان خريف العام 2004 في مواجهة خطتين اصليتين يهدف كلاهما المس بسيادة البلد والتلاعب بمصيره وكيانه. هناك من جهة الخطة الاميركية الساعية الى وضع دول المنطقة تحت هيمنتها المباشرة واخضاع الانظمة لسياستها في المنطقة ومن ضمنها لبنان، وهناك في المقابل الخطة السورية الساعية الى ضمان هيمنتها على البلد والتلاعب بمصيره. لذا شكل البلد ساحة صراع للمشروعين اللذين يستند كل واحد منهما الى قوى داخلية لبنانية. في مواجهة الخطة الاميركية، وسعيا الى منع اي تحرك لبناني مناوئ للوجود السوري، استخدم النظام السوري سياسة ارهاب اللبنانيين عبر سياسة الاغتيال، بدأها بمحاولة قتل النائب مروان حماده وتوجها باغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في 14 شباط من العام 2005 .
 خلافا لكل الاغتيالات التي سبق ونفذها النظام السوري في حق قيادات لبنانية، شكل اغتيال الحريري مناسبة لتفجر غضب شعبي لبناني لم يسبق له مثيل، جرى التعبير عنه في تشييع الحريري الذي شهد اكبر حشد جماهيري مندد بالنظام السوري ومطالب بانسحاب القوات السورية من لبنان فورا، وهو حشد ضم طوائف اسلامية ومسيحية. تجدد هذا الحشد في 14 آذار في المظاهرة المليونية رفضا لبقاء سوريا واستكارا للمظاهرة التي نظمت دفاعا عنها.
 شكلت المظاهرات الشعبية عنصرا مساعدا في دفع المجتمع الدولي وخصوصا القرار الاميركي في التعجيل بانسحاب الجيش السوري من لبنان ربيع العام نفسه. اعتبر الانسحاب نصرا لبنانيا بامتياز رأى فيه كثيرون ما يشبه الحلم الذي كان في نظر اللبنانيين بعيد المنال قبل اشهر. تعاطت القوى المنظمة لتظاهرات 14آذار مع الانسحاب على انه اتى نتيجة لتحركها في الشارع، متجاهلة ان الانسحاب السوري سبق ونص عليه القرار1559 والذي كان يستحيل تطبيقه من دون الضغط الدولي الخارجي ، فيما شكل التحرك الجماهيري الداخلي عنصرا مساعدا في تسريع هذا الانسحاب. تكتسب هذه النقطة اهميتها نظرا الى تغييب خطاب 14 آذار لهذا العنصر المقرر والتركيز على ان تحركاتها كانت وراء خروج الجيش السوري من لبنان. كما يجب ايلاء هذه النقطة اهمية بالنظر الى ان لبنان كان ولا يزال تحت هجوم المشروعين السوري والاميركي واستخدامهما له ساحة تصفية صراعات شهد البلد ذروتها في حرب تموز عام 2006 ويشهد اليوم فصولا جديدة منها من خلال معركة رئاسة الجمهورية.
 ضياع فرصتين استقلاليتين
  من حق اللبنانيين اليوم ان يقلقوا على مصير بلدهم وعلى استقلاله المهدد. لكن على اللبنانيين ان يتذكروا ان البلد اضاع  فرصتين استقلاليتين خلال خمس سنوات. كانت الفرصة الاولى عام 2000 عندما اجبرت اسرائيل على الانسحاب من الجنوب اللبناني تحت وطأة المقاومة المسلحة، ومن دون ان تفرض على لبنان اي نوع من الاتفاقات السياسية التي تمس استقلاله. ما زال السؤال مطروحا عن الاسباب التي منعت ان يكون الانسحاب عنصر تزخيم للوحدة اللبنانية وعاملا مساعدا في تكريس استقلاله ووفاق قواه السياسية. يتصل الامر بعاملين اساسيين، الاول ان الهيمنة السورية على لبنان آنذاك رأت في الانسحاب الاسرائيلي عنصرا افقدها استخدام الساحة اللبنانية ارض حروب بديلة تخوضها مع اسرائيل وتساوم من خلالها على ما يحقق مصالحها، لذلك شككت بالانسحاب واعتبرته غير مكتمل لان مزارع شبعا ماتزال تحت الاحتلال، وهي مزارع لبنانية الاصل سبق واحتلتها سوريا في الخمسينات ثم احتلتها اسرائيل في حرب 1967عندما استولت على اراضي الجولان. هكذا وضع لغم في وجه انجاز الانسحاب ستكون له نتائج داخلية بعيدة المدى. اما العامل الاخر الذي منع توظيفه استقلاليا فيتصل بطبيعة القوى الطائفية التي قام على عاتقها التحرير في محطته الاخيرة ومشروعها الداخلي والخارجي، والمقصود هنا حزب الله. خارجيا، يعتبر حزب الله نفسه جزءا من مشروع اقليمي ايراني-سوري، ويصنف نفسه في خانة القوى الاسلامية الساعية الى مشروع يتجاوز لبنان ويطال المنطقة العربية وحتى العالم الاسلامي، ويرى ان قتال اسرائيل والولايات المتحدة المتواصل عنصر دائم  في مكونات مشروعه. يعني ذلك ان لبنان ورغم الانسحاب الاسرائيلي منه يجب ان يبقى ساحة صراع مفتوح مع اسرائيل بصرف النظر عن الوضع العربي وعما يستطيع لبنان ان يتحمله منفردا في قتاله لاسرائيل. لذلك جعل حزب الله من مزارع شبعا عنوانا لاستكمال الصراع المفتوح مع اسرائيل وعلق الاجتماع اللبناني بانتظار حل هذه القضية، في وقت كان يمكن اعتبار قضية المزارع قضية حدودية للبنان الحق الكامل بها، لكن يمكن ان  ينطبق عليها اتفاق الهدنة كما هو حاصل في الجولان السوري. يضاف الى هذا التوجه اقليميا، جرى توظيف الانسحاب في سعي الى تغيير المعادلة الداخلية عبر استقواء هذه الفئة بسلاحها لفرض شروطها على الوضع الداخلي وتعطيل الحياة السياسية والاقتصادية وترهيب القوى السياسية، وهو امر تزداد ترجمته على الارض منذ حرب تموز وصولا الى الانقلاب الداخلي والسعي الى اسقاط الحكومة بالقوة.
 اما الفرصة الاخرى التي اضاعها اللبنانيون استقلاليا فهي فرصة الانسحاب السوري من لبنان والتي كان يمكن ان تكون مناسبة توحيدية لبنانية بامتياز. اضاعها اللبنانيون تحت وطأة الانقسام الداخلي والصراع الطوائفي على موقع لبنان الاقليمي وعلى نظامه السياسي. يشكل الهجوم السوري المعاكس المفتوح ضد لبنان منذ اكثر من عامين ذروة هذا الضياع وتعبيرا عن عجز اللبنانيين عن الافادة من المعطيات التي توفرت لهم في معركتهم الاستقلالية.اذا كانت الهيمنة السورية ومعها حزب الله ومشروعه الايديولوجي والسياسي مسؤولين عن ضياع فرصة الانسحاب الاسرائيلي، فالى اي مدى يمكن اعتبار قوى 14 آذار مسؤولة الى حد كبير عن ضياع فرصة الافادة من الانسحاب السوري؟ وهو امر يفتح مباشرة على قراءة "حركة الاستقلال" التي اتخذت يوم 14 آذار تأسيسا لها واعتبرت نفسها امينة على مطالب جماهيرها في انجاز الاستقلال الحقيقي.
 استقطابات طائفية وهجوم سوري معاكس
 هل شكلت حركة 14 آذار حركة استقلالية بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ في الجواب عن السؤال تكمن رؤية الحقيقي والوهمي في خطاب الحركة. يرى اقطاب هذه الحركة ان المقدمات النضالية التي خاضها بعض اقطابها ضد الهيمنة السورية معطوفة على الزخم الجماهيري الضخم الذي نزل الى الشارع سمح لها بتصنيف نفسها حركة استقلالية شعارها المركزي استعادة السيادة من الهيمنة السورية. لا يمكن الاستهانة بهذا النزول الجماهيري، ويجب ان يقرأ بايجابية بوصفه تعبيرا عن حيوية استثنائية ما يزال الشعب اللبناني يتمتع بها وباجياله المتنوعة على رغم كل سنوات القمع والاحباط التي اصابته من جراء الهيمنة السورية. لكن القراءة الموضوعية لتحرك الجماهير في تلك الفترة والاستقطاب السياسي الذي نشأ عنه وتكرس باسم تجمع 14 آذار، تفرض اعتباره عرض قوة من جانب الطوائف اللبنانية المسيحية التي عانت التهميش الواسع والسنية التي اغتال النظام السوري قائدها بما افقدها اي عقلانية، ثم من الدرزية السياسية التي سبق واغتيل قائدها كمال جنبلاط. هذا من دون الغاء قوى ديمقراطية ومستقلة متنوعة، انما لا يشكل وجودها عنصرا متميزا في ظل الطوفان الطوائفي المحتشد في ساحات بيروت. لم يكن التحرك الجماهيري آنذاك تعبيرا عن قيام حركة استقلال بمقدار ما كانت لحظة اقرب الى وحدة عاطفية التقت حول جثمان الرئيس الحريري اكثر منها لحظة تأسيس استقلال فعلية. بل انها عمليا كانت تعبيرا حقيقيا عن الصراعات الطوائفية والتبدلات التي حصلت في توازناتها املاها زوال الهيمنة السورية عن البلاد. لا ينفي كل ذلك ان هذا الاستقطاب دفع اثمانا غالية من الضحايا التي اصابته اغتيالا من جراء شعاراته الاستقلالية. 
 مقابل الاستقطاب الطائفي الذي مثله معسكر 14 آذار، نشأ معسكر طائفي آخر تحت اسم 8 آذار مكون من  غلبة شيعية يشكل حزب الله قوتها  الضاربة مضافا اليه حركة امل، وتضم في صفوفها طوائف اخرى مسيحية وسنية، طرحت داخليا مشروعا سياسيا اساسه ابقاء لبنان ساحة مقاومة مفتوحة ضد اسرائيل بما في ذلك تعليق الاجتماع اللبناني ومنع تكون الدولة وابقاء منطق الدولة ضمن الدولة، يترافق ذلك مع وجهة في تعديل المعادلة الطائفية الداخلية التي سبق ان كرسها اتفاق الطائف لجهة المناصفة بين المسيحيين والمسلمين نحو مثالثة بين الطوائف الرئيسية السنية والشيعية والمسيحية خارجيا. كان اقطاب معسكر 8 آذار صريحين بالانتماء الى مشروع اقليمي عماده سوريا وايران وتمثيل مصالحهما في الداخل بما فيه توظيف الساحة اللبنانية في صراعات هذين الطرفين الاقليمية والدولية.
  هكذا بعد الانسحاب السوري تكون استقطابان طائفيان يمثل كل طرف منهما كتلا شعبية اساسية وتوازنا صريحا في القوى على الارض. صحيح ان معسكر 14 آذار كان الاقرب الى منطق بناء دولة منه الى معسكر 8 آذار، لكن ذلك لا يعطيه صفة حامل مشروع بناء الدولة على حساب منطق المحاصصة الطائفية. وبما ان النقاش يدور حول تبخر حلم استقلال 14 آذار، فلا بد ان يتركز النقاش حول المشروع الذي قاد به هذا المعسكر سياسته خلال السنتين والنصف من حكمه للبلد.
 ادت الانتخابات النيابية الى تسلم معسكر 14 آذار الحكم بغلبة واضحة في الحكومة والبرلمان. في الوقت نفسه بدأ النظام السوري هجومه المعاكس على الساحة اللبنانية تحت عنوان واضح قوامه الاطاحة بالانجاز الذي تحقق جراء انسحابه وادخل تعديلا على موازين القوى الطائفية لغير صالحه، اضافة الى ايقاف نشوء المحكمة الدولية التي ستنظر في اغتيال الرئيس الحريري وسائر الشهداء بعده. استند النظام السوري على حلفائه في معسكر 8 آذار لتنفيذ مشروعه في اعادة هيمنته على البلد. تسأل قوى 14 آذار عن الخطة الوطنية الشاملة في مواجهة هذا الهجوم السوري المعاكس. لم يتمكن فريق الاغلبية طوال فترة حكمه من تكتيل اللبنانيين حول برنامج وطني شامل سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بما يسمح تحول هذا الفريق الى كتلة مهيمنة ليس بالمعنى الامني او السلطوي بل بمعنى القبول الطوعي بالخيارات الوطنية العامة. ظل هذا المعسكر اسير برنامج نقطته الاساسية المحكمة الدولية وتصعيد العداء ضد النظام السوري، وهو امر جعله يغيب عن طرح القضاياالاخرى الذي يتركز عليها خلاف اللبنانيين في الموقع الاقليمي للبلد وفي قضاياه الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث بدا هذا المعسكر يحكم البلد حكما فئويا.
  وضعت حركة 14 آذار امام اختبار التحول من اكثرية عددية الى اكثرية سياسية تبسط هيمنة مقبولة على البلد وتحول برنامجها الى برنامج وطني شامل فلم تفلح، هذا من دون التقليل من حجم صمودها وتقديم الضحايا في مواجهة اعادة البلاد الى سابق عهدها من الوصاية. اما في السياسة الخارجية، فقد  راهنت هذه القوى وبالغت في المراهنة على الخارج وخصوصا على الولايات المتحدة الاميركية وعلى  التدويل في حماية انجاز الانسحاب وتحقيق مطلب الاستقلال. كما ان البلد لا يحتمل ربط مصيره بالمشروع السوري الايراني، كذلك لا يمكنه المراهنة على السياسات الدولية خصوصا الاميركية منها في تقرير مصيره. صحيح ان لبنان منذ تأسيسه يحوي داخلا معطوفا على خارج، وعلى خارج مستند الى داخل، وان الخلل في تغليب الخارج كان ينعكس اضطرابا في البلد، الا ان المعركة الاستقلالية المطروحة يبقى شرط نجاحها في تأمين غلبة لهذا الداخل.
  في هذا المجال يجب التدقيق في التدويل وما اعطاه للبلد وما لا يمكن اعطاؤه .ان اسوا التصورات هي التي ترى ان التدويل يمكن له ان يحل مشكلات لبنان ويعيد اليه الاستقلال الكامل بما فيه تغليب فئة على اخرى. راهن فريق الاكثرية على هذا التدويل وانتقد كثيرون عدم فاعليته في وقف الهجوم السوري او في تمكينه من الغلبة على الفريق الاخر. لقد اعطى التدويل الشيء الاساسي للبنانيين ، اعطاهم الخروج السوري العسكري الى غير رجعة، واعطاهم تشكيل لجنة تحقيق دولية في اغتيال الرئيس الحريري وسائر الاغتيالات ومعها اقرار المحكمة الدولية، كما اعطى التدويل ضمان بقاء لبنان في حدوده الدولية المعترف بها. وهي امور تعتبر اقصى ما يمكن للتدويل ان ان يعطيه لاي بلد في العالم. يستحيل على التدويل ان ينوب عن قوى البلد الاصلية في الامساك بمقدراتهم السياسية والامنية، فهذه امور تتصل بمقدرة اللبنانيين على ادارة بلدهم وفي مدى توفر الاهلية الللبنانية للقيام بهذا الدور. لذا يمكن القول ان هذا النقص في الاهلية اللبنانية منع لبنان من الافادة مما اعطاه المجتمع الدولي ومن توظيفه حقا في تطوير الوضع الداخلي وتحقيق الوحدة الوطنية وتكريس الاستقلال اللبناني.
.من جانب آخر، تسأل حركة 14 آذار اكثر من معسكر 8 آذار عن السجال الفكري والثقافي المفترض اطلاقه في البلد تأسيسا للبنان جديد. لم تنطلق نقاشات حول هوية البلد وكيانه ودوره وتاريخه ومدى الاندماج الاجتماعي فيه ونظامه السياسي والاقتصادي، كما لم يشهد سجالا حول مقاربات للطائفية بوصفها نظام حياة اللبنانيين، او للديمقراطية وخصوصياتها اللبنانية. اما في الميدان الثقافي، فلم تواكب "حركة الاستقلال" نشاطا ثقافيا يبلور مفاهيم مختلفة عن الثقافات التي انتجتها الطوائف وكرست قيمها في المجتمع.  شهدنا مشهدا مشتركا لدى الاستقطابين "الآذاريين" من حيث التحاق نخبها الثقافية بالطوائف وتقديم اسوأ النتاجات في هذا المجال.كما ان الخطاب الايديولوجي والشعارات السياسية المواكبة له كانت تحمل الاسفافات نفسها لدى الاستقطابين بحيث يصعب على المواطن اللبناني تمييز خطاب طائفي عن أخر.
 في صميم معركة الاستقلال
 كان لبنان وما يزال في صميم معركة استقلاله الذي يبقى المفاعل المقرر لمعالجة مشكلاته وتحقيق عروبته المتوازنة وانجاز تطوره الديمقراطي وتجديد حياته الثقافية. تفترض المعركة الاستقلالية تعيين عدد من القضايا التي تشكل مفاتيح مقررة في الوصول الى حالة استقلالية بحدها الادنى، وهي مسائل داخلية وخارجية. اول المسائل تتصل باتفاق اللبنانيين على الموقع الاقليمي للبلد، بما يعني الحفاظ على نقطة التوازن في علاقاته العربية، وفي موقعه ضمن الصراع العربي الاسرائي وتعيين الحد الفاصل بين ما يستطيعه البلد في مواجهة اسرائيل او سلام لا يستطيعه. شكل الاختلال في الموقع الاقليمي للبلد منذ استقلاله عنصر اضطراب في حياته السياسية الداخلية ترجم اضطرابا امنيا عام 1958 عندما حاول الحكم الاخلال بالتوازن عبر ربط لبنان بمشروع ايزنهاور، ثم عاد فاختل عام 1975 عندما جرى تحميل الساحة اللبنانية فوق ما تستطيع في دعم المقاومة الفلسطينية  فدخل البلد في حرب اهلية، وعاد الانفجار الى التجدد مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان عندما جرى ربطه بالمشروع الاسرائيلي الاميركي في الداخل والخارج وفرض صلح مع اسرائيل. يتصل العامل الثاني في الطريق الى الاستقلال باتفاق اللبنانيين على اصول الصراع السياسي في بلدهم . اصاب الزلزال الذي ضرب البلد عبر الحروب الاهلية الداخلية منها والخارجية كل مكوناته، اصاب الزلزال النظام السياسي والكيان وقواعد الحياة الوطنية التي كان معمولا بها منذ الاستقلال، كما غير في التركيبة الاجتماعية والسياسية ولم يبق حيزا من الحياة اللبنانية الا واصابه التبديل او التغيير. مما يعني ان البلد يمر حقا في مرحلة اعادة التأسيس التي تعني الاستقلال بكل معنى الكلمة. اخطر التحولات الميدانية التي يشهدها لبنان اليوم  هو زحف الطوائف على النظام العام والاستيلاء على المشترك فيه وتحويل الدولة اللبنانية الى ظاهرة شكلية، بما يجعل البلد فيدراليات طوائف بكل معنى الكلمة. لم تكن الطوائف اللبنانية يوما بعيدة عن مواقع التقرير في البلاد، لكن فعلها ظل محكوما بالحدود التي يتيحها لها النظام السياسي. لكن السنوات الاخيرة المعطوفة على نظام المحاصصة الطائفية وقضم الطوائف تباعا لمواقع الدولة جعل منها السلطة الاقوى والمقررة في كل الشؤون الداخلية منها والخارجية. لا يمكن تحقيق استقلال لبناني في ظل تآكل الدولة وتغييبها من الوجود، حيث يشكل قيامها سلطة ومؤسسات الشرط الضروي لقيام وطن موحد. يفترض اتفاق اللبنانيين على اصول الصراع حول وطنهم ان يضعوا قضاياهم الخلافية على طاولة الحوار ، وهي قضايا تتناول كل شيء من السياسة الى الاقتصاد الى السياسات الاجتماعيةالى الثقافة وغيرها، ويتناقشوا حولها توصلا الى تسويات متتالية لابد ان تأخذ تباعا من مواقع الطوائف لحساب المشترك الذي هو الدولة. في هذا المجال، تقدم الحياة السياسية كل يوم نقصا فادحا في الاهلية اللبنانية عن ادراك ضرورة التسوية والسعي للوصول اليها، بل اننا امام منطقين في14 آذار و8 آذار لا يعطفان في برامجهما السياسية او في مسلكهما العملي على مصالح البلد المشتركة، حيث ما يزال كل طرف يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة والموقف السليم ويتهم الاخر بالارتباط الكامل بالخارج محاولا فرض برنامجه على مجمل البلد.
 تستدعي هذه النقطة قول كلمة في دعوة بعض اهل اليسار الى تجاوز النظام الطائفي وطرح تحقيق النظام العلماني مباشرة. ينطلق اصحاب هذه الدعوة من الطلب الى الطوائف ان تتخلى عن سلطاتها وتعطيها الى قوى غير طائفية، وهو امر ينم عن جهل في سياسات الطوائف وعن جهل اكبر في مدى وجود القوى الاجتماعية العابرة للطوائف، وهي قوى دمرتها الحرب الاهلية ووضعتها على الهامش. كما يتجلى الحهل في عدم ادراك ان المطلوب والممكن في التركيبة اللبنانية اليوم  هو التوصل الى تسويات طائفية متتالية تحد من غلواء الزحف الطوائفي وتسعى الى الوصول الى اقصى المشترك بين اللبنانيين، هذا من دون ان ننسى ان اصحاب دعوة الغاء النظام الطائفي اليوم هم اكثر القوى التحاقا بالطوائف والاندماج في سياساتها، وهو التحاق من هذه القوى اليسارية في فريقي الاكثرية والمعارضة على السواء.
 يندرج الكشف عن الحقيقة في اغتيال الرئيس الحريري وما تبعه من اغتيالات في صميم معركة استقلال البلد. يستحيل على لبنان المستقل ان يكون في حالة عداء مع سوريا، مما يعني ان سلامة العلاقة لا يمكن ان تقوم من دون جلاء حقيقة الاغتيال ومعاقبة من امر به، وهو امر يطال الحكم في سوريا مباشرة. شكل الاغتيال السياسي احد الادوات الرئيسية في سياسة النظام السوري لفرض هيمنته على البلد وترهيب قواه السياسية منذ ان بدأ هذا المسار مع اغتيال كمال جنبلاط عام 1977 . وساعدت سياسة الاغتيال في تقويض الاستقلال اللبناني وشل حياة البلد السياسية، لذا يعتبر الاصرار على كشف الحقيقة في اغتيال الحريري وسيلة اساسية في وضع حد لقتل اللبنانيين المعارضين للسياسة السورية، مما يعني ان الاصرار على قيام المحكمة الدولية لمحاكمة القتلة يكتسب معنى سياسيا بامتياز اكثر من كونه موضوعا قضائيا.
هل يعني ذلك استحالة تحقق حلم الاستقلال؟ لن يتحقق الاستقلال النهائي الذي يضمن تجاوز النظام اللبناني الطائفي ويعيد الى اللبناني موقعه كمواطن مستقل الا عبر قيام حركة استقلالية لبنانية شاملة من القوى العابرة للطوائف والمتكونة في احزاب سياسية وفي مؤسسات مهنية غير طائفية ونقابات تضم القوى العاملة في المجتمع، وعبر تكون كتل من النخب الثقافية والسياسية تؤسس لثقافة ديمقراطية تميز بين الدين كمعطى اجتماعي وانساني وبين وضع الدين في خدمة صراعات القوى السياسية. انه الحلم بتحقيق مشروع نهضوي شامل في البلد يبدو حتى اليوم حلما بعيد المنال، لكنه يظل الشرط الضروري لتحقيق حلم الاستقلال.

 .





هناك 74 تعليقًا:

  1. تحية من ترتيب العظماء إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوة من المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وكذلك حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة والقوة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 800،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم الحصول عليها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية قدرها 800000 دولار أمريكي.
    2. سيارة دريم جديدة أنيقة تبلغ قيمتها 190.000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره
    4. دفع شهري قدره 2،400،000 دولار أمريكي في حسابك المصرفي كعضو
    5. جواز سفر دبلوماسي للسفر إلى أي بلد من اختيارك وغيرها الكثير
    6. شهر المواعيد مع 5 الأفضل في العالم. قادة و 5 من أشهر المشاهير في العالم.

    ملحوظة؛ يمكنك الانضمام إلى الأخوة المتنورين من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، إفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،

    ملاحظة: إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بنا عبر البريد الإلكتروني: illuminatitemple9102@gmail.com

    تحية التنوير تيمبل الولايات المتحدة

    ردحذف
  2. تحية من الترتيب العظيم للإضاءة إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، إنها فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان المسلمين لإلقاء الضوء على أحلامك حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 550،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا إلى منزل من اختيارهم وموقعهم من خلال الاستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية بقيمة 550،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  3. تحية من الترتيب العظيم للإضاءة إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان المسلمين لإلقاء الضوء على أحلامك حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 550،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا إلى منزل من اختيارهم وموقعهم باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية بقيمة 550،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبدة تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  4. تحية من الترتيب العظيم للإضاءة إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان المسلمين لإلقاء الضوء على أحلامك حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 550،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا إلى منزل من اختيارهم وموقعهم باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية بقيمة 550،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبدة تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  5. تحية من الترتيب العظيم للإضاءة إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان المسلمين لإلقاء الضوء على أحلامك حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 550،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا إلى منزل من اختيارهم وموقعهم باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية بقيمة 550،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبدة تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  6. تحية من الترتيب العظيم للإضاءة إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان المسلمين لإلقاء الضوء على أحلامك حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا إلى منزل من اختيارهم وموقعهم باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبدة تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  7. تحية من ترتيب العظماء إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوة من المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وكذلك حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 500،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية قدرها 500000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تبلغ قيمتها 200000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره وغيرها الكثير

    ملحوظة؛ يمكنك الانضمام إلى جماعة الأخوان المتنورين من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، إفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،

    ملاحظة: إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بنا عبر بريدنا الإلكتروني: illuminatibrotherhood1919@gmail.com

    تحية المعبدة تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  8. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  9. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  10. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  11. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  12. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  13. انضم إلى المتنورين اليوم للحصول على المال وكن غنياً إلى الأبد. يتم منح الفوائد والمكافآت النقدية لجميع الأعضاء الجدد. المكافآت النقدية 560،000 دولار والدفع الشهري 8000 دولار. اكتب لي على WhatsApp +1(806)305-9914 ، أو البريد الإلكتروني: illuminatistar6666@gmail.com. لا تفشل في رؤية الضوء والمال في 3 أيام.

    ردحذف
  14. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  15. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  16. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  17. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  18. ينتمي إلى المتنورين اليوم والبحث عن النور. أصبح المال والقوة والشهرة والثروة ملكك على مدار جيلك وشاهد كيف تتحقق أحلامك. إذا كنت مهتمًا بالانضمام إلى المقر الرئيسي لترتيب Illuminati في جميع أنحاء العالم في (الولايات المتحدة الأمريكية) ، راسلنا عبر البريد الإلكتروني اليوم. البريد الإلكتروني: illuminatiworldwideorder@gmail.com
    أو ما هو التطبيق لنا .. +19292811087

    لبدء الخاص بك على الانترنت.
    لا يهم أين أنت. لا يمكن أن تؤثر على مسافة عمل baphomet لدينا.

    ملاحظة .. نحن لا نقبل مكالمة whatsapp.

    ردحذف
  19. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  20. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  21. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  22. تحيات من النظام العظيم للإله الموحدين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 700،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 700000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 250،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع أفضل 5 شركات في العالم. لدفع البوهيمي غروف شهريًا بقيمة 1،000،000 دولار أمريكي إلى حسابك المصرفي كل شهر كعضو ، القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminatiorder682@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  23. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  24. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  25. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  26. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  27. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  28. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  29. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  30. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  31. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  32. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  33. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  34. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  35. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  36. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  37. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ، دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  38. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com
    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  39. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  40. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  41. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  42. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  43. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  44. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  45. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق = greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  46. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم العليا ، وكذلك حيث تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com


    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  47. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم العليا ، وكذلك حيث تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  48. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، وهذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ، واكتسبت شهرة تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  49. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  50. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، وهذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ، واكتسبت شهرة تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  51. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  52. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، وهذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ، واكتسبت شهرة تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  53. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، وهذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ، واكتسبت شهرة تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف

  54. الأخبار الرسمية لإلنورينيتي خبر سار لعامة الناس إنها حقيقة معروفة أن البناء الحر / الإلومينيتي يتكون من مليونيرات متعددة ، المليارديرات الذين
    لها تأثير كبير على معظم الشؤون العالمية ، بما في ذلك التخطيط لنظام عالمي جديد. العديد من قادة العالم ، والرؤساء ، ورؤساء الوزراء ، والملوك وكبار المسؤولين التنفيذيين لكبرى شركات Fortune 500 هم أعضاء في البناء الحر. الآن ، ولأول مرة في التاريخ ، نفتح أبوابنا للجماهير. إذا كنت ترغب في الانضمام إلى البناء المجاني ، للعضوية ، اتصل بي هنا في illuminatibrotherhood1987@gmail.com

    تحياتي الحارة

    ردحذف
  55. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  56. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، وهذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ، واكتسبت شهرة تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  57. تحية من ترتيب العظماء إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوة من المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وكذلك حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 500،000 دولار أمريكي للترحيب بجميع الأعضاء الجدد وهم ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلى مرحلة التنوير.
    1. مكافأة نقدية قدرها 500000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تبلغ قيمتها 200000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره وغيرها الكثير

    ملحوظة؛ يمكنك الانضمام إلى جماعة الأخوان المتنورين من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، إفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،

    ملاحظة: إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بنا عبر بريدنا الإلكتروني: illuminatibrotherhood1987@gmail.com

    تحية المعبدة تضيء الولايات المتحدة

    ردحذف
  58. تحيات من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، الملياردير ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ومثلهم ، وحصلت أيضا تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  59. تحية من ترتيب ILLUMINATI إلى جميع أنحاء العالم ، وهذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى BROTHERHOOD من ILLUMINATI حيث الملايين ، المليارديرات ، العالم ، نجوم العالم وقادة العالم الذين يسيطرون على العالم ، واكتسبت شهرة تستطيع أن ترى نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com

    ملاحظة: يرجى العلم أنه مع احترام دينك ومكان وجودك في العالم ، فنحن نرحب بك لتكون عضوًا.

    تحية طيبة تنوير النظام العالمي الجديد.

    ردحذف
  60. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة.

    ردحذف
  61. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة.

    ردحذف
  62. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة.

    ردحذف
  63. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة.

    ردحذف
  64. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة.

    ردحذف
  65. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة.

    ردحذف
  66. تحية من نظام التنوير الكبير إلى الولايات المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى جماعة الأخوان من التنوير حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. وعلى مر السنين لدينا قادة العالم ، المليونيرات ، المليارديرات ، العلماء ، النجوم وجميع أعمال الحياة ، فأنت مرحب بك في جميع أنحاء العالم في كل من سباق الخاص بك ، والدين والعرق نرحب بكم في قاعة الشهرة والثروة.
    يرجى الكتابة لنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    تحية المعبد مضيئة في الولايات المتحدة

    ردحذف
  67. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة بدون أي تضحية بالدم. نحن نرحب بجميع الأعضاء الجدد وبفوائد شهرية حيث ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات وهذا هو المكان الذي يتم فيه إعداد قادة العالم والنجوم البارزين والعالم مع هذه الفرصة في الحياة من أجلك أن تكون مشهورة في كل منكم العرق والعرق.

    ملاحظة: يرجى الاتصال بنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    معبد كبير مضيئة من الولايات المتحدة.

    ردحذف
  68. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة بدون أي تضحية بالدم. نحن نرحب بجميع الأعضاء الجدد وبفوائد شهرية حيث ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات وهذا هو المكان الذي يتم فيه إعداد قادة العالم والنجوم البارزين والعالم مع هذه الفرصة في الحياة من أجلك أن تكون مشهورة في كل منكم العرق والعرق.

    ملاحظة: يرجى الاتصال بنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    معبد كبير مضيئة من الولايات المتحدة.

    ردحذف
  69. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة بدون أي تضحية بالدم. نحن نرحب بجميع الأعضاء الجدد وبفوائد شهرية حيث ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات وهذا هو المكان الذي يتم فيه إعداد قادة العالم والنجوم البارزين والعالم مع هذه الفرصة في الحياة من أجلك أن تكون مشهورة في كل منكم العرق والعرق.

    ملاحظة: يرجى الاتصال بنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    معبد كبير مضيئة من الولايات المتحدة.

    ردحذف
  70. تحية من النظام العظيم للمتنورين إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وأيضًا حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة بدون أي تضحية بالدم. نحن نرحب بجميع الأعضاء الجدد وبفوائد شهرية حيث ينضمون إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات وهذا هو المكان الذي يتم فيه إعداد قادة العالم والنجوم البارزين والعالم مع هذه الفرصة في الحياة من أجلك أن تكون مشهورة في كل منكم العرق والعرق.

    ملاحظة: يرجى الاتصال بنا على البريد الخاص بنا: greatilluminate99@gmail.com

    معبد كبير مضيئة من الولايات المتحدة.

    ردحذف
  71. تحية من النظام العظيم للإله إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وكذلك حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  72. تحية من النظام العظيم للإله إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وكذلك حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  73. تحية من النظام العظيم للإله إلى الدولة المتحدة وجميع أنحاء العالم ، هذه فرصة مفتوحة للانضمام إلى أخوة المتنورين حيث يمكنك استعادة أحلامك المفقودة ، وكذلك حيث يمكنك رؤية نور الثروة والسعادة دون أي تضحية بالدم. ونحن ندفع أيضًا مبلغ 650،000 دولارًا أمريكيًا للترحيب بجميع الأعضاء الجدد عند انضمامهم إلى الأخوة وأيضًا منزلًا يختارونه وموقعه باستثمارات ، إلى جانب هذه الفرصة في الحياة ليصبحوا مشهورين.

    الفوائد التي تم منحها لأعضاء جدد ينضمون إلومينياتي.
    1. مكافأة نقدية قدرها 650،000 دولار أمريكي.
    2. سيارة حلم جديدة أنيقة تقدر قيمتها بـ 150،000 دولار أمريكي
    3. منزل الأحلام اشترى في البلد الذي تختاره.
    شهر من المواعيد مع 5 الأفضل في العالم.
    القادة و 5 من أهم المشاهير في العالم. إذا كنت مهتمًا ، فيرجى الاتصال بعنوان البريد الإلكتروني السابق: greatilluminate99@gmail.com



    ملحوظة؛ هذه الأخوة المتنورين التي يمكنك الانضمام إليها من أي مكان في العالم ، الهند ، تركيا ، أفريقيا ، الولايات المتحدة ، ماليزيا ،
    دبي ، الكويت ، المملكة المتحدة ، النمسا ، ألمانيا ، أوروبا. آسيا ، أستراليا ، إلخ ،


    تحية المعبد الانارة الولايات المتحدة

    ردحذف
  74. مرحبًا بكم في الأخوة المتنورين ، حيث يمكنك أن تصبح غنيًا وشهريًا وقصة حياتك ونحن نتغير تمامًا. اسمي هاريسون أنا هنا لأشارك في شهادتي حول كيفية انضمامي إلى الأخوة العظمى المتنورين وكانت قصة حياتي تتغير على الفور. كنت فقيرًا جدًا ولا وظيفة ولا أملك حتى المال لإطعام أسرتي والعناية بها ، كنت في حيرة من أمري ، وأنا لا أعرف ماذا أفعل وأبذل قصارى جهدي للحصول على المال ولكن لا أحد يعمل معي في اليوم الذي أشارك فيه الدموع ، كنت أبحث عن عائلتي أي أموال لرعايتهم حتى يوم واحد قررت الانضمام إلى المتنورين العظيمين ، واجهتهم عبر الإنترنت ، لم أكن أصدق أنني قلت ، اسمح لي أن أحاول إرسال بريد إلكتروني إليهم. إن ما قالوه إننا نحدث في حياتي بدأ للتو كان مثل حلم لي يغيرون قصتي حقًا. يعطيني مبلغ 500،000،000 دولار والكثير من الأشياء. من خلال المتنورين ، تمكنت من أن أصبح أغنياء ، وأصبح لدي الكثير من الصناعة لوحدنا وأصبحت مشهورة وشعبية في بلدي ، واليوم أنا وعائلتي يعيشون بسعادة وأنا أسعد رجل هنا هي الفرصة لك للانضمام إلى المتنورين وتصبح غنية ومشهورة في الحياة وتكون مثل الآخرين وأنت الحياة سنكون التغيير تماما. إذا كنت مهتمًا بالانضمام إلى الأخوة العظمى المتنورين ، فاتصل بهذا الرقم أو اتصل على whatsapp +16822060873 أو عبر البريد الإلكتروني derrickloe12@gmail.com

    ردحذف